تركَّز الحديث في الحلقة السابقة، إلى حدّ ما، على ما قاله بعض الكتَّاب - وهم يتكلمون عن جريمة التفجيرات التي حدثت في الرياض - عن دور كتب مناهج التعليم الوطني العام في تكوين الفكر الذي أدى بنفر من معتنقيه إلى ارتكاب تلك الجريمة، وختمت تلك الحلقة بسؤال عن مضمون دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي لمَّح من لمَّح إلى أنه سبب وقوع من وقعوا في ذلك الفكر. وفي هذه الحلقة يؤمل التوفيق إلى الإجابة المقنعة عن هذا السؤال. لقد كتبت عن دعوة الشيخ محمد فكراً ومسيرة، كتابات كثيرة، مؤيِّدة أو معارضة، وكان من أوائل من كتبوا عنها بتجرد وتفصيل الرحالة السويسري جوهان بوركهارت، الذي قدم إلى الحجاز مع حملة محمد علي باشا، حاكم مصر،التي انتزعت تلك المنطقة من الدولة السعودية الأولى، وقد وُفِّق كاتب هذه السطور إلى ترجمة ما كتبه ذلك الرحالة تحت عنوان «مواد لتاريخ الوهابيين» وصدرت الطبعة الأولى من الترجمة عام 1405ه. ومما كتب عن الشيخ محمد ودعوته رسائل علمية أولاها تلك التي نال بها المستشرق الأمريكي، جورج رنتز، درجة الدكتوراه عام 1948م ومنها الرسالة التي نال بها كاتب هذه السطور درجة الدكتوراه من جامعة أدنبرا عام 1972م، ثم أصدر مضمونها بالعربية في كتاب عنوانه: الشيخ محمد بن عبد الوهاب: حياته وفكره. وقد جعل الفصل الخامس منه عن عقيدة الشيخ، مبيِّناً آراءه وآراء معارضيه في قضايا التوحيد، والتكفير والقتال، وزيارة القبور والبناء عليها، والبدع، والاجتهاد، والتقليد، والإمامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا أريد التحدث عن دعوة الشيخ محمد، فكراً ومسيرة، فإن من الإنصاف أن يرجع إلى أقواله وأقوال العلماء المعتبرين من أتباعه وما ثبت مما قاموا به. والدارس لهذه الأقوال المدقق لما قام به أولئك العلماء يجد أن جوهر دعوة الشيخ محمد هو التوحيد ومعارضة كل ما يتنافى معه. وملخص موقفه في هذه القضية ألا يعبد إلا الله، وألا يعبد إلا بما شرع. والجزء الأول من هذه العبارة يعني أن تصرف جميع أنواع العبادة لله وحده لا شريك له. وهذه الأنواع كثيرة في طليعتها الدعاء الذي هو مخها. أما الجزء الثاني من العبارة فيعني ألا يدخل إلى الدين أي قول أو عمل لم يشرعه الله ورسوله. وهذا ينسجم مع القاعدة التي من بين من يتبنَّاها الحنابلة، وهي أن الأصل في العبادات المنع ما لم يرد الشرع بتشريعها، والأصل في المعاملات الإباحة ما لم يرد الشرع بمنعها. وهم بهذا يرفضون البدع في الدين، ويفتحون الباب واسعاً أمام الاجتهادات في المعاملات. وانسجاماً مع ما سبق ذكره عارض الشيخ محمد وأتباعه من العلماء المعتبرين ما هو مجود في بعض البلدان الإسلامية من بناء أضرحة على قبور من يعتقد فيهم الولاية، وما يقوم به كثير ممن يزورونها من دعاء من فيها من الأموات والاستغاثة بهم. وكل منصف يدرك أن ما يقوم به أولئك الداعون المستغيثون منافٍ لأسس التوحيد. وكان الشيخ محمد الغزالي ممن أوضحوا كثيراً من أفعال هؤلاء التي لا تتفق مع الشرع والعقل. أما بناء القباب على القبور فلم يحدث في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، وصحابته، ولا في القرون الإسلامية الأولى. بل إنه يتعارض مع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ألا يدع قبراً مشرفاً إلا سوَّاه بالأرض. ومما يتصل بقضية التوحيد الموقف من كرامات الأولياء والصوفية. وقد أوضح الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ذلك الموقف قائلاً: «ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم مهما ساروا على الطريق الشرعية والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئاً من أنواع العبادة لا حال الحياة، ولا بعد الممات». وهم ينكرون الصوفية الشائعة وما يتبعها من رتب