عرفته شابا يافعا صغير السن منذ نحو ثلاثة عقود أقبل من مدينة جدة الى المدينةالمنورة طلبا للعلم الشرعي.. اول لقاء معه في المسجد النبوي الشريف تعارفنا وتحادثنا.. سأل عن الجامعة الاسلامية وأخبرته بما عندي من معلومات عنها، جاء راغبا بمفرده طلبا للعلم لم يكن معه ولي امر يقوده ليدخله في الجامعة التي يرغب فيها، وانما كان كما قلت بمفرده وقد سبقته الى المدينة بعدة اشهر انه الاخ الصديق الوفي سالم بن محمد بن عبد الله بن علي باكوبن، وهو من مواليد حضرموت وادي عمد رباط باكوبن درس المرحلة المتوسطة في مدينة جدة. وفي ذلك اليوم الذي التقينا فيه ذهبنا الى الجامعة الاسلامية ودخلنا مكتب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وبجواره سكرتيره الخاص الشيخ ابراهيم الحصين رحمه الله وسلمنا الشيخ اوراق الاخ سالم واستلم الشيخ تلك الاوراق بنفسه مستبشرا مرحبا وبشرنا خيرا، كما هي عادته في استقبال طلبة العلم، كما اني قدمت اوراقي لسماحة الشيخ وهو في حينها كان نائبا لرئيس الجامعة، ولم يكن في الجامعة حينها قد انشئت عمادة القبول والتسجيل او عمادة شؤون الطلاب، وانما كانت تقدم الطلبات الى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز مباشرة. ثم بعد ايام اعلنت اسماؤنا لاجراء امتحان القبول فاختبرنا وظهرت النتائج، ففرحنا بنجاحنا، ثم بدأنا برحلة طلب العلم بداية العام الدراسي في المعهد الثانوي وكانت رحلة طويلة وشاقة فيها مواقف وعبر وذكريات، وسكنا سويا مع الاخ سالم في غرفة واحدة مع اخ ثالث لنا قد انتقل الى رحمة ربه. كان الاخ سالم دمث الاخلاق كريم الخصال صاحب دين وخلق وصفاء نفس لم يسمع منه احد كلمة نابية، هادىء الطبع زاهدا في الدنيا بسيطاً في حياته. ولقد عاشرته سنين طويلة نحو من سبع او ثماني سنوات في غرفة واحدة لم أسمع منه انه شتم احدا او تكلم بكلمة فحش انها اخلاق طلبة العلم الشرعيين. وخلال دراستنا عرفه زملاؤه بتفوقه وسرعة حفظه، وقد اعطاه الله حافظة جيدة وكان قليل المذاكرة في ايام الاختبارات ولكنه يستوعب ما يقرأ ويحفظ ما يريد حفظه ولذلك كانت تقديراته في جميع المراحل الدراسية ممتازاً. وكان رحمه الله يشارك في الانشطة الثقافية مع الطلاب وينظم الشعر الجيد في مناسبات عديدة، وله قصيدة نظمها عندما سقط بيت المقدس بأيدي اليهود في حرب 1967م نشرت في مجلة صغيرة اصدرها مجموعة من الطلاب بإشراف نادي الطلبة تحت اسم صوت الطلبة وكانت بعنوان «واقدساه» وكان لها صدى طيبا بين الطلاب في حينها ولأهميتها انشر للقارىء بعضا منها، وقد مضى على نشرها نحو خمس وثلاثين سنة وكأنها قيلت بالامس وكلها تقطر ألما وحزنا على احوال المسلمين. أرض النبيين مسرى المصطفى وطئت وداس منها مكان العز «دايان» فأصبحت بظلام الكفر مظلمة وانهدَّ منها لدين الله بنيان بالأمس كانت لنا في ارض أندلسٍ دار وأهل وأوطان وخلان عاث الصليبيون فسادا في مرابعهم لولا التفرق ما هنا ولا هانوا واليوم عاثت يهود في مرابعنا وأقفرت من بني الاسلام بلدان حيفا ويافا وبير السبع تندبهم والله والقدس تدعوهم وبيسان فإن يجيبوا دعاء القدس تحمدهم او لا فقد بان أقوام كما بانوا وإن يلبوا نداء الله ينصرهم او لا فلا يرتجى إنس ولا جان كل المذاهب جربنا فما نفعت يا ليتها لم تكن يوما ولا كانوا لم يبق الا سبيل الحق