من المعروف أن المخدرات -على اختلاف أنواعها- من الآفات الضارة بالفرد والمجتمع، فإذا ما استشرت بمجتمع ما فإنها سرعان ما تفتك بالمتعاطين من أفراده، وفي الغالب نجد ان معظم ضحايا هذه الظاهرة المدمرة هم من فئة الشباب الذين تُعقد عليهم الآمال في الإسهام الفاعل في بناء المجتمع، ومن هنا تكمن خطورة هذه الظاهرة في استهدافها لهذه الفئة من المجتمع والتي تمثل شريانه المتدفق بالحيوية والعطاء. وظاهرة المخدرات -في نظري- ترتكز على عنصرين هامين أولهما: المنتج للمادة المخدرة (سواء كانت مادة كحولية أو أفيونية، مهدئة أو منشطة، مصنعة أو طبيعية)، ويدخل في زمرة المنتجين الوكلاء والمهربون والموزعون والمروجون، الذين تأصل لديهم حب الذات وشراهة جمع المال دون وازع من ضمير ودون اعتبار لأخلاق أو دين، أما العنصر الثاني في ظاهرة المخدرات فيتمثل في الشخص المتعاطي للمادة المخدرة والذي يعتبر إما «ضحية» لنزواته ولنوازع الشر لديه حيث أوقع نفسه فيما حرمه الشرع عليه أو قد يكون «ضحية» لصحبة الأشرار الذين ما برحوا حتى أوقعوه في براثن عادتهم السيئة. وعندما نلقي نظرة متفحصة على العنصر الأول في ظاهرة المخدرات (عنصر المنتج وأتباعه من الوكلاء والمهربين والموزعين والمروجين) نجد ان المنتجين للمخدرات قد تدربوا على فنون الاحتيال والخداع والمكر محاولين بذلك إخفاء أنشطتهم عن أنظار النظام والقانون، ورغم ان تجار المخدرات يدركون خطورة وقوعهم تحت طائلة العقاب إلا ان الأرباح الهائلة التي يحصدها تجار المخدرات تدفعهم إلى تجاهل أي مخاطر أو أي مخاوف من السلطات (في بعض دول العالم) متبعين في ذلك الكثير من «استراتيجيات» التحايل والخداع ومن أهم صور التحايل التي يستخدمها المتاجرون بالمخدرات -خصوصا كبار التجار منهم - وسيلة غسيل الأموال Money Laundry)) وعملية غسيل الأموال تعتبر جريمة تنبثق في الأصل من سلوك جريمي آخر أو من مخالفة قانونية صريحة تتعلق بالكسب غير المشروع، كما في حالة الكسب عن طريق السرقات والاختلاسات، أو الرشوة، أو من خلال الاتجار بالعملات في السوق السوداء، أو الكسب عن طريق تزييف العملات أو تزوير المستندات المالية... وغيرها من أشكال الطرق غير المشروعة في اكتساب الدخل، وفي حالة المكاسب الناتجة عن المتاجرة بالمخدرات فإن عملية غسيل الأموال تعني تحويل المكاسب المالية غير المشروعة والناتجة من بيع المخدرات إلى أرصدة مالية أو ممتلكات عينية متنوعة وذلك بعد إضفاء صفة الشرعية عليها، لأن الممارسين لتجارة المخدرات سرعان ما يعتقدون بأن الاتجار بها أمر يحقق لهم الربح الوفير في فترة قياسية وبالتالي سوف يحققون فرصة أكبر لحياة تحفها الرفاهية والثراء، ولذلك فإنهم يستخدمون وسيلة غسيل الأموال لإخفاء مصدر كسبهم غير المشروع خشية ان يكشف أمرهم من قبل السلطات أو حتى من قبل عامة أفراد المجتمع، ويرى الكثير من المختصين بأن عملية الغسيل تتبع في الغالب ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى تعرف بمرحلة الإيداع النقدي للمال الذي تم اكتسابه من المتاجرة بالمخدرات في حسابات بنكية، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثانية وهي مرحلة تمويه المصدر حيث تبدأ عملية إخفاء مصدر النقود التي تم إيداعها وذلك من خلال سلسلة متكررة من عمليات التحويل البنكي عبر العديد من الحسابات البنكية المحلية والخارجية مع الاستعانة في كثير من الأحيان بخدمات الحسابات السرية التي يتيحها النظام المصرفي في بعض البلدان، أما المرحلة الثالثة فتسمى