معيَّنة؛ مثل الغوث والأوتاد والأقطاب والأبدال، ويعتبرونها من البدع المحرَّمة، لكنهم لا ينكرون الصوفية «التي هي تنزيه الباطن من رذائل المعاصي المتعلِّقة بالقلب والجوارح مهما استقام صاحبها على القانون الشرعي والمنهج القويم المرعي، إلا أنهم لا يتكلَّفون له تأويلاً في كلامه ولا أفعاله». وأما بالنسبة للتفكير فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرى أن الإنسان يجب ألا يحكم بخروج أي مسلم عن الإسلام ما لم يكن مؤهلاً تأهيلاً جيداً بالعلم ومعرفة الدليل المبني على ما ورد في القرآن والسنة وآراء السلف الصالح من الأمة الإسلامية. ويرى أن التوحيد يجب أن يُبيَّن للناس أولاً، كما يجب ألا يكفَّر أي إنسان إلا بعد معرفته له، وإصراره على العمل ضده، فلا يجوز إخراجه من الإسلام قبل قيام الحجة عليه. وأما بالنسبة للقتال فقد قال الشيخ عنه في إحدى رسائله: «وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة. وهم (يعني خصومهم) الذين أتونا في ديارنا، ولا أبقوا ممكناً، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة، وكذلك من جاهر بسبِّ دين الرسول بعد ما عرفه». ويعني الشيخ محمد وأتباعه من العلماء بالبدعة ما له صبغة دينية، عملاً أو اعتقاداً، وأما ما لا يُتَّخذ ديناً ولا قربة فلا ينهون عنه ما لم يختلط بغيره مما هو محرَّم. وانسجاماً مع هذه النظرة، إضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من أنهم يرون أن الأصل في المعاملات الإباحة ما لم يرد الشرع بمنعها، جاء عدم معارضتهم - بعامة - للانتفاع بالعلوم التقنية الحديثة التي أوصل استعمالها البلاد إلى ما وصلت إليه من تقدُّم عمراني حضاري. وما دامت نظرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى قضية التوحيد كما ذكر فإنه لم يكن غريباً ان يعلِّق المؤرِّخ المصري، عبد الرحمن الجبرتي، على رسالة سعود بن عبدالعزيز عام 1218ه، المتضمنة أسس دعوة الشيخ قائلاً: إذا كان هذا هو ما دعا إليه ابن عبد الوهاب فهو الدين الحق الذي ندين الله به، ولم يكن غريباً، أيضاً، أن يقول بوركهارت: إن علماء القاهرة الكبار عندما ناقشوا عالمين نجديين أرسلهما حاكم الدرعية، سنة 1815م، أقروا أن ما دعا إليه ذلك الشيخ صحيح، وأنه ما دامت هذه عقيدته فإنهم يؤمنون بها. وإذا كانت الآثار الإيجابية لدعوة الشيخ محمد في المجال العقدي واضحة كل الوضوح فقد كان من آثارها الإيجابية على المستويين السياسي والاجتماعي أن قامت على أساسها دولة تمكَّنت من توحيد منطقة نجد التي كانت قبل ذلك مسرحاً للفوضى السياسية، ثم توحيد مناطق أخرى من جزيرة العرب، وحققت أمناً عظيماً في المناطق التي وحَّدتها. ومن تلك الآثار القضاء على ما كان يأخذه بعض القضاة من أجور مقابل الفصل بين المتخاصمين، إذ عدَّ الشيخ هذا رشوة، وأصبح القضاة في الدولة السعودية الأولى مضرب المثل في النزاهة. ولقد أثنى بوركهارت على عبد الرحمن بن نامي الذي عيَّنه سعود قاضياً في مكة، وأشار إلى سخرية المكيين من قاضيها السابق الذي كان قد عيَّنه العثمانيون، وكان مشهوراً بأخذ الرشوة. ومما يحمد للشيخ محمد اهتمامه بالمرأة، إذ وجَّه الخطاب اليها في رسائله العلمية جنباً إلى جنب مع الرجل، وعارض ما كان سائداً من إجحاف بحقها في قضية الوقف، وسمَّاه وقف الجُنُف. وحرصت الدولة التي قامت على أساس دعوته على الحدِّ من الطلاق الذي كان منتشراً بين فئات من المجتمع، وذلك باستعماله في القسم. أما بعد: من الذي بدأ برفض الآخر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأنصاره أو خصومهم؟ إن الفيصل في ذلك هو التاريخ. لقد بدأ خصوم الشيخ الهجوم عليه قبل أن يتبايع مع الأمير محمد بن سعود، ووصفه أحدهم بأنه «مبتدع جاهل، مضل ضال، من بضاعة العلم والتقوى عاطل». وأهم من هذا ما ذكره المؤرِّخ الحجازي أحمد دحلان، الذي ألَّف كتاباً ضد ابن عبد الوهاب، إذ قال ذلك المؤرِّخ: إن قاضي الشرع في مكة أفتى بكفر ابن عبدالوهاب، وإنه نتيجة لتلك الفتوى منع هو وأتباعه من دخول مكة. وظل منعهم من أداء الحج من سنة 1162ه إلى سنة 1213ه، باستثناء عام 1184ه إثر إطلاق قادة الدرعية سراح جماعة من الحجازيين بقيادة أحد الأشراف دون فدية، وعام 1197ه بعد تودد أولئك القادة إلى شريف مكة واهدائهم إياه هدايا ثمينة. ومع خطورة ذلك المنع فإن الأمر لم يقتصر عليه، بل تطور إلى تسيير حملات عسكرية ضد أنصار الشيخ في نجد، ابتداءً من عام 1205ه، ولكن تلك الحملات فشلت. وكان موقف حكام منطقة الأحساء والقطيف، زعماء بني خالد مشابهاً لموقف أشراف مكة في رفض الشيخ وأنصاره، إذ كانوا وراء إخراج الأمير عثمان بن معمَّر له من العيينة مسقط رأسه ومنطلق بداية تطبيق دعوته. وكانوا البادئين بتسيير حملات عسكرية للقضاء على أنصاره بعد أن ارتبط بآل سعود. وكان ولاة العراق، أيضاً - بناء على أوامر من السلطان العثماني - هم الذين بدأوا بإرسال حملات ضد أولئك الأنصار. لكنها فشلت كما فشلت حملات زعماء بني خالد وأشراف مكة من قبل في تحقيق أهدافها. وبذلك يتبيَّن أن خصوم الشيخ محمد وأنصاره هم الذين أخذوا زمام المبادرة في العداوة، فكرياً وعسكرياً. على أن مما تجدر الإشارة إليه أنه قد يوجد بين العلماء المتبنِّين لتوجُّه معيَّن من يختلف مع أغلبية هؤلاء العلماء في بعض المسائل الفرعية، لكن الحكم على ذلك التوجه ينبغي أن يكون على التيار العام له، وبخاصة ما يتعلق بأصول الدين وقواعده الرئيسة، وقد يوجد من المتحمسين لأي دعوة من لا يدركون مضمونها الحقيقي إدراكاً كافياً، فيقعون فيما لا يتفق مع هذا المضمون، قولاً أو عملاً. وإذا لم ينتبه إلى ذلك ساهم في تشويه صورتها. ولهذا أمثلة مما جرى للشيخ محمد وأنصاره. ومن هذه الأمثلة أن أناساً من أتباعه أنكروا على بعض من ينتسبون إلى الأشراف في نجد لبسهم عمائم خضراء، فلما علم بذلك الإنكار لام المنكرين، مشيراً إلى أن لبسهم الأخضر حدث قديماً تمييزاً لهم لئلا يُظلموا أو يُقصِّر في حقهم من لا يعرفهم. ومنها أن بعض أولئك الأتباع أتلفوا كتباً علمية عند استيلائهم على الطائف سنة 1217ه / 1802م، فلامهم على ذلك ابنه الشيخ عبد الله، ومنها أن سعود بن عبد العزيز -كما ذكر بوركهارت- عندما أخبره أحد رجاله بأن المكيين لم يلتزموا بأوامره، بل ظلوا يدخنون النارجيلة «الشيشة» سأله أين رآهم يفعلون ذلك، فلما أجابه بأنه رآهم يدخنون في بيوتهم قال له: ألا تعلم أن الله قال: «ولا تجسَّسوا»؟ وأمر بجلده. ومن الواضح أن تلك المواقف منسجمة مع نظرة الشيخ محمد والعلماء المؤيِّدين لدعوته إلى قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ففي رسالة بعثها الشيخ إلى أحمد بن سويلم وثنيَّان بن سعود قال: «الإنسان لا يجوز له الإنكار إلا بعد المعرفة، فأول درجات الإنكار معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله». وقال في رسالة إلى أنصاره في سدير: «الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه، صابراً على ما جاءه من الأذى». ثم قال: «إن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره». ومما سبق يتضح أن مسؤولية ما حدث من اعتناق الفكر الذي أدى بنفر من معتنقيه إلى ارتكاب التفجيرات في الرياض لا تقع على ما هو موجود في كتب مناهج التعليم الوطني العام، ولا على مضمون دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. والدارس الباحث عن الحق سيجد أن ذلك الفكر نشأ وترعرع، بدرجة كبيرة، من خلال شخصيات معروفة شاء الله أن تكون أفغانستان ملتقاها، وأن يتأثَّر بها شباب من أقطار إسلامية عدَّة. وفَّق الله الجميع إلى ما فيه الرشاد