بكت كثيراً.. واشتد بكاؤها.. وجدت نفسها في غورقة الدموع.. وأحست لذلك هدوءها الكاذب.. وطمأنيتها العابرة.. كانت تلمح طفلها الطريح في نظرات مسروقة.. تعجز عن التحديق.. تأبى عواطفها أن ترسل صورة لعينيها...! كي تخفي عالم طفلها إلى البعيد.. حيث لا تشعر.. ولكن كيف.. حين مرض صغيرها.. اسعفته.. عملت ما تستطيع فهي لم تلمس اعراضاً مخيفة.. واستمرت في اسعافه إلى أن توقفت في اللحظة التي أجبرتها على حمله مباشرة إلى مركز الرعاية الصحية وبعدها تم تحويله إلى المستشفى الذي يناسبه.. في تلك الأثناء أحست أن الحالة ليست طبيعية.. وأوحى إليها قلبها أن الأمر خطير.. نُقلت معه إلى ذلك المستشفى وفي الليلة الأولى.. نامت بجانبه.. لقد كانت مرهقة، منهكة.. كل الأيام السابقة.. وفجأة نهضت مفزوعة، نظرت بجانبها.. وكانت كل أجزائها ترتعش مشاركة - هذا النظر - في التصويب على هيئة صغيرها المتوسد.. وعندما ارتاح بالها لسباته وغفوته.. نهضت بخفة..وخطت خطوات.. ساكنة وكشفت ستار الغرفة، فامتدت إلى ناظريها خيوط أشعة الشمس.. وتوغل إلى عينيها بريق هذه الأشعة داخل هذا الجو المظلم.. توضأت وأدت ما فاتها من فرض.. جلست منزوية يرافقها فكرها وهاجسها، ما الذي حل بطفلي.. ماذا أصاب صغيري.. كيف هي قطعة من جسد تنهار وتتوجع.. هل يتألم؟ هل سيصحو؟ هل سألمحه ثانية؟ وتناثرت في خواطرها الأسئلة، وداهمتها الانفعالات واحتدت في روحها المشاعر وتوهجت العواطف.. حتى شعرت بألم على خديها حين أحرقتها الدموع.. انتظرت.. ساقتها قدماها إلى باب الغرفة.. وتمركزت.. وتلقفت إلى هؤلاء المارة.. لعلهم يعرفون.. وليتهم يجيبون.. انها تشعر بالساعات تطول.. لم يصل إليها أحد، لم يحادثها غير فئة من الممرضات اللاتي لن يفدنها بشيء غير عبارات التهدئة والتخفيف.. عادت مكتئبة من مكانها.. وجلست يعاودها شغب فكرها وعجز أحاسيسها.. وأثناء ذلك.. نهضت وكل ما فيها يهتز.. شرخ مسمعها صرخة مريضها، وأنينه الذي لا يقف لحظة.. حتى زاد ارتباكها.. وارتعشت أطرافها.. تضاعف في جوفها مر وقساوة هذه اللحظة.. واستمرت الونات تعذب حسها وتأسر أملها.. وأمام الصغير زاد تنهدها، وانفجر الأنين داخل جوفها، وكاد وعيها يغيب، لولا أنها رأت طاقم الأطباء قد حضر، وعلى هيئتهم تبدو العجلة ويعلوهم اليأس.. تناقلت نظراتها بين الطفل والأطباء.. وهنا أدركت أنهم يهمون بأخذ الصغير إلى مكان آخر.. علا صوتها بالولولة.. واستمرت ترسل إليهم كلمات الترجي أن يبقى معها أو تذهب معهم.. وفي خضم هذه المشاعر.. عجزت عن امتلاك قواها.. سقطت تغطيها الغشوة والانهيار.. وأمام المهدئات تبدد جسدها بين الذبول والمقاومة.. خرجت من غرفتها تجول في الممر القريب لا تعرف شيئاً عن المصير.. لا تدرك رمزاً أو اشارة تبسط لها الطريق أو تفتح رجاء للنهاية.. وبينما هي كذلك لمحت على الجانب امرأة.. ورغم أن حجمها لم يكن صغيراً، إلا أنها غابت عن عينيها وبدا لها ما كانت تحمله! إنه مصحف بحجم اليد تمسكت به تلك المرأة وانعكف رأسها إليه تاركة العنان لعينيها وقلبها كي تبحر في هذا الاعجاز الذي يحميها وظل كذلك طالما هي تعود إليه كلما أحست بالضعف والهوان.. وهي الآن في انتظار خروج والدها من غرفة العمليات.. لم تصرخ.. لم تولول.. ولم ولن ترتفع آهاتها وأنينها ما دامت تحتضن الشفاء. اقتربت والدة الصغير من المرأة وكأن شيئاً في جسدها يشدها إليها، لم تقدر أن تميل بعينيها عن هذا الكتاب.. أنصب حنينها إليه، تركزت مشاعرها حوله.. نسيت طفلها.. حاولت أن تتحدث إلى المرأة.. تنهدت.. وتبعثرت الكلمات على لسانها.. جلست بجوارها.. انساب هدوء المرأة إليها.. وصل إلى مسمعها ما يريح بالها ويخفف مصابها.. وارتاحت لسماعها.. وأطمأنت.. وكأن هماً انزاح سريعاً.. شعرت المرأة بهم وعناء أم الطفل.. ولم تتأخر في تسليم المصحف لها، وتقديم النصح الذي يعينها على تجاوز أزمتها وبلائها.. لقد تلطفت معها.. وكانت لها المعين الذي يلفت نظرها في أمر هام قد غاب عن ذهنها.. تصفحت معها آيات الشفاء وقلبت بين يديها سطور الرجاء.. فتوغلت في جعبتها ألوان الدواء.. فأدركت أنها كانت بعيدة.. واستوعبت أنها لم تكن سعيدة.. بولولتها ظلت كئيبة.. وما فعلته زاد المصيبة.. ولكنها الآن.. في هذه اللحظات تبدلت.. في هذه المشاعر تحولت.. وعند هذه الصحوة تغيرت.. سرى الاطمئنان إلى قلبها.. وحوى الذكر وجدها.. وانزاح عن فكرها هذا التخبط وتشعب فيها الوعي والتدبر والابصار.. وجدت في هذا الإلهام الراحة والهدوء فأخذت تكرر ما تقرأه وتعيد ما تتلوه، فتشعر حينها بنفس جديدة غير التي كانت، وتحس أن تلك الغفلة قد ابتعدت عنها وصحت على نفس ساكنة، وبصيرة مستنكرة هذا الضياع الذي كانت تعانيه، وبعدها تذكرت أنها في انتظار لحظة الفرج الرباني لطفلها المتوجع المعتل.. فأسرعت مهرولة إلى دورة المياه، توضأت ولسانها يلهج بالذكر والدعاء، ازداد سكنها، وتجسم هدوءها، وعندما فرغت من أداء بعض الركعات.. طاف حول فكرها نمط من الذكريات السالفة.. وارتسمت أمام عينيها صورة طفلها أيام كانت تداعبه، وهو بجانبها يرتع ويحمل بين يديه تلك الألعاب المتناثرة، رفعت يديها تتضرع متوسلة إلى بارئها أن يلطف بحال صغيرها، وأن يجلي بلاءه ويشفي سقمه، تنهدت بهذه الكلمات بكل جوارحها، وكل ثقتها بقدرة البارئ الذي يحيي العظام وهي رميم.