في السادس عشر من شهر رمضان عام 1418ه تفضل صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض رئيس الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض بتوقيع عقد تنفيذ مشروع إنشاء مبنى المحكمة الكبرى بالرياض. وقد أعقب ذلك بداية مرحلة التنفيذ في شهر ذي الحجة من نفس العام. وفي رمضان من عام 1421ه انتهت أعمال التنفيذ ليتحول المشروع إلى واقع وليتجسد المبنى صرحاً نابضاً بالحياة ويؤدي مهامه بكل كفاءة واقتدار. موقع المشروع تمثل منطقة قصر الحكم التي يقع فيها مبنى المحكمة الكبرى قلب الرياض، وهي المنطقة التي كانت مهوى أفئدة طلبة العلم والدارسين، حيث احتضنت ولعقود طويلة حلقات العلم والدروس التي اتخذت من مساجدها رحاباً لها. وقد بدئ العمل في برنامج تطوير منطقة قصر الحكم في منتصف التسعينيات الهجرية بتنفيذ المرحلة الأولى والتي شملت إمارة منطقة الرياض وأمانة مدينة الرياض وشرطة منطقة الرياض، ومن ثم تنفيذ المرحلة الثانية من برنامج التطوير التي اشتملت على جامع الإمام تركي بن عبدالله وقصر الحكم والميادين والساحات العامة والطرق المحيطة وبعض بوابات الرياض القديمة وأجزاء من سورها القديم، واكتملت أعمال هذه المرحلة عام 1412ه. كما أعدت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض خطة ومنهجاً للمرحلة الثالثة من تطوير منطقة قصر الحكم، تقوم الهيئة في هذه المرحلة بأعمال التخطيط وإدارة التطوير اضافة إلى تزويد المنطقة بالمرافق والخدمات العامة، والقيام ببعض الأعمال الهادفة إلى تحسين مظهر المنطقة، وتشجيع الاستثمار فيها، ويتم تنفيذ مشروعاتها من قبل القطاع الخاص والقطاع الحكومي، ومن ذلك مشروع المحكمة الكبرى بالرياض، والذي جرى تحديد وظائفه وتصميمه بالتنسيق مع المختصين في وزارة العدل والمحكمة الكبرى بالرياض. الفكرة التصميمية تضع الفكرة التصميمية للمشروع في الاعتبار ضرورة الحفاظ على الشعور الذي يفترض أن يسبغه مبنى المحكمة على نفسية المراجعين والمتعاملين مع الأمور القضائية المتمثل في العدل، الذي يأتي كقيمة سامية عليا يفترض أن يحققها القضاء، لذا جاء تصميم المبنى الذي يترفع شامخاً بشكل متناظر ومتساوٍ كرمز للعدل، كما يعطي المبنى بكتلته الرأسية الضخمة، وكسوته الخارجية من حجر الرياض. والمسطحات الزجاجية في الوسط، وشكله الذي يرمز لبوابة عملاقة همزة وصل قوية بين منطقة وسط المدينة في جزئها الجنوبي، ومنطقة قصر الحكم، حيث يمثل المبنى بوابة رمزية لمدخل منطقة قصر الحكم من الجهة الجنوبية، كما يجسد التصميم الاستمرارية التاريخية للنسيج العمراني المحلي وضرورة تناغمه مع متطلبات العمارة المحلية، والواقع العمراني المحيط بالمشروع حيث يشكل مبنى المحكمة علامة فارقة بميدان دخنة على شارع طارق بن زياد كما يشكل المبنى امتداداً للمحور الممتد من مركز الملك عبدالعزيز التاريخي شمالاً إلى منطقة قصر الحكم، مما يزيد من ارتباط عناصر المنطقة، ويُعزز من دور منطقة وسط المدينة كمركز إداري وتجاري وثقافي. الخصائص المعمارية أدّت المتطلبات الوظيفية والعمرانية للمشروع، والأحياء المحيطة به إلى ضرورة الاتجاه نحو الانتشار الرأسي لتسهيل حركة المراجعين والعاملين في المبنى، اضافة إلى توفير الساحات والميادين التي تحتاجها المنطقة. ونظراً لظروف المنطقة المناخية غُلِّفت جميع واجهات المبنى بالحجر، مع فتح نوافذ رأسية تساهم في توفير أقصى قدر من الإضاءة لمكاتب المبنى في حدود متطلبات ترشيد الطاقة في مجال التكييف. كما تساهم المساحة الزجاجية الممتدة رأسياً في وسط المبنى في توفير الإضاءة لقاعات المبنى، وصالاته المفتوحة، ويوفر وضعها الغائر داخل المبنى حماية قصوى من أشعة الشمس وتفاوت درجات الحرارة. جُهز المبنى بعدة أنظمة حديثة ومتطورة مثل نظام اطفاء الحريق بالماء، وآخر بالغاز للأماكن الخاصة بتخزين الوثائق المهمة في المحكمة، وكاميرات مراقبة، ونظام نداء مركزي، ونظام ساعات مركزية، ونظام تحكم متكامل للأنظمة المستخدمة مثل الإنارة والتكييف والإنذار وخلافها، وشبكة متطورة للحاسب الآلي، كما زود المبنى بنظام التخزين الحراري لتوفير 50% من الطاقة المطلوبة