أودّ في مستهلّ هذا المساق ان اوضح نقطتين مهمتين. أولاهما: ان نقد عمل ما لا يعني بالضرورة الغضّ من قيمته أو قيمة صاحبه. ولو لم يكن العمل يستأهل الدرس لما التفت اليه أصلاً. وثانيتهما: ان القول إن عملاً ما ليس برواية، لا ينفي عنه أدبيته، وإبداعه، وإنما قد يرى فيه ما هو أكبر من الرواية، أي اختراقاً لأعراف الجنس الأدبي المألوفة، وتوليد جنسٍ ذي شخصية مستقلة جديدة. أما بعد.. فلقد رأى القارئ في المساق الماضي كيف تعامل المبدع محمد حسن علوان مع شخصية بطل نصه «سقف الكفاية». وما قيل هنالك، عن المبالغة المسرفة في رسم شخصية البطل ناصر، يصدق هنا أيضاً على رسم شخصية صاحبته «مها». وذلك مراوحة بين وجهين اثنين: تحلّلها المتمرّد على قيود القيم الأسرية والأخلاقية للمجتمع - باسم الحب المنفلت من كل الحدود- في نحوٍ لا نظير له حتى في حكايات الجواري بألف ليلة وليلة! تلك الفتاة التي يصفها بأنها «تجاوزت منطقة الوأد.. وحلّقت أنثى.. فوق مجتمع الصيادين..»، «ص 396». وهو ما كان يمجّده فيها البطلُ الراوي. ثم على الطرف النقيض يظهر ضعفها المستكين، الذي عزا اليه تخلّيها عن حبه بسهولة - كما تخلّت عن رجال سابقين تعاقبوا عليها! - وانقيادها طواعية للزواج برجل آخر لا تحبه، اسمه «سالم». إنها شخصية تظل افتراضية، متناقضة كشخصية ناصر. وهي غير مقنعة، لا من الناحية النفسية فحسب، ولكن أيضاً من حيث هي تسبح خارج السياق الزماني والمكاني، والروحي والثقافي. ولا يمكن تبرير صورتها إزاء تلك المعايير، وإن التمس الكاتب تعليلاته لها، من قبيل قوله: إنها كانت مريضة بالتمرّد على قسوة الأسرة - في مقابل تعلّله هو بقسوة عشقه إيّاها- أو أنها كانت «محشوة بالخوف الرجالي منذ المراهقة، وهي التي رأت من قسوة اخوتها الذكور ما رأت..» «ص 239»، أو ان أنوثتها تتسع لأكثر من رجل «!!». «ص 270». هذا علي حين لم تتسع رجولة ناصر لأكثر من امرأة واحدة، هي «مها» التي عدّها «سقف الكفاية» من العالم!. ثم ماذا عن شخصية ديار؟ يذكر الكاتب عنه أنه كان طفلاً في السابعة من عمره إبان الحرب العراقية الإيرانية، «ص 317». وانه عاش سن المراهقة في بغداد، ثم تزوج هناك وأنجب، ثم توفيت زوجته بعد ولادة ابنهما، الذي فقده هو الآخر بسبب الحصار الاقتصادي المفروض على العراق. وحين قابله ناصر في كندا كان قد امضى فيها سبع سنوات. فإذا عرف القارئ أن حرب العراق وإيران كانت بين 1980 و1988، بدا له أن دياراً لم يكن يكبر البطل - الذي كان كما قال الكاتب يتعثر في عتبات العشرين - إلا ببضع سنوات، أي أنه هو الآخر في العشرينيات. وهو ما يؤكده الكاتب في الصفحتين 351 - 352، حين يذكر أنه إنما يكبره بسنوات قليلة. إذن إن دياراً في حوالي الخامسة والعشرين حين تعرّف به ناصر. وهذا يعني أنه قد هاجر الى كندا في نحو الثامنة عشرة من عمره. وأنه قبل هذه السن كان - كما يصف الكاتب - قد مر بسنّ المراهقة في بغداد، ثم تزوج ثم أنجب، ثم ماتت زوجه وطفله، ثم ساءت ظروفه، فهاجر. على أنه يشير أيضاً الى ان لديارٍ أخاً أصغر منه يعمل في المخابرات العراقية، كان يستدعيه وينتظره ليكون جلاّده! ويدلّ على أنه أصغر منه قول ديار عن أم أخيه: حملته بعيداً عن أهلها بعد وفاة أبي» «ص 392». وإذا لم يكن تلاؤم كل هذه التفاصيل مستحيلاً واقعياً، فإنها تظل غريبة الاتفاق. والأهم من ذلك أنها بعيدة عن شخصية ديار العامة، بما درج ناصر على نسبته اليه من النضج في التجربة، والحكمة في النظر، والعلم الدقيق بتفاصيل تاريخ العراق، الحديث على الأقل. «ص 161 - 166». هذا إضافة الى جسارته، كالشنفرى، إذ يفتك بزنجي كندا، الأضخم منه مرتين «ص 214 - 215، 349». ثم ما تمّيز به من نظره الصائب للأمور، ووعيه العميق في العلاقات الإنسانية، وخبرته الواضحة في الحياة. ولكن لا غرابة، ما دام هذا العبقري قد كان منذ نعومة أظفاره مثلاً - حسب زعم الراوي- يحاكم، بعقل طفل، خلافات السنَّة والشيعة، ثم يقوم بكتابة تحليلاته المذهبية واستنتاجاته عنها في أوراق، يخفيها عن عيني والديه وأهله. وهكذا استطاع ان يتخذ له مذهباً خاصاً، لا سنياً ولا شيعياً! «انظر: ص 252». بل لا غرو أصلاً، ما دام البطل نفسه بتمتع