لن نجد مجتمعاً متقدماً ومتحضراً نشأ وانطلق من فراغ، بل هو تواصل طبيعي وتمازج منطقي بين ثقافات تلاقحت عند قواسم مشتركة فأصبحت منطلقات وركائز تأسيسية لحضارة ما، فليس صحيحاً ان الحضارة والتقدم مقرونان ببيئة أو عرقية أو جنس معين، بل هما مسلمتان إنسانيان ومعنيان محايدان، ونتتجتان منتظرتان ومتوقعتان لفكر يلاحظ ويدقق ويستنتج، وهذا هو العقل البشري. ولا يخفى على الجميع ان الخصوصية الثقافية والبروز الحضاري لمجتمع من المجتمعات يكاد يكون صعباً ومستحيلاً في الوقت الراهن، كون العالم أصبح مزيجاً معقداً من تلك الأطياف وأصبح التفريق والتعيين ضرباً من الخيال بعد ان أصبح صراع البقاء سمة لتواصل الثقافات. ولكوننا نمثل ثقافة وحضارة سماوية، كان لزاما علينا نحن الحاملين لهما تحمل أعبائهما والنهوض بمتطلباتهما وتفعيلهما واقعاً حياً معاشاً للإنسانية جمعاء، فحضارتنا ليست كباقي الحضارات، جل تركيزها يقتصر على النواحي المادية والمحسوسة، بل هي التقاء بين فكر وارادة يُخرج لنا بعد ذلك تطوراً ورقياً روحياً ومادياً. ولكن وللأسف الشديد دائماً ما تكون تلك الصورة المثالية العظيمة «صورة مفترضة» أو «صورة مبتغاة» نطمح ان تكون كذلك على عكس ما هو واقع، فللأسف الشديد أصبحت طموحاتنا ورقية تصارع الزمن بين طيات الخيال والأحلام. لقد كان من المفترض بنا أن نستفيد من افرازات الحضارة ومخرجاتها لخدمة مبادئنا ومعتقداتنا وذلك بالتوجيه والتركيز على قضايانا الجوهرية في الوطن العربي والإسلامي «ألم أقل لكم إن آمالنا افتراضية غيبية!!» فالواقع الذي نعيشه واقع لا يبشر بخير ولا نهوض، فلقد صرف وغيب الكثير من طاقات الأمة، ولكوننا نعيش عصر السرعة والمعلومة الخاطفة والفضائيات فإنني اعتقد ان اللائمة الكبرى تطال الفضائيات الإعلامية العربية تحديداً، فلقد مارست تلك الفضائيات بقصد أو دون قصد دوراً بارزاً في تهميش وتسطيح اهتمامات الطاقات الشابة ومارست شتى أنواع الرَّكن والتهميش للعقول، وعملت على خلق وابراز بعض القضايا وتضخيمها وهي لا تمثل ركيزة أساسية في بناء الحضارة والحفاظ على الهوية فأين قضايا الجنس والفن والرياضة والأزياء أمام قضايا جوهرية عظيمة صرفوا عنها؟ أين هم من الهم القومي والأممي؟ أين هم من صراعنا الأزلي العربي الإسرائيلي؟ أين هم من همّ الهوية والمصير العربي؟ أين هم من همّ الرؤية الوحدوية والاستقلالية لشعوبنا العربية المحتلة؟ أين هم من أمننا السياسي والثقافي والفكري والمائي؟ أين هم من همّ البناء الحضاري للإنسانية؟ وأين وأين...؟ بصدق ناقع بالمرارة.. الشعوب في مثل هذه الحالة يعذرون، ولا يحملون فوق طاقتهم، ولا يرجى منهم ابداع أو تفوق، ولا يؤمن سقوطهم وتخليهم عن قيمهم ومقدراتهم الوطنية والقومية، ولا يؤمن تلونهم وتشكلهم كيفما يريد «العدو» إن أضحى الحال كما هو.. تغييب، صرف، تهميش، تسطيح، ركن، تصغير.. كل تلك الألفاظ يجب ان نتناساها في جميع خطاباتنا وفعالياتنا الثقافية والمجتمعية، ليشارك الجميع وليتحمل المسؤولية الكل كل وفق قدره وظرفه .. نعم.. وإلا فالحقيقة المرة والتاريخ الأسود قائم وشاهد من حولنا وبقرب مخيف!!. أما من رحم الله من الفضائيات وهي قليلة وصرفت جزءاً من اهتماماتها تجاه قضايانا الكبرى فهي وللأسف لا تزال تنتهج الخطاب الإعلامي الخاطئ الذي ولد بعد هزيمة 1967 في قلب الحقائق ومحاولة الطمس، فالخطابات الإعلامية منذ ذلك الحين لم تستطع ان تواجه الحقيقة وتعترف بالهزيمة بل مازالوا يعيشون في «حالة العظمة الخاوية» فقد أوجدوا بدائل تخديرية تقزيمية للهزيمة «كالنكبة» و«النكسة» وغيرهما. فمتى ندرك جيداً ان الاعتراف بالهزيمة والقصور والإقرار بهما أولى عتبات النهوض والانطلاق، فللعاقل ان يوجد الفرق بين حالة «اليابان» وحالة «العرب» في الحروب التي خاضوها، ليرى كيف يكون التعامل والتعاطي مع طبيعة الحدث والموقف، ففي الأولى اعتراف وإقرار فنهوض وانطلاق، وفي الثانية تعال وتجاهل «فحماقات» تجر الهزائم، وهنا الفرق!!