قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:« وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول {فّاتَّقٍوا اللّهّ وّأّصًلٌحٍوا ذّاتّ بّيًنٌكٍمً} [الأنفال: 1] ويقول:{وّاعًتّصٌمٍوا بٌحّبًلٌ اللهٌ جّمٌيعْا وّلا تّفّرَّقٍوا} ويقول:{وّلا تّكٍونٍوا كّالَّذٌينّ تّفّرَّقٍوا وّاخًتّلّفٍوا مٌنً بّعًدٌ مّا جّاءّهٍمٍ البّيٌَنّاتٍ وّأٍوًلّئٌكّ لّهٍمً عّذّابِ عّظٌيمِ }. وامثال ذلك من النصوص التي تأمر الجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف، واهل هذا الاصل: هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة. وجماع السنة: طاعة الرسول، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة «إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وان تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وان تناصحوا من ولاه الله اموركم» وفي السنن من حديث زيد بن ثابت وابن مسعود - فقيهي الصحابة - عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:« نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو افقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الامر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم. وقوله «لا يغل» أي: لا يحقد عليهن، فلا يبغض هذه الخصال قلب المسلم بل يحبهن ويرضاهن» اه. والمسلم الناصح يعرف لاهل الفضل فضلهم من العلماء المعتبرين الذين هم مصابيح الدجى، وائمة الهدى، ويسعى لربط الناس بعلمائهم، وحدة للصف، واجتماعاً للكلمة. كما أن الداعية الصادق لا يهون من جهود الدعاة الآخرين، بل يفرح بجهود الدعاة إلى الله، ويدل الناس عليها، فهذا من الاخلاص لله تعالى. اذ المقصود نشر الدعوة الصحيحة بين الناس، سواء كان ذلك على يد فلان او على يد فلان، ولا يجوز تعليق الحق بالاشخاص، وقد سمعت شيخنا ابن عثيمين رحمه الله يقول:« لو علقنا الحق بالاشخاص لمات الحق بموتهم». ومن ضيق الافق: أن يحصر فئام من الناس الحق على انفسهم او طائفتهم، وربما عدلوا عن الاحق لانه ليس من طائفتهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «فان عدل عن الاحق الاصلح الى غيره، لاجل قرب بينهما، او ولاء عتاقة، او صداقة، او مرافقة في بلد او مذهب، او طريقة، او جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية، او لرشوة يأخذها منه من مال او منفعة، او غير ذلك من الاسباب، او لضغن في قلبه على الاحق، او عداوة بينهما فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهى الله عنه في قول تعالى { )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) } اه. وفيما ينبغي التنبيه عليه: أن بعض الناس اذا احب شخصاً او طائفة فإنه يصوب اخطاءهم، وإذا ابغض شخصاً او طائفة اخرى فانه لا يرى فيهم خيرا، وفي مثل هؤلاء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «يجب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرون بالظن والهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك مالا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من اولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع صار فتنة لطائفتين، طائفة: تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من اهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه من الإيمان، وكلا الطرفين فاسد، والخوارج والرافضة وغيرهم من ذوي الاهواء دخل عليهم الداخل من هذا الباب، ومن سلك طريق الاعتدال، عظم من يستحق التعظيم، واحبه ووالاه، واعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، فيحب من وجه، ويبغض من وجه، هذا هو مذهب اهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم»اه. وإذا كان شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله يقرر اهمية رحمة الخلق نظرياً، فانه رحمه الله - قرره عملياً وتربوياً، فعندما آذاه بعض الناس قال رحمه الله «فتعلمون رضي الله عنكم اني لا احب أن يؤذى احد من عموم المسلمين - فضلاً عن اصحابنا - بشيء اصلاً، لا باطناً ولا ظاهراً، ولا عندي عتب على احد منهم، ولا لوم اصلا، بل لهم عندي من الكرامة والاجلال والمحبة والتعظيم اضعاف اضعاف ما كان كل بحسبه، ولا يخلو الرجل اما إن يكون مجتهداً مصيباً، او مخطئاً، او مذنباً، فالاول: مأجور مشكور، والثاني: مع اجره على الاجتهاد فمعفو عنه مفغور له، والثالث: فالله يغفر لنا وله ولسائر المسلمين. فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الاصل، كقول القائل: فلان قصر، فلان ما عمل، فلان اوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلمات، التي فيها مذمة لبعض الاصحاب والاخوان، فاني لا اسامح من آذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة الا بالله. الى أن قال.. فلا احب ان ينتصر من احد بسبب كذبه عليَّ او ظلمه وعدوانه، فاني قد أحللت كل مسلم، وانا احب الخير لكل المسلمين، واريد لكل مؤمن من الخير ما احبه لنفسي. والذين كذبوا وظلموا فهم في حلٍ من جهتي»اه.انظر الفتاوى 28/25.