بكل تلك العبقريات الاستثنائية، التي لا يشقّ لها غبار، لو لا أن سَبَتْه فتاة واحدة، قضمت أخضره ويابسه!. أمّا نهاية هذا العمل، الذي اختيار له صاحبه اسم رواية، فجاءت بمثابة صفعة لتوقعات القارئ الروائية، هكذا: بعد شهر، كنت أجلس في المجلس الصغير الذي كتبتُ فيه الفصول الأخيرة، أكنسُ المكان وراء ذاكرتي بهدوء، عندما دخلت مها..». هكذا.. ببساطة، ودون مقدمات! ويا للنهاية المعجزة! ويا لخيبة القارئ الفنية- بعد عناد الصبر على كل الشكوى من حب مستحيل بقي الراوي يجأر به- حينما يصل الى نهاية سحرية كهذه، بلا أحداث ولا مقدمات تكافئ توقعات الصفحات «المهلكة» التي مرت به! إنها نهاية قصيدة رومانسية لا نهاية رواية! أو إن شئت هي نهاية فيلم سينمائي عربي قديم، ينتهي دائماً بزواج البطل بالبطلة، وليتهنَّ سعيد بسعيدة! إلا أن سذاجة النهاية هنا تتدنى عن تلك النهايات الكلاسيكية لتصل الى درجة أشد وهماً، إن في مستواها الواقعي أو مستواها الفني. ولئن كانت الأمور كما شاهدها القارئ في هذه «القصيدة - الرواية»، فما أسهل الحياة وما أيسر الكتابة الروائية!. وليست هذه بالنهاية المفتوحة. لأنه لم يكن هناك أصلاً شيء من المفارقات في النص ينتهي بنا الى تعدّد الاحتمالات وانفتاح التوقعات! بل هي نهاية واضحة الإشارة الى انه «مها» طُلقت - كما كان ناصر يحلم ويتمنى - ودخلت عليه أو دخل عليها، سيان، بما يوحي به الدخول من زواجهما.. وكفى الله العاشقين العناء!. وبهذا قفز المؤلف الى النتيجة قبل ان تفضي اليها صيررورة الأحداث نفسها، مع ان القصة في حقيقتها هي فنٌّ في تصوير صيرورات إنسانية ما، لا مجرد عرض نتائج كان المؤلف يرتب لها ويسعى الى الوصول اليها منذ البداية، ومن ثم فإن على من يأخذ الرواية مأخذ الجدّ ان يعتني بما يحدث لا بنتيجة ما يحدث فقط، كما ينّبه الى ذلك «ويليك، رينيه، او ستن وارين، 1987» نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي «بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، 225. وإذن بعد أن أرهقت الكتابة الكاتب والقارئ معاً، أنهاها صاحبها في سطرين.. ثم وقّع اسمه وأرّخ! ويا للفاجعة!. كيف يتخلص من عبء نهاية صاعقة لنص طويل كهذه؟ جعل قبل السطرين سطرين، قال فيهما ما يلي: وانتظرت أياماً حتى تبرد عاطفتي من حرارة البوح، ثم حمل البريد روايتي الى بلد بعيد، لم أكن بالغه.. إلا بشق «الكتابة»!!. كأنه يقول إن رواية ناصر قد أدّت الى حلّ العقدة، فحل الحب والسلام ساحة العاشقين! مع ان نشر رواية كهذه، باعترافاتها الصاخبة، وفي مجتمع محافظ، وأسرة قاسية - تحدث عنها الكاتب طويلاً، وعزا اليها حرمان ناصر من مها- كل أولئك كان حرياً بأن يعقد مهمة البطل أمام صاحبته وأهلها ولا يسهّلها! أليس في سلفية تلك التركيبة القيمية الاجتماعية مثلاً ان أهل ليلى قد حرموا قيساً منها لقصائد قالها فيها؟! مع أن هذا البائس الأخير لم يبح بشيء بينهما أكثر من كلمات حبّ عذرية!. ومع هذا، فقد جاءت هذه النهاية ل«سقف الكفاية» متوقعة تماماً من قبل قارئ ناقد. متوقعة تماماً من حيث كان الكاتب شاعراً لا راوياً.. او ان شاء، هو شاعر راوٍ، يمارس «قصيدة - رواية». ولذلك جاءت نهاية نصّه حُلُماً شعرياً، لأن النص كان منذ مستهله يدوّن بأحلام شاعر. ومن ثم يصح القول إن البطل الحقيقي في هذا العمل هو «الشعر»، وما عداه ثوب فضفاض اتخذ شكل السرد الروائيّ. قطوف: «رهبة الظل»، مجموعة شعرية اولى للشاعر محمد ابراهيم يعقوب «2001، منشورات نادي جازان الأدبي». وصلني مؤخراً، إهداء رفيع. وهدايا الشعر أشف دائماً من أن تمسّها كلمات النثر. في هذه المجموعة، اشتغالٌ جادّ على شحن المفردة الشعرية بالإيحاء المكتظّ. يرادف ذلك محاولات صوب تشكيل لوحات شعرية، يبدو تأثرها أحياناً بالشاعر محمد الثبيتي تحديداً. أما على مستوى الإيقاع، فالشاعر يبحر في موسيقى الشعر العربي بأبحرها الثرية، غير هياب ولا منكسر. مع بضعة نصوص ركب فيها جداول تفعيلية. تحية لباكورة يعقوب، الخضل صوتها أصالة وجِدّة. أنا طفلٌ خرافيٌّ وتاريخ من الشمسِ فتلك غمامتي عطشى وهذا الظلُّ من غرسي.. [email protected] أستاذ مشارك بآداب جامعة الملك سعود