يمثل نظام الإجراءات الجزائية الصادر عام 1422ه نقلة نوعية متقدمة «جداً» في تطوير الإجراءات الجنائية بالمملكة، وله أهمية بالغة في ضبط سياسة «التجريم والعقاب» لأنه عبارة عن مجموعة من القواعد التي تبين الوسائل والإجراءات التي تؤدي إلى الكشف عن الجريمة، وتعقب مرتكبها، والتحقيق معه، ومحاكمته، وتنفيذ العقوبة عليه، كما يحدد قواعد الاختصاص في الاستدلال، والتحقيق، والادعاء، والمحاكمة، والتنفيذ. وتأتي أهميته كذلك من كونه يرسم الطريق الذي يكفل للدولة حقها في عقاب المجرم من غير إخلال بالضمانات الجوهرية التي تمكن البريء من إظهار براءته، وضمان حصول المجني عليه على حقوقه، ومن هنا يشكل هذا النظام الرابطة الضرورية بين الجريمة والجزاء. وإذا كان هذا النظام استمد قوته من مصادر الشريعة الإسلامية فإنه بذلك يحتل مكانة متميزة حتى بالنسبة لأحدث التيارات الفكرية المعاصرة، فهو يجعل من الإنسان غاية، ومن حفظ حقوقه مطلباً، ومن توفير الضمانات الكافية له مطمحاً، لاسيما في الوقت الذي بدأ يتجه فيه القانون الجنائي نحو المناداة بتبني نظام للتجريم والعقاب شبيه بالنظام الذي تأخذ به الشريعة الإسلامية، وبدأت الدعوات العلنية والصريحة تنادي بالمرونة والخروج على قاعدة «أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» بالقدر الذي لا يجعل النظم الجنائية نصوصاً جامدة، لا تستطيع مواجهة الإجرام الذي يزداد تفاقماً وانتشاراً، وهذا ما نلمسه في الوقت الراهن عندما وقفت بعض الدول عاجزة عن تكييف بعض الوقائع الإجرامية التي حدثت مؤخراً، وأعملت فكرها واجتهادها بالتأويل وإيجاد المسوغات اللازمة لتحديد الوصف الجرمي لبعض الأفعال التي وقعت، مما اضطرها إلى الازدواجية في المعاملة، وتعرض أجهزتها العدلية ومؤسساتها للنقد والاتهام بالتعسف في استعمال السلطة وانحرافها. نعم لقد جاء نظام الإجراءات الجزائية بالمملكة متميزاً بخصوصية فريدة، تجعله غير مسبوق إلى بعض الجوانب التي عالجها في قاعدة التجريم والعقاب، حيث نظم إجراءات الدعوى الجنائية بصورة واضحة لا لبس فيها، ولم يترك مجالاً للاجتهاد والتأويل، بل أسبغ عليها صفة الشمول، وجعل مواده يفسر بعضها بعضاً في إطار شرعي ونظامي سليم. وإذا كان الدعوى الجنائية تتطلب كل هذا الضبط وهذه القوة في الإجراءات فإن ذلك مرده أصلاً إلى حماية حقوق الإنسان وعدم المساس بكرامته، واعتباره بريئاً حتى تثبت إدانته، فأصبح هذا النظام من أقوى الأنظمة وأهمها في حياة الناس، وفي تنظيم سلطة الدولة وحقها في العقاب وملاحقة المجرمين، وقد نصت المادة الثانية منه على أنه «لا يجوز القبض على أي إنسان أوتفتيشه أو توقيفه أو سجنه إلا في الأحوال المنصوص عليها نظاماً.. ويحظر إيذاء المقبوض عليه جسدياً أو معنوياً، كما يحظر تعريضه للتعذيب أو المعاملة المهينة للكرامة». ثم أكدت المادة الثالثة على :«أنه لا يجوز توقيع عقوبة جزائية على أي شخص إلا على أمر محظور ومعاقب عليه شرعاً أو نظاما، وبعد ثبوت إدانته بناء على حكم نهائي بعد محاكمة تجرى وفقاً للوجه الشرعي». فهذان النصان