الصديق الأستاذ علي محمد العيسى أسهم في نثره.. وأسهم في شعره وإن كان بشكل أقل.. وهذا لا يعني الانتقاص من تجربته الشعرية.. والشعورية التي أودعها ديوانه الثاني «ليت شعري».. وكأنما كان يردد مقولة الشاعر.. «ليت شعري هذه الدنيا لمن؟».. ماذا عن التجربة؟ كيف أمكن لريشته رسم الصور؟ وبأي أطر استطاع استكمال اللوحة؟ هذا ما سوف تأتي إليه هذه الاستراحة مع تلك التجربة المبكرة المتأخرة.. استهل ديوانه بهذا البيت من الشعر: ما الشعر إلا ما تناظم عقده مما تناثر دره.. أي جمعه لا فرده لا أدري لمن هذا البيت.. وأحسب أن الشعر ليس نظماً.. تتناثر درره.. وإنما مشاعر متدفقة مشحونة بالصور الجميلة والأخيلة التي تتحرك على ايقاع الابداعية والجمالية والاثارة والتأثير. إذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس جديراً أن يقال له شعر « حديث الصمت» احياناً أبلغ من حديث الصوت إذا استحوذ على ملكات النفس بإيماءاته وايحاءاته.. إن مجرد ابتسامة طفل.. وإن مجرد دمعة تسيل على خد مكلوم أو مظلوم رغم أنها صامتة تزلزل داخل الوجدان بركاناً من الانفعالات والصدى أكثر مما تحدثه ألف قصيدة وقصيدة ميتة الاحساس.. ماذا عن حديث صمت شاعرنا العيسى؟! «أنا واليراع.. ودفتري.. وكتابي وحقيبتي.. وبقية الأسباب.. نرنو إلى دار يمر هواؤها.. وشموسها من واسع الأبواب.. ما أجمل الآراء تحمل همنا.. فتفوق حسن المنظر الخلاب.. حسناً أعد للأمر عدته.. ووظف لمنازلته أدوات التنظير والتصوير والتعبير.. وجميعها مطلوبة.. إذ بدونها لا عطاء.. ولا غطاء للجسد الشعري العاري الذي لا يقدر على حجب سوأته.. لندخل مع شاعرنا حلبة صراعه.. وميدان سباقه.. لننظر.. ولننتظر.. ان نزعته الاجتماعية المجتمعية كرست لديه الرغبة في أن يقارع خصماً لئيماً طالما اشتكى منه الناس ان اللؤم.. وما أدراك ما اللؤم.. «أريت أسوأ حالة تبلى بها نفس الكريم؟ من أن يكون بحاجة انجازها عند اللئيم أمطاره ليست تغيث ولو تكبدت الغيوم». لماذا؟! لأنها غيوم لا تمطر.. وإنما تحجب صحوة السماء.. وتكتم أنفاس الأرض.. إلى أن يقول: تبرى الجراح الغائرات وجرح لؤم يستديم.. ومن استذل بذل لؤم. لك خانعاً فهو الملوم وليت صديقي تجاوز مفردة «لك» لاستقام البيت وبدت قامته أكثر رشاقة.. وتمضي أبياته على هذا السياق في مباشرة وددت لو استغنى عنها لأنها عملية تحصيل حاصل لا تضيف المزيد إلى أبياته المعبرة بصدق.. «الشعر والشاعر».. ماذا عنهما؟ « من يبدع الفن في يراعه! من يبعث الشعر غير شاعر! تفلت الشعر من خيوطه لم يبق باق سوى النوادر قبل أن استرسل مع شاعرنا أطرح بعض ملاحظات أرجو أن تكون صائبة.. أولاها أن اليراع أي القلم هو الذي يرسم الصورة ويبدع الفن.. وكان الأجدر بأخي أن يستبدل «في» بالميم أي من يراعه.. هذه واحدة.. الثانية إذا كان من يبعث الشعر غير شاعر فمن ذا سيكون؟ لا أفهم ماذا يقصد.. وأمضي معه في رحلة ما تبقى من القصيدة يدفعني الشوق.. إلا أن الشوك أدمى أقدامي ولا أقول إقدامي فالنتوءات برزت على الجادة: «مهلاً.. مجيرن أم عامر» « من يأكل الزاد بالأنامل لا يأكل الزاد بالأظافر» إلى آخر القصيدة.. أبيات تستدعي من شاعرنا اعادة النظر لأنها لا تساعد على تشوقات المسيرة.. لاهتزازها.. وضعف صياغتها وحبكتها الشعرية.. ادع «الاشاعة» جانبا.. لأنها ترهق الأعصاب مهما كان اطارها مقبولاً.. وبالذات حين تكون لها خصوصية القصد.. فخير من الاشاعة «هدف الوسيلة». «لا تحسبن النقد معول هادم وأنظر إليه كآلة للبناء لا ينهض الانسان إن هدهدته قد يحدث الاسعاد بعد شقاء في مبضع الجراح بعض تألم بعض الجراح مسببات شفاء كم من حديث ليس يثمر غرسه والصمت قد يجدي مع الأحياء» ولعلمي الألم يستشعره المريض من مبضع الجراح.. وليس مبضع الجراح الذي يساعد على استئصال المرض.. هذا من جانب.. ومن جانب آخر فإن الوسيلة هي الموصلة إلى الهدف وليس العكس.. حبذا لو كان العنوان: «وسيلة الهدف.. القصيدة في حد ذاتها نابضة بالصدق. « من ينشدون الحق تشرق