مبتدأ ل«ميلان كونديرا» رجل وامرأة يلتقيان مصادفة عند العودة إلى مسقط رأسهما الذي هاجرا منه قبل عشرين عاماً.. ترى هل باستطاعتهما أن يشرعا بقصة حب ما كادت تبدأ آنذاك في بلدهما؟ المسألة أن ذكرياتهما ما عادت تتشابه بعد هذا الغياب «إذ ماذا تستطيع ذاكرتنا المسكينة أن تفعل واقعياً؟ فهي ليست قادرة على أن تحتجز من الماضي إلا جزءاً يسيراً، دون أن يدري أحد لماذا هذا الجزء وليس غيره». نحن نعيش غارقين في النسيان إلى أعلى رؤوسنا ولا نريد أن نعرف ذلك. «2» هو زمن عبرناه.. جسراً من المحاولات الناجحة أحياناً والفاشلة أحياناً أخرى.. جسراً بعيداً جداً.. بمسافة المعاناة التي عشناها يوما ما.. وتخلقنا من بعدها أرواحاً كثيرة الأسئلة.. كثيرة التفكير.. كثيرة النسيان «وهذا اكتشاف مذهل سقط على رؤوسنا ليوقظنا من زيف تعايشنا معه زمناً طويلاً.. إننا لا زلنا نتذكر التاريخ جملاً وكلمات ومواقف.. اكتشفنا أننا لا نحمل معنا سوى ذاكرة الألم العام الذي قد يظهر في كل شيء دون إرجاعه لسبب بعينه.. أي ارتقينا من الألم الخاص إلى الألم العام.. فشكراً لطعنة الظهر الأولى.. والأخيرة تلك التي يصبح نزيفها لغة لا دماء.. وألمها محفز للحياة.. وليس للموت..!!. «3» المشهد الأول: كتاب كبير أوراقه بلغت من العمر عتياً.. قهرها الزمان فترة.. وقهرته ما تبقى من العمر.. كتاب استقر على صفحة بيضاء ناصعة.. طاهرة.. فارغة من وجوه مسمومة بما لا يحتمل.. خالية من تعليقات ساخرة أمدتنا الحياة بها قهراً طويلاً أسميناه مجازا العمر. المشهد الثاني: ريح قوية قادمة من هناك.. من البعيد الذي فقد اسمه الذي كنا نتغنى به.. واكتفينا بمسماه الجديد «البعيد» رمزاً أن كان «كانت» ولا تزال كشارة ضوء سريعة تتوهج للاختفاء وليس للبقاء..!! ريح قوية عاتية.. تتغلغل في كل المتاح.. في كل ما تجده أمامها.. ريح تتحول إلى أصابع قاسية تقلب صفحات الكتاب الذي استقرت أخيراً أوراقه برضى.. صفحات تعرض مشاهد عدة.. مشاهد دخلت منذ زمن غيبوبة طويلة لا تنتهي.. صفحات.. صفحات.. وجوه.. مواقف.. غياب.. حضور.. ألم.. ضحك.. حياة.. وموت.. تأمل.. وبياض.. ريح قوية تأتي في لحظة الغفلة.. أو لحظة التعود.. أو لحظة التعايش.. «ليكن»، تأتي تفرد جبروتها.. تحاول أن تزعزع في البياض البياض.. وتستطيع، لزمن يقاس ببرهة تعجب.. هذه الريح المحملة بقوافل من رائحة الشمال.. من برده وجمره وناره.. ومذاق القهوة فيه.. هذه الريح المحملة بغيمه.. ومطره.. ماذا تريد؟؟ «نخرج من الإحساس إلى الأسئلة.. ألم أقل سابقاً إنه النسيان الذي نتدارك ذاكرته بالأسئلة؟». مشهد عامر بالرياح.. مشهد حروفه تتطاير.. تعلو وتهبط.. ولا تستقر.. ريح باردة تعصف بقوة.. أكاد أسمع صوتها الآن.. هذه اللحظة!! المشهد الثالث: وتخلد الريح للسكون.. تتوقف منحنية للهدوء.. مودعة.. كريمة أن أنهت ثورتها بأن أعادت صفحات الكتاب إلى بياضه..!! عمر الرياح قصير.. هكذا كان سلامها الرحيل.. المشهد الرابع: هناك أشياء لا توجد إلا مرة واحدة في حياتنا.. هذه الأشياء هي ذاتها التي تبدأ في التناقص مع الأيام لتنتهي إلى بعض شيء.. أو تنتهي إلى كونها قصة سردها الليل ذات حكاية.. أو تنتهي إلى ذكرى تنشط في المناسبات فقط.. إننا ننسى أو وللدقة نتعايش مع ما تبقى لدينا.. حتى أسئلتنا الساذجة عن زمن مضى.. عن بقائنا في ذاكرة الآخرين.. عن ولائهم أو تحولهم لهذا الصخب المعاش.. كل أسئلتنا تلك ليست إلا اختباراً نعرض الذاكرة له.. لتخفق عن جدارة.. وترسم لنا ملامح النسيان من جديد مع أول انشغال تأخذنا إليه الحياة.. يكذبون كثيراً أولئك الذين ينشغلون بالولاء.. ينشغلون بتغليف الذاكرة حتى لا تفقد نكهتها.. ينشغلون بصلاحية أطول لوجوه هي كالأخيلة غدت.. ينشغلون بما يكتشفون به عند قدومه أن التفاصيل نسيت وأن الكلمات تعد على أصابع البرود كلمة باردة وأخرى مثلجة.. وأن النار التي توقعناها ستشعل كل أوراق الذاكرة قد أطفأتها قطرة ماء صغيرة سقطت من غيمة صيف عابرة. المشهد الأخير: تصفيق يملأ فراغ الكون.. لهذا الإنسان الذي يقلب الصفحة.. ويكتب الغد كأن لا أمس كان...!!! آخر المبتدأ: تغربل الحياة كل الحقائق.. وتستقر بنا على «الحنين» فقط.. وهذا كثير جداً.. ويكفي..!!! ص.ب: 28688 الرياض:11447