حددا القواعد الخاصة بالدعوى الجنائية، ورسما الخطة اللازمة لإقامتها، والإطار العام لها، ثم جاءت نصوص النظام متسلسلة تبين كيفية رفع الدعوى وانقضائها وإجراءات الاستدلال والقبض والتفتيش وإجراءات التحقيق، وعندما وصل الإجراء إلى «موضوع التوقيف» أحاط النظام هذا الجانب بسياج متين وضمانات قوية، حيث حدد كيفية الإيقاف، ومدته وصلاحية ممارسته، ونصت المادة «112» منه على أن «يحدد وزيرالداخلية بناء على توصية رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام ما يعد من الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف» فجاء هذا النص كنقلة نوعية في تنظيم إجراءات التوقيف وبموجبه صدر قرار سمو وزيرالداخلية رقم «1245» في 23/7/1423ه محدداً الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف، وقد أشار هذا القرار إلى «أربعة عشر» وصفا محدداً للجرائم، ومن يطلع عليه يدرك أن صياغته جاءت قوية ومتميزة، مما يعني أن فترة إعداده استغرقت وقتاً طويلاً من الدراسة والنقاش والبحث والتحليل، من أجل الوصول إلى تلك الأوصاف الجرمية الكبيرة الموجبة للتوقيف، وعندما صدر هذا القرار توقع البعض سواء من المختصين في الإجراءات أم من المطلعين بشكل عام أن هذا القرار جاء مختصراً جداً!!! وأنه لم يستوعب كافة الجرائم الداخلة في نطاق مايعرف بالجرائم الكبيرة، مما يترك مجالاً واسعاً للاختلاف والاجتهاد وتباين الآراء، ويساعد على توسيع قاعدة «الإطلاق» عند ارتكاب الجريمة!! كما أثار هذا القرار العديد من التساؤلات المتمثلة في: 1. هل يمكن حصر الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف؟ 2. هل الجرائم الواردة بهذا القرار هي المحددة «فعلاً» على سبيل الحصر؟ 3. هل تسبب هذا القرار في إخراج بعض الجرائم من دائرة التجريم؟ 4. ماذا عن الجرائم التي لم ينص عليها في هذا القرار؟ 5. ما الآثار الناتجة عن ذلك؟ 6. إلى أين سينتهي بنا المطاف في حالة التقيد بما ورد؟ وأسئلة أخرى متعددة؟ والحقيقة أن هذا القرار لم يهمل كل هذه الجوانب، لأن من يتعمق في قراءة نصه يدرك أن هذه الجرائم المحددة إنما تمثل الإطار العام للجريمة، من حيث جسامتها، وصياغتها ومدلول ألفاظها، ومفهومها في اللغة والاصطلاح الشرعي والنظامي، وعقوبتها وخطورتها وخطورة فاعلها، وأثر ذلك على المجتمع، وأن كل نص منها يؤخذ في مفهومه الشامل الذي تنطوي تحته كل الأوصاف الداخلة ضمن هذا المفهوم المحدد، وهذه طبيعة القواعد المنظمة حيث تشير إلى الأصل العام كأساس دون الدخول في التفاصيل المفهومة أصلاً من قراءة النص ومدلول اللفظ، إذ لو حددت كل الجرائم على سبيل «الوصف المستقل» لما استوعبها قرار واحد وبهذه الصورة الواضحة!!! وعليه فإنه ينبغي أن لا يؤخذ النص بصورته القريبة دون ربطه بمفهومه العام، فعندما ينص القرار -مثلاً- في الفقرة الأولى على: 1. جرائم الحدود المعاقب عليها بالقتل أوالقطع. فلا يعني هذا أن جرائم الحدود المعاقب عليها «بالرجم» خارجة عن هذا الإطار، وإنما هي داخلة فيه، لأن «الرجم» داخل أصلاً في معنى القتل. كذلك