نسلكه حزم وعزم وإسلام وايمان وكل دين سوى الاسلام مضيعة وكل شرع سوى القرآن بهتان لا يرتجى النصر والاهواء في شطن والقلب في وهن والعزم وسنان كما ان له قصائد اخرى يحتاج الوقت الى جمعها وترتيبها منها قصيدة في المدينةالمنورة مطلعها: بدمى أفدي بلادا حّلها خير من حلّ البوادي والحضر طيبة المختار ما أروعها اين من ذلك أكمام الزهر كم بها من معهد للمصطفى ومقام ومنار وأثر ومنها قصيدة بعنوان «ألم وأمل» مطلعها: ومنها اقول وما يفيد تألمي والقيد يشغلني ويدمي معصمي وهاتان القصيدتان لم تنشرا ولا تزالان ضمن اوراقه الخاصة. ثم بعد التخرج من المعهد الثانوي التحق بكلية الدعوة واصول الدين بالجامعة الاسلامية وتخرج منها في عام 1389 - 1390ه وعمل بعدها مدرسا في منطقة القنفذة ثم عاد الى المدينةالمنورة والتحق بكلية الدعوة التابعة لجامعة الامام محمد بن سعود وقد تزاملنا في هذه الفترة وكان متفوقا في دراسته وكان بحثه في الماجستير عن «الاشاعة في العهد النبوي» بقسم الاعلام ثم خرج بعدها الى اليمن وعمل استاذا في جامعة الايمان سنة واحدة في مقرها الرئيسي بصنعاء واربع سنوات في فرعها بالمكلا بحضرموت، وكان خلال هذا العمل يمارس امامة المسجد وإلقاء الدروس في بعض المساجد في المكلا والشرج، ثم عاد بعدها الى المدينةالمنورة وسجل رسالة الدكتوراة في جامعة القرآن والعلوم الاسلامية بالخرطوم في جمهورية السودان وكان موضوع رسالته للدكتوراة عن «الامام الشوكاني وجهوده في الدعوة». وقد سجل هذا البحث تحت اشراف الدكتور محمد عثمان صالح، وقد قرأ علي خطة البحث في احدى زياراتي له في بيته بالمدينةالمنورة، وبين في مقدمة الرسالة جهود الامام الشوكاني في نصرة التوحيد والسنة النبوية والردود على الرافضة والزيدية وكان جهدا وعملا موفقا الا ان المرض كان يحول بينه وبين اكمال رسالته فلله الامر من قبل ومن بعد وهو مقدر اسباب الحياة كلها ولا راد لقضائه وقدره والامر كله بيده، وقد ترك من الاولاد الذكور اربعة هم: علاء، محمد وهما كبار واصغرهم ابو بكر، عبد الرحمن، يجعل الله في حياتهم البركة يدعون لأبيهم بالمغفرة والرحمة، وكذلك ترك من الاناث اكثرهن متزوجات واوصى الابناء والبنات بالدعاء الصالح حيث ان الدعاء كما ورد في الحديث الصحيح ينتفع به الميت كما قال صلى الله عليه وسلم «اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث: صدقة جارية او علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له». توفي رحمه الله مساء الخميس عصرا الموافق 17/1/1424ه وصلى عليه المسلمون في يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة في المسجد النبوي الشريف ودفن بالبقيع في ذلك اليوم. ولا ازال أسمع صدى صوته رحمه الله يردد في جنبات مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ما اقوله له اليوم وهو الى جوار ربه: أودى بك البين ام شاقتك أوطان أم هيجتك الى الأحباب أشجان أم هزك الوجد بعد الشوق فانبعثت منه على الوجه آلام وأحزان ودق جسمك حتى صرت أنكره لولا حديثك لم يعرفك انسان حتى متى قلبك المحزون في وله اما لقلبك عن ذي الامر سلوان حللت في وطن يغنيك عن وطن والجار يغنيك عنه اليوم جيران اجابني وهو يخفي بعض عبرته وفي الفؤاد تباريح ونيران أقصر عن اللوم ان اللوم يجرحني اما كفاني تشريد وأضغان