جاءت تتهادى إلى القاضي ومعها جملة من أطفالها تقول للقاضي ان زوجي قد أغلق الباب واخرجنا من الدار وولّى هارباً ولم يعقب، ثم ان القاضي بعث معها لجنة تنظر في الأمر، فلما كان عقب العصر طرق باب بيت القاضي فإذا الطارق أحد أعضاء اللجنة وإذا بدمعتيه على وجنتيه، وقال: إنا كسرنا الباب حسب توجيهك وكسرنا الأقفال، وفتحنا الباب ودخلنا الدار، فلم نجد فيها ما يؤكل ولا أثاثاً يُذكر، ووجدنا الفقر قد ضرب أطنابه في هذا البيت فما كان من القاضي إلا ان أخرج من جيبه مبلغاً مالياً واعطاه أحد أعضاء اللجنة، وقال: انطلقوا واشتروا لهم أكلاً، وشرباً، ثم آتوني يوم السبت، وكان اتيانها للقاضي يوم الأربعاء فلما كان يوم السبت جاءت المرأة وحدها تمشي على استحياء فقالت: أحسن الله إليك قد امتلت دارنا من الخير وجاءنا صاحب البيت يبغي أجره، فكتب القاضي إلى مبرة خيرية من المبرات المتناثرة في عاصمتنا الحبيبة، فانطلقت إلى المبرة فلما درست حالتها وعُرف أمرها، وُضِع لها سكن يليق بها، وأمّن لها عيشها، وطعامها، وشرابها فجاء زوجها وسكن معها، وقام بما أوجب الله عليه ثم جاء إلى القاضي يقول له: أكرمتني أيها القاضي بلم شمل اسرتي، اكرمني باقراضي مبلغاً زهيداً اشتري به سيارة ثم اشترى القاضي له سيارة من ماله الخاص بقيمة يسيره فانطلق يبتغي من رزق الله عليها، فلما كان عقب سنتين جاء إلى القاضي وهو يقول: قد أغناني الله عن هذه الجمعية، وعن سكنها، وقد اتخذت لي سكناً مستقلاً وبيتاً مستقلاً، وجئت أشكرك بعد شكر الله - سبحانه وتعالى - على جهدك معي، وعلى إحسانك لعائلتي، وجئت أبلغك ان الله- سبحانه وتعالى- قد أكرمني فأغناني فلا أحب ان ازاحم الفقراء وقد ذقت مرارة الفقر، ولا أحب ان ازاحم المحتاجين، وقد أغناني الله بعد ان ذقت مرارة الحاجة، فقد خرجت من الجمعية، وسكنت بمكان مستقل، وأكرمني الله بالمال الطيب الحلال المبارك، فدعا للقاضي، وأثنى عليه ثناء جميلاً، ودعا له القاضي، وشكره ثم انطلق وهو -يحمد الله- ويشكره ويثني عليه. تلك حالة تمر على القضاة مدرسة، لأن القضاء مدرسة لاصلاح أوضاع الناس، ومعالجة شؤونهم ورعاية مصالحهم، فالقاضي بمنزلة الأب الرحيم الذي ينظر في أمورهم كلها، دقها وجلها ويعالج ما استطاع لذلك سبيلاً، ومتى وجد دعماً فإن الله - جل وعلا- يأجره ولله سبحانه وتعالى الأمر من قبل، ومن بعد.