جرائم قطع الطريق، والاغتصاب، والاختطاق، ومهاجمة المنازل بالسلاح والسطو المسلح، والاعتداء على رجال السلطة بالسلاح، لا يمكن القول إن القرار لم يشملها، أو أنها غير داخلة في الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف، وإنما هي مشمولة فيه بالمفهوم لأنها تدخل ضمن صور حد الحرابة المعاقب عليها بالقتل أو القطع، والمشار إليه في الفقرة الأولى من القرار. أيضاً جرائم «السرقة» تدخل ضمن جرائم الحدود المعاقب عليها بالقطع. وأيضاً جرائم «السحر، والردة، وسب الذات الإلهية، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وسب الدين» جميعها تدخل ضمن جرائم الحدود المعاقب عليها بالقتل. وهكذا الحال في كل الجرائم التي تندرج ضمن المفاهيم العامة للوصف الكلي الذي يحكمها وإن لم ترد على سبيل التفصيل بالوصف الجزئي، لأن إدراج كل وصف بالجزء غير ممكن، وإنما العبرة بالوصف الكلي الذي تندرج في نطاقه تلك الجريمة الجزئية، وهذا هو المهم في الدعوى الجنائية. ومن هذا المنطلق يجب الوعي بأهمية نظام الإجراءات الجزائية، لكي يتم التكيف مع هذه النقلة النوعية التي جاء بها، وألا نتوقف على تلك الإجراءات التي كانت قائمة اعتقاداً بأنها الأفضل، لأننا الآن في مرحلة «التخصص»، وهذه المرحلة تتطلب الدقة في الأداء بما يضمن سلامة الإجراء المتخذ وعدم تعرضه للنقد أو البطلان!!!. إن أهمية قرار سمو وزير الداخلية تنطلق من أهمية نظام الإجراءات الجزائية نفسه وتظهر تلك الأهمية في ضبط «القاعدة العقابية» لترسم الوسائل اللازمة لتطبيقها على مرتكب الجريمة، أو المخل بالأمن، كما تحمي في الوقت نفسه مصلحة المتهم في حقه في الدفاع وتمكينه من إظهار براءته، لأنه مهما كانت النصوص واضحة وسهلة فإن ذلك لا يكفي وحده للوصول إلى الحقيقة إذا لم يحسن القائمون عليها تنفيذها واستيعابها بالصورة الجيدة!!! إن نقد الإجراءات، واتهامها بالقصور أوعدم الاستيعاب لكل متطلبات المرحلة القائمة يجب ألا يكون متسرعاً، وأن يكون مبنيا على أسس علمية وواقعية بعيداً عن التنظير والنقد من أجل النقد، أو القصور في المعرفة!!! لابد من استيعاب هذا «النظام» بصورة دقيقة حتى لا تكون الإجراءات المتخذة عرضة للاجتهاد الخاطئ، أو ذريعة لتعسف السلطة وانحرافها، وأن يتم التعامل مع الدعوى الجنائية وفق قواعد محددة وإجراءات سارية تطبق على الجميع بما يحقق العدل والمساواة، ومن هنا يجب على القائمين على تطبيق النظام في جميع مراحل إجراءاته أن لا يميزوا بين القاعدة «الموضوعية» في نظام التجريم والعقاب وبين القاعدة «الإجرائية» على أساس استخدام طرق القياس في تفسير النصوص، وإنما من خلال الالتزام بالقواعد التي تحكم كلاً منهما!!! ومتى أدركنا ذلك يتبين لنا هدف الشريعة الإسلامية عندما أحاطت حقوق الإنسان بسياج قوي من الضمانات، وقسمت الجرائم إلى حدود وتعازير بحيث تكون التعازير غير قابلة للحصر وإنما المعيار فيها جسامة الجريمة وتركت تقدير ذلك للقاضي. إن نظام الإجراءات الجزائية وما ترتب عليه من قرارات تنظيمية كشف الحاجة إلى ضرورة