للتكييف وقت الذروة. روعي في تصميم المبنى الذي يتخذ شكل البوابة أن يكون بوابة حقيقية بحيث يسمح للحركة الاعتيادية اليومية المنطلقة من الساحات المفتوحة جنوب المبنى إلى شارع طارق بن زياد، ومنطقة قصر الحكم باختراق المبنى عبر بوابته الرئيسية، دون أن يؤثر ذلك على أدائه الوظيفي، ومتطلباته الأمنية والتشغيلية، كذلك توفر المساحة الخلفية المتصلة تناسباً فراغياً بين العلو النسبي للمبنى «14 طابقاً» والمباني المجاورة له، وقد روعي في تصميم المناطق الخارجية أن تكون مسطحات خضراء متصلة بميادين مرصوفة للمشاة والمارة والجالسين مراعاة لظروف الحركة الكثيفة في المنطقة، وال متطلبات المناخية التي تستلزم تشجيراً يناسب ظروف البيئة. وقد وضع المسجد على الحافة الغربية لأرض المشروع ليساهم بذلك في خدمة سكان الأحياء المجاورة والطرق المحيطة، وتبلغ مساحته 1500م2 ويتسع ل«600 مصلٍ»، اضافة إلى مصلى النساء. كما يحوي المشروع 130 موقفاً للسيارات على سطح الأرض للمراجعين، وقبواً استخدم كمواقف للموظفين تتسع ل 300 سيارة بمدخلين منفصلين، اضافة إلى مكاتب الصيانة ومستودع بيت المال. الحركة في مبنى المحكمة يستدعي عمل المحاكم وطبيعة مراجعيها كثافة عالية في الحركة داخل مبنى المحكمة، بالإضافة إلى تباين في نوعية المستخدمين لدوائر المحكمة من قضاة وشهود ومراجعين ورجال أمن ومُحَاكمين وغيرهم، كما ينبغي ان يكون المبنى ملائماً لحركة كبار السن والعجزة والمرضى والصغار والرجال والنساء، لذلك اعتمد مبدأ الانتشار الرأسي لتقصير المسافات على المراجعين والموظفين العاملين، وهذا المبدأ يسهّل حشد المكاتب الخدمية حول محور من عشرة مصاعد لتكون قريبة من الزوار والمراجعين، ويسهل التعرف، والاستدلال عليها. أدى اختلاف طبيعة المستفيدين من المحكمة إلى اتخاذ إجراءات دقيقة ومضمونة لتيسير اشلحركة داخل المبنى، فهناك القضاة وكبار المسؤولين الذين يحتاجون إلى الخصوصية في العمل، وهناك بعض المرتادين الذين تستدعي حركتهم في المبنى ترتيبات أمنية خاصة تحفظ لهم حقهم في الخصوصية والسرية، كما وضعت جميع العناصر ذات العلاقة بالمراجعين في الطابقين الأرضي والأول.. الوحدات الوظيفية في المبنى يتكون مبنى المحكمة من أربعة عشر طابقاً تشتمل على 32 مكتباً قضائياً، وخمس دوائر قضائية، إضافة إلى مكتب رئيس المحكمة، ومقر بيت المال، والمكاتب الإدارية ومكتبة متخصصة، وقاعة للاجتماعات، كما يحوي قبو المبنى على قاعة رئيسة متعددة الوظائف تتسع لمائتي شخص، ومكاتب أمنية وسكن أفراد الحراسة. ويمثل المكتب القضائي الوحدة الوظيفية الرئيسة في المحكمة، والتي صممت في بساطة معمارية ثرية تؤكد هيبة القضاء، واختيرت لها المواد الطبيعية مثل الرخام والخشب في اندماج متجانس مترابط بألوانها المناسبة لتأكيد هذه البساطة، كما اختير الجرانيت الأخضر، والرخام الأبيض في تشطيب البهو الرئيسي للأدوار المتكررة، والذي يعمل كموزع رئيسي للجلسات القضائية. ويتكون كل من المكتب القضائي والدوائر القضائية من مجلس قضاء، ومكتب للقاضي، ومكتب لكتَّاب الضبط، إضافة إلى غرفة لانتظار السجناء، وأخرى للسجينات، ومكان لانتظار الرجال، وآخر للنساء، ومكتب للسكرتارية، والاستقبال. ثم ماذا؟ .. وهكذا يشمخ هذا الصرح بين صروح متعددة في عاصمة الرياض، لتحكي جميعاً قصة عشق حمله الأمير للرياض وأحاله إلى مرافق متنوعة ومنشآت ضخمة من أجل الإنسان في هذه المدينة الكبرى. ان مبلغ ال 000 ،000 ،198 ريال الذي تم رصده وإنفاقه على هذا المشروع شاملاً نزع الملكيات اللازمة قد أتى ثماره المبكرة من حيث الخدمة المثالية لجميع من يضمهم الصرح، ومن حيث الإضافة الحضارية واللمسة المعمارية والرؤية الأخاذة التي حققها الصرح في وجه العاصمة الجميلة، ولعلها سانحة لإرجاع الفضل إلى ذويه، فلولا توفيق الله ثم دعم ومؤازرة الأمير سلمان لما حدثت هذه النقلة الباهرة في عاصمة المملكة، حيث تزدهي العاصمة اليوم بوجه حضاري لا تخطئه عين كل من يرى، كما تكتسي بحلة متجددة فيها المزيد والمزيد من الإضافات الإنشائية والمعمارية التي تجعل هذه المدينة دوماً في المكان اللائق بها بين مدن العالم المتقدم.