في مجلس من مجالس الأخيار -خلال الأيام الأولى من العدوان الأخير على العراق- سأل أحدهم مستغرباً كيف تحتج أمريكا على إظهار العراقيين لأسراها على شاشة التلفزيون وهي تعرض أسرى العراقيين في أجهزة إعلامها المختلفة؟ وهذا سؤال منطقي وعادل. لكن أمور العالم لا تجري وفق المنطق والعدل. ذلك أن مايجوز للقوي لا يجوز للضعيف. والأمثلة الدالة على هذا كثيرة جدا. منها ان الناس سواسية وفق ما هو معلن في القوانين والمواثيق الدولية. لكن يجد المرء أن ديّة الأمريكي الذي قُتل في حادثة لوكربي المشهورة قدِّرت بعشرة ملايين دولار، وديّة الأفغاني الذي راح ضحية قصف أمريكي على حفلة عرس لم تزد على ألفي دولار. ولقد أُجبرت إندونيسيا -لأنها بلد مسلم- على أن تجري استفتاء لسكان تيمور الشرقية، الذين غالبيتهم مسيحيون - ليقرروا رغبتهم في الانفصال عنها أو البقاء جزءاً منها. فلما قرروا الانفصال سارعت القوى الدولية المهيمنة إلى تنفيذ هذا القرار. والشيشان -لأنهم مسلمون- ظلُّوا يجاهدون لنيل استقلالهم عن روسيا منذ العهد القيصري، وبطش الروس بهم مرات ومرات، ومع ذلك لم تحاول الدولة المتحكمة بمجلس الأمن والدول الأوروبية المنافقة عموماً ان توقف ذلك البطش، ناهيك عن ان تجبر المرتكبين له على قبول مبدأ إجراء استفتاء للشعب الشيشاني ليقرر مصيره. والمثل الصارخ أمام العالم كله الدولة الصهيونية المغتصبة لفلسطين. فرغم صدور قرارات من الأممالمتحدة بعدم شرعية احتلالها لما احتلته عام 1967م، وتصرفاتها المخالفة لحقوق الإنسان فوق الأرض المحتلة ظلَّت أمريكا تؤيدها وتدافع عن جرائمها البشعة، ولا تعارض- ان لم يُقل تبارك- امتلاكها لأسلحة دمار شامل دون دول المنطقة كلها. ومن الأسئلة التي واكبت العدوان المرتكب على العراق سؤال عن موقف الإعلام منه. ومن الأقوال المشهورة ان التاريخ يكتبه المنتصر، والإعلام خلال ذلك العدوان قد أصبح تاريخاً. ولقد اتضح أنه حدث تضليل وتناقض في إعلام المعتدي وإعلام البلاد المعتدى عليها، ومما يلفت النظر في الأيام الأولى من العدوان ان إعلام المعتدي كان أكثر تضليلاً وأوضح تناقضا. فإضافة إلى بُعد ما أعلنه من أهداف ما قام به عن الحقيقة كان -مثلاً- يعلن عن سقوط مواقع في أيدي الغزاة، ثم يتبيَّن أنها لم تسقط إلا بعد أيام من إعلانه. وكان المتوقع من إعلام الطرف الأقوى أن يكون واثقاً من نفسه، فلا يلجأ إلى ادعاءات كاذبة. وكان يضرب أهدافاً مدنية سكانية، ويزعم أنه لا يضرب إلا أهدافاً عسكرية. وفي الأيام الأخيرة من العدوان كان إعلام المعتدى عليه يتأرجح بين الصدق وعدمه والتهويل. فكان، أحياناً، يدحض افتراءات المعتدي بحقائق منظورة. لكنه كان، أحياناً، يدَّعي حدوث أمور لم تحدث، أو حدثت لكنه هوَّلها تهويلاً واضحاً. على أنه لم يكن غريباً على الجانب الأضعف أن يهوِّل ويبالغ أملاً في تشجيع أفراد قواته على القتال والصمود؛ ناسياً أو متناسياً في ظل الجو النفسي الذي كان فيه ان ما لم يبنَ على حقائق ثابتة لا بد أن ينهار. ولأن التاريخ يكتبه المنتصر - كما ذكر سابقاً - انهالت المقالات والتصريحات عبر القنوات تذكِّر بجرائم المهزوم - وهي جرائم كثيرة..