شمسهم إن هم اضاءوا سائر الأرجاء». جميل هذا المقطع من القصيدة.. وعلى قصيدته التي أعقبتها تحت عنوان «الناقد الفاقد» اثرت ألا اتعرض لها بنقد خشية أن أكون فاقداً لأدبيات النقد.. وأتركها لحسن صديقي العيسى لعله يسترجعها ويراجعها ويعمل فيها مشرطه الجراحي.. واخاله القادر على ذلك.. في مقطوعته «إصلاح الذات قبل الذوات» احترت بداية في العنوان.. تخيلت خطأ مطبعياً حدث حوَّل مفردة «الفوات» إلى «الذوات» لا أدري أكان حدسي صائباً أم أن الأمر كما هو.. «المرء ان لبس الحياة بساطة ونزاهة لم يعترض المحرج من سار في بطء تعثر سيره ولقد يجاوز حده من يدلج كما من بطيء أو سريع حاصد عنتاً وكان يظنها لا تفرج». آداب السير على مسلك الحياة أخذ من شاعرنا قسطاً من تفكيره.. إلا أن هفوة بسيطة يمكن له استدراكها حين وصف من يسير ببطء أنه عرضة للتعثر.. والصحيح التأخر.. التعثر دائماً رديف الحركة الجنونية التي لا تبصر مواطئ أقدامها.. يمضي بنا في تجربته.. «من يسبق الأحداث تكبو خيله ومن استقر مع الجليد يثلج! إن الجمود أو الجحود تخلف أو رقدة لم ينتظرها المسرح» كلنا معك في أن الجحود تنكر.. وأن الجمود موات.. وأنهما أدوات تخلف.. مثلهما ذلك التخلف عن قراءة الحدث قبل أن تقع الفأس في الرأس.. وتلك اشكالية يعاني منها عالمنا الثالث.. الذي لا يتعامل مع الحدث هذا إن تعامل إلا بعد وقوعه.. إن الفعل أجدى وأجدر من رد الفعل.. ولهذا فإنني أستميح الشاعر عذراً وأقول له.. لا بد وأن نواكب الأحداث هذا إذا لم نملك القدرة على استباقها.. وبين الأمل والعمل يتحرك يراع شاعرنا: « من قضى العمر كله لم تصادفه معضلات كفكف الدمع يا أخي هذه سنة الحياة ليس يجدي بكاؤنا إنما الصبر والثبات إن تدع ساحة الرماة لا تدع نخبة الكماة اطرح اليأس جانباً واتخذ مئزر الثقات واصل المسير عازماً مبعداً حاجز البغات» لعلها من أجمل قصائد الديوان وأبعدها عن التقريرية والمباشرة.. ولو خيرت لاخترتها عنواناً للديوان مكافأة لها.. القصيدة طويلة.. من أروع أبياتها هذا البيت... «ليس في الشعر جذوة إن دعا الناس للممات» صدقت درب الكعبة.. إنك على حق. وللظهور أسباب كما يراها الشاعر.. انه يتحدث عن قوافي الشعر التي تتراقص أمام عينيه في فتون فيغازلها ويطارحها أبياتاً.. لأبيات.. انه يقول: «فإن قرئت سأسمعها بشوق وان كتبت ستعشقها عيوني».. جميل هذا التعبير والتصوير.. «بحور الشعر تفرقهم ويبقى لموج البحر عالية السفين فلا في القول منطقهم بليغ وما للفعل وصل بالرؤين» لعله يخاطب في دواخله أولئك الذين يتعشقون الشهرة دون استحقاق.. ويملؤون الصفحات دون حق.. لا رغبة في الاثراء.. وإنما في الثراء وحب الظهور.. ومحاكاة من لا يستحقون المحاكاة.. «يظنون الظهور دليل عز وكم ظهرت نواص بالجنون» وما دمنا على مقربة من جنون الظهور لنهرب إلى مكان آخر طلباً للسلامة.. ويبدو أن السلامة غائبة.. فالصراع على أشده بين الظنون واليقين تُرى أيهما ينتصر؟ «أحسن الظن للأنام لئلا يصبح الظن مصدراً للخطيئة أسوأ الحال أن تدين بظن دون عجلى دلائل أو بطيئة» ثروة الذل زلة وهي وهم فاقة العز تصطفى بالمشيئة جلنا يدرك الحقيقة.. لكن قلما تصبح العقول جريئة..» وتلك مشكلتنا ادراك الحقيقة وعدم البوح منها.. ومن ظنونه ويقينه إلى تعجيله وتأجيله.. «إذا كان الطموح رفيق وهن تحول في الشموخ إلى هوان» أبداً يا صديقي لا.. ولم.. ولن يأتي الطموح رهين وهن ولا رفيق وهن.. الطموح جذوة حياة متوقدة تأبى الوهن وترفض الهوان.. الافتراض هنا في غير محله.. القصيدة في مجملها تحتاج إلى عملية ترميم صياغي وبلاغي لعله الأقدر على انجازه فهو صاحب الدار وصاحب القرار.. هذه المرة يتحدث عن أمة تجد طريقها.. لعله حمل أمامها مشعل الدرب كي تعبر النفق المظلم.. ماذا قال في حداثه للقافلة الحائرة..؟ «إذ احضرت فليس لها اعتبار وان ذهبت فليس لها ادكار وان عزمت سيعوزها اقتدار وان بدأت فليس لها اصطبار».. لقد حطم بيأسه مجاديف النجاة.. هكذا وبهذه الصورة البائسة