بمرحلة الدمج وتتمثل في عملية حركة النقود التي تم غسلها إذ يتم توظيفها في أنشطة تجارية مشروعة، وفي بعض بلدان العالم التي تنشط فيها عملية المتاجرة بالمخدرات، تبدأ سلسلة غسيل الأموال من مراكز المدن الكبيرة مروراً ببعض المناشط التجارية مثل الحوانيت الصغيرة وحانات الخمور وأندية المراهنة والقمار وفنادق الدرجة الثالثة إلى ان تنتهي إلى عملية الإيداع في البنوك وكأنها أموال تم اكتسابها من هذه المناشط التجارية (وهي في الواقع أثمان المخدرات التي تم بيعها)، ويقدر بعض الخبراء ان ما يتم إيداعه على شكل أرصدة مالية يصل إلى 300 بليون دولار سنويا، وهذه الأموال يتم ايداعها في أوقات متفرقة على شكل أوراق نقدية حصل عليها مروجو الشوارع الذين عادة ما يعملون في عصابات صغيرة وهذه العصابات تمثل الموزعين المباشرين لشبكة كبرى من المنتجين، وكثيرا ما يتم استعمال بعض أفراد العصابات الصغيرة لمراقبة وحماية أنشطتهم، وبعد وصول المبالغ إلى كبار المنتجين (بعد استقطاع عمولات الترويج) عن طريق التحويل البنكي - أو من خلال نقلها مباشرة دون مرورها بالحسابات البنكية- تودع هذه الأموال فيما بعد في حسابات سرية تمهيداً لغسلها من خلال المراحل سالفة الذكر، وكثيراً ما يستخدم كبار المنتجين للمخدرات أساليب تمويهية متنوعة بقصد إخفاء أي معالم لمصادر دخولهم وذلك من خلال امتلاك بعض الأنشطة التجارية والتي ليس من الضروري ان تكون أنشطة ذات عائد اقتصادي مربح، فما هو مهم بالنسبة لهم ان تستخدم هذه الأعمال التجارية (المشروعة في ظاهرها) لتغطية نشاطاتهم غير المشروعة حيث تودع الأموال التي اكتسبت من الاتجار بالمخدرات في حسابات باسم هذه المناشط التجارية (مؤسسات، أو حوانيت، أو فنادق صغيرة أو مطاعم شعبية.. أو ما شابه ذلك)، ويلجأ بعض المنتجين إلى اختيار مثل هذه الأعمال التجارية بعينها حيث نادراً ما يسأل العملاء عن فواتير الشراء الأمر الذي يمكنهم من ممارسة أنشطتهم بعيداً عن عمليات الرقابة المباشرة على الدخل (التي يفرضها النظام المالي في بعض الدول) وبهذا يتمكن المنتجون من إيداع أي مبالغ مالية باسم الأنشطة التجارية- رغم أنها أموال اكتسب معظمها عن طريق الاتجار بالمخدرات- ومن ثم يتم استثمار هذه الأموال في نشاط تجاري آخر أو في مشاريع صناعية، أو قد تصبح في شكل ودائع طويلة الأجل لدى المصارف والبنوك أو قد تحوّل إلى سلع معمرة مثل العقارات والمجوهرات النفيسة، أو قد تحوّل إلى أسهم أو سندات مالية، ولأن هذه الأموال مرت بسلسلة من عمليات الغسيل فإنه يتم التعامل معها على أنها أموال مشروعة حيث يكون من الصعب التعرف على مصدرها وبالتالي تختلط هذه الأموال بالأموال المتداولة بالأسواق المالية. ولو نظرنا إلى المضار المتعلقة بظاهرة غسيل الأموال الناتجة عن مكاسب المتاجرة بالمخدرات سنجد ان لها الكثير من الآثار السيئة والخطيرة التي تلحق بالفرد والمجتمع معاً، ومن أمثلة تلك المضار ما يلي: 1- تعتبر المخدرات من الأشياء المحرمة سواء كان ذلك في تعاطيها أو المتاجرة بها، وهناك الدلائل القاطعة في التشريع الإسلامي على حرمتها حيث ان في تعاطي المخدرات اعتداء وهدم للضرورات الخمس التي حرصت الشريعة الإسلامية على حمايتها وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، ولذلك اعتبرت المتاجرة بها من ضروب الفساد في الأرض التي تستوجب التعزير حتى ولو كان ذلك بالقتل (انظر قراري هيئة كبار العلماء بالمملكة رقم 85، وتاريخ 11/11/1411ه، والقرار 138 وتاريخ 20/6/1407ه)، ومن جهة أخرى حرم التعامل بالمخدرات قياساً على تحريم شرب الخمورو أو بيعها وأكل ثمنها، ولذلك اعتبرت المتاجرة بالخمور أو المخدرات من باب أكل الأموال بالباطل، وفي الوقت الحاضر نلاحظ ان حتى البلدان ذات الأنظمة الوضعية تسعى لمحاربة ظاهرة غسيل الأموال وان كان هناك تفاوتاً بين هذه الدول من حيث مرونة أو شدة الأنظمة التي تضعها لمواجهة هذه الظاهرة. 