؛ نشأة واستمراراً ونهاية. وتقلَّصت- إن لم تكن اختفت - الكتابات عن جرائم المنتصر قديمها وحديثها. فجرائم زعيمة العدوان، وهي أمريكا، معروفة مشهورة منذ حرب الإبادة بجميع أشكالها ضد من سُمّوا بالهنود الحمر، ومروراً بما ارتكبته في هيروشيما ونجازاكي، والفيتنام، وارتكاب وكالة استخباراتها المركزية جرائم اغتيالات وتدبير انقلابات ضد حكومات منتخبة، إلى دعمها الكيان الصهيوني دعماً غير محدود؛ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، والدفاع عن جرائمه البشعة. وجرائم تابعتها في العدوان، وهي بريطانيا، معروفة مشهورة، أيضاً في أمكنة متعددة من العالم. ولو لم يكن منها - بالنسبة لأمتنا - إلا رعايتها النبتة الصهيونية في فلسطين، التي بليت بانتدابها عليها. ولقد ظهرت التوجهات الفكرية والسياسية للإعلام العربي والكتاب العرب بكل وضوح. فالمعارضون للأمركة والاستعمار الأمريكي بمختلف وجوهه عبَّروا عن رفضهم العدوان، وندَّدوا بجرائمه المتنوعة، وحذَّروا من نتائجه؛ إذ رأوا فيه إعادة استعمار لوطن عزيز من أوطانهم وان ادَّعى المعتدون ما ادَّعوا من حجج واهية، وزيّنوا ما زيّنوا من أباطيل واضحة، كما رأوا فيه خطوة كبرى لتغيير أوضاع المنطقة العربية وفق مصالح أمريكا المرتبطة ارتباطا عضويا بمصالح الكيان الصهيوني. أما المتأمركون؛ توجهاً وتفكيراً، فتمادوا في مباركتهم لذلك العدوان. وتعددت وجوه تلك المباركة. فقد سمَّوه بما سماه به مرتكبوه؛ أي أنه تحرير للعراق، مع أن كثيرا منهم يعلمون ان احتلال دولة لبلاد دولة أخرى لا يصح أن يسمى تحريراً، وان أمريكا لم تأت إلى العراق لسواد عيون أهله، أو إنقاذاً لهم من ظلم كانوا يعانونه. ولو أن ذلك الظالم كان صهيوني الهوى ومقيماً علاقات ودِّية مع الصهاينة لدافعت تلك الدولة المعتدية على بلاده عنه تماماً كما تدافع الآن عن حكومة شارون وكل ما تمثله من اجرام صهيوني. ومن وجوه تلك المباركة للعدوان نشر صور توحي بأن الشعب العراقي يرحب بالمستعمرين الجدد، الذين يسميهم المتأمركون محررين؛ مثل إظهار عدد من جنود الاحتلال يلعبون كرة قدم مع شلة من الشباب العراقيين، وتكرار ذلك الإظهار مرات ومرات دون عرض ما ارتكبه المعتدون من جرائم ضد المدنيين، أو دون تكرار عرضه. ولقد استمرت بعض القنوات خمسة أيام تعيد عرض فئة قليلة من العراقيين ترحب بالمحتلين. وأقول فئة قليلة لأن العالم شاهد المظاهرات في مدن عراقية متعددة وهي تندد بالاحتلال، وأعداد المشاركين فيها تفوق أعداد تلك الفئة بمئات المرات. والذين عرضوا هذه المظاهرات من ذوي الاتجاه المتأمرك لم يكرروا عرضها كما كرروا عرضهم لمنظر الفئة المرحبة بالمحتلين. ومن المؤسف حقاً - وإن لم يكن مستغرباً على من أشربت قلوبهم محبة الغرب وفكره - عدم اظهارهم لما صرَّح به كل من وزير الدفاع الأمريكي وزميله التابع له في العدوان وزير الدفاع البريطاني من أقوال تعبِّر أصدق تعبير عما يكنّانه لأمتنا من حقد وازدراء. فعندما سئل الأول عن رأيه في تصرُّف الذين كانوا ينهبون الممتلكات العامة العراقية - بما فيها المتحف العراقي والمكتبات - قال: إنهم يشعرون الآن بالحرية التي حصلوا عليها. وعندما سئل الثاني عن رأيه في استخدام قواته للقنابل العنقودية التي راح ضحيتها كثير من الأطفال قال: إن أمهات هؤلاء الأطفال سيشكرننا مستقبلا. أيرى القارئ الكريم أعمق حقداً على أمتنا وازدراء لها مما يدل عليه هذان الجوابان لعمودين من أعمدة الحكم في أمريكاوبريطانيا؟ ومن الأسئلة المتصلة بالعدوان الأخير على العراق سؤال عن مدى تحقيقه لأهدافه من حيث بسط النفوذ الأمريكي على بلاد الرافدين، التي هي جزء مهم من الوطن العربي الإسلامي، ومن حيث خدمة الدولة الصهيونية، ومن حيث توسيع التأمرك الفكري وترسيخ ما هو موجود منه بين فئات من العرب والمسلمين. أما بسط النفوذ الأمريكي عسكرياً على العراق فأمر مشهود. فمنابع النفط -وهذا مربط الفرس- أصبحت تحت السيطرة الأمريكية، وستكون أمريكا المتحكمة بها؛ تشغيلاً وتصريفاً، والقواعد العسكرية، التي بنيت من قوت الشعب العراقي، باتت تحت سيطرتها، وكل مقدرات تلك البلاد باتت في يدها. لكن استمرار الاحتلال أمر تحدده عوامل كثيرة؛ داخلية وخارجية. فداخلياً يتوقع ان فورة الفرح بزوال حكم صدام حسين ستزول ليحلَّ محلَّها تفكير جاد في إزالة الاحتلال، وعدم قبول من يمثِّلونه. وإذا كانت تلك المظاهرات المذكورة سابقاً بوادر لهذا التفكير الجاد فإن خطب الجمعة الأولى بعد سقوط بغداد في المساجد العراقية؛ سنية وشيعية، وما تضمنته من دلالات وأعقبها من مظاهرات حاشدة تؤكد وحدة الجميع في وجه الاحتلال. ومن المرجح ان زعيمة المحتلين ستتمكن من جلب مجموعات من دول متعددة على أساس أنها لحفظ الأمن. ومرادها بذلك أن تكون تلك المجموعات بمثابة دروع بشرية تقي رجالها من ضربات المقاومة المتوقع حدوثها، وان يكون همُّ المحتلين جني خيرات البلاد؛ وبخاصة النفط وعقود مايسمَّى بإعمار العراق، بالطريقة التي لاتعرِّض متزعمة العدوان والاحتلال لخسائر بشرية. أما العوامل الخارجية ففي مقدمتها إدراك الدول المجاورة للعراق بالذات لخطورة بقاء الاحتلال لهذه البلاد؛ وبخاصة ان رجالات المحتلين كرروا التصريحات بأن هذا الاحتلال هو الخطوة الأولى لإعادة تشكيل المنطقة وفق المصالح الأمريكية وأقول ووفق مصلحة الكيان الصهيوني أيضا. فإن جاء تصرُّف هذه الدول المجاورة معبِّراً عن ذلك الإدراك فإن دولا أخرى؛ وبخاصة العربية والإسلامية، ستقف معها، وسيكون هذا الوقوف عاملاً قوياً في دعم مقاومة الشعب العراقي. وأما مصلحة الكيان الصهيوني من العدوان الأخير على العراق فواضحة جدا. وقد سبقت الإشارة إلى ما ذكره وزير خارجية أمريكا السابق، جيمس بيكر، عن خدمة إدارة دولته لذلك الكيان بتحطيم قوة العراق التي هي الخطر الاستراتيجي الحقيقي عليه سنة 1991م، وما أعلنه أحد الجنرالات الصهاينة خلال عمليات العدوان من أنه إكمال لما عمل في السنة المذكورة. وبزوال قوة العراق تترسخ قوة الكيان الصهيوني أكثر وأكثر. وإضافة إلى ذلك فإنه لا بد من تقدير أهمية إنهاء قدرة العلماء العراقيين التقنية التي يراها الصهاينة خطراً عليهم. وإن سارت الأمور في العراق وفق ما يريد المحتلون الأمريكيون -ويؤمل ان لا تسير كذلك - فإن من المرجح ان تقيم الحكومة التي يأتون بها علاقات مع الدولة الصهيونية، وان يعاد ضخ النفط العراقي إلى حيفا. بل إن من المحتمل، أيضا، ان يُهجَّر بعض اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق. أما توسيع التأمرك وترسيخه فلا يبدو أنهما سيحدثان. ذلك أن العدوان بما واكبه من جرائم التقتيل والتدمير والإذلال سيعمِّق روح الرفض والتحدي للأمركة، ويرسخ مشاعر التمسك بثوابت الأمة التي في طليعتها التحرر من أي نفوذ أجنبي مهما اتخذ من أشكال. وفي ظني ان التيار المتمسك بهذه الثوابت؛ سواء كان إسلاميا أو قومياً أو وطنياً، سيتحد في مواجهة الأمركة والمتأمركين؛ وبخاصة بعد سقوط جميع أوراق التوت عن السوءات، واتضح ان الأمة كلها؛ قيادات وشعوباً، مستهدفة في ثوابتها ومقدراتها.