استيعاب النصوص التنظيمية بصورة عملية، كما كشف عدم القدرة على قبول التغيير، والتمسك بما تم التعود عليه حتى لو كان يتعارض مع المصالح والأهداف!! كما كشف هذا الفارق الكبير بين المفهوم النظري والواقع التطبيقي، ولعل ذلك أحد أسباب فشل معظم القرارات أو عدم فعاليتها!!! إن الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع أن قرار سمو وزير الداخلية نظم عملية التوقيف لأن التوقيف -أصلاً- إجراء استثنائي يجب عدم التوسع فيه، وحصره في حدود الضرورة، لأن الأصل شرعاً ونظاماً ألا يعاقب الشخص إلا بموجب حكم نهائي كما نصت على ذلك المادة «38» من النظام الأساسي للحكم، وكذلك المادة الثالثة من نظام الإجراءات الجزائية، والاتجاه الشرعي والنظامي هو أن التوقيف الاحتياطي «المؤقت» من الإجراءات الخطيرة التي تمس المتهم، وتقيد حريته، ولا يصح اللجوء إليه إلا في الحدود الضيقة جداً، ولايجوز أن نبالغ في إسباغ الصفات على كل الجرائم لتصل إلى مستوى الجرائم الكبيرة، وإنما يحكمنا في ذلك القواعد التي تكيف الوصف الجرمي، ومدى جسامته. إن هناك العديد من الدراسات والأبحاث العلمية المستخلصة من الواقع التطبيقي، والتي أجرتها بعض الدول وكذلك الأممالمتحدة تشير إلى أن هناك من يسرف في عملية «التوقيف» الاحتياطي وقد يستمر ذلك لمدة طويلة تصل إلى سنوات، بينما الموقوف قد يحكم عليه بمدة أقل، وقد يحكم له بالبراءة!!! إن التوقيف الاحتياطي ليس عقوبة بذاته، كما أن عدم توقيف المتهم لا يعني الإعفاء من العقوبة، ولا يحول دون استيفاء إجراءات التحقيق والمحاكمة، وإنما هو مجرد إجراء احتياطي تتطلبة الواقعة أحياناً ، فيجب عدم التوسع بأي حال من الأحوال!!! بل يترك ذلك للقضاء، باعتباره صاحب الولاية في تكييف الواقعة الإجرامية، ومتى أدركنا ذلك نكون قد قطعنا شوطاً كبيراً في ضبط الدعوى الجنائية بدلا من التعامل معها من منطلق إلباسها تلك الصفة العامة للجريمة دون تحديد الوصف الذي تندرج تحته، وبالتالي تتضرر المصلحة وتتعرض الحقوق إلى التجاوز، وإلى إرهاق الأجهزة الأمنية في تكديس الموقوفين في السجون ودور التوقيف مما يثير كثيراً من الأضرار الاجتماعية والصحية والنفسية والثقافية، كما يرتب أعباء مالية، وتكاليف متعددة على جهات القبض والتحقيق. وأخيراً فإن نظام الإجراءات الجزائية وإن كان قد فوض وزير الداخلية بتحديد الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف إلا أنه لم يقصر موجبات التوقيف على تلك الجرائم، وإنما منح النظام صلاحيات واسعة لجهات التحقيق بأن تمارس دورها في عملية التوقيف متى ظهر لها أن مصلحة التحقيق تتطلب التوقيف لمنع المتهم من الهرب، أو من التأثير على سير التحقيق، أو لم يكن للمتهم محل إقامة معروف، أومحل يقبله المحقق، فيجوز في هذه الأحوال إصدار أمر بالتوقيف، وهذا يعني أن هناك مرونة جيدة في إجراء التوقيف، والذي يحكم ذلك هو الواقعة نفسها وظروفها وملابساتها، لكن يبقى كل ذلك تحت مظلة نظام الإجراءات الجزائية حيث تتحدد المسئولية من خلاله!!! فلابد من استيعابه!!! وبالله التوفيق.