2- إلى جانب ما تحدثه المخدرات من آثار صحية خطيرة لمستخدميها فإن الاتجار بها يتسبب في هدر واستنزاف الأموال الهائلة من أفراد الشعب المتعاطين لها، وعند عدم مقدرتهم على توفير الأثمان الباهظة للمخدرات التي يتعاطونها فإنهم سرعان ما يتجهون إلى ممارسة السلوكيات الإجرامية في سبيل الحصول على المال مما يتسببون في الاعتداء على أموال وممتلكات الآخرين أو حتى على حياتهم أحياناً. وفي هذا الصدد أشار معهد دراسات الإدمان على المخدرات بلندن (ISDD) مؤخراً إلى حقيقة مؤداها ان أسعار مادة الكوكائين في كثير من بلدان الاستهلاك تتراوح بين 000 ،60 - 000 ،80 دولار للكيلو غرام من هذه المادة، وهذا ما يعادل أكثر من 6 أضعاف سعر كيلو الذهب، كما ان سعر الكيلو غرام الواحد من مادة الهيروين يتراوح بين 000 ،90 - 000 ،150 دولار، أي ما يزيد على 9 أضعاف سعر كيلو من الذهب. 3- أثناء عملية غسيل الأموال كثيراً ما يقوم تجار المخدرات بنقل مبالغ كبيرة من العملات الوطنية النقدية (أثمان المخدرات) إلى خارج البلاد مما يتسبب ذلك في تعرض العملة الوطنية إلى التذبذب نتيجة إلى زيادة عرضها في الأسواق الخارجية ومن ثم هبوط قيمتها أمام العملات الأخرى. ولمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة يجب توثيق التعاون الدولي في تفعيل وتطبيق الاتفاقيات الخاصة بالمواجهة الدولية والإقليمية لعمليات غسيل الأموال الناتجة عن الاتجار بالمخدرات مثل الاتفاقيات التالية: - اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الاتجار في المخدرات والمؤثرات العقلية لعام 1988م. - توصيات لجنة العمل الاقتصادية لعام 1995م التي تبنتها الدول الصناعية السبع بالتنسيق مع العديد من دول العالم. - توصيات مؤتمر القاهرة الدولي التاسع لمنع الجريمة عام 1995م والذي تضمن توصيات خاصة بمكافحة الاتجار بالمخدرات ومواجهة غسيل الأموال الناتجة عنها. - قرارات لجنة الأممالمتحدة لمكافحة المخدرات لعام 1995م التي أوصت بتبني عدد من الاستراتيجيات والأساليب التي تحد من العرض والطلب على المخدرات. - الاتفاقية العربية المنبثقة عن مؤتمر وزراء الداخلية العرب بتونس عام 1994م والتي أكدت على ضرورة التعاون والتنسيق الإقليمي من أجل مكافحة المخدرات ومنع غسيل الأموال الناتجة عنها. إلى جانب ضرورة تطبيق مثل هذه الاتفاقيات والمواثيق، فإني أرى أن هناك عدداً من الاجراءات العملية والتي لها أهميتها في الحد من ظاهرة غسيل الأموال الناتجة عن تجارة المخدرات ومن تلك الاجراءات ما يلي: ضرورة ايجاد جهاز رقابي وطني، وذلك لمراقبة النشاطات المالية غير المشروعة وضرورة الزام البنوك والمؤسسات المالية ذات العلاقة بتدوين معلومات كافية عن اسم وهوية وعنوان الشخص الذي يقوم بعمليات تحويل نقدية إلى الخارج، مع توفير سجل حاسوبي لهذه المعلومات حتى يسهل متابعة أي عملية يشتبه بها. وأخيراً ضرورة التعاون الإقليمي والدولي المستمر في وضع التدابير الأمنية التي تمنع تهريب المخدرات حتى ولو بكميات صغيرة وذلك لقطع الطريق على كل من يحاول الانتفاع بتجارة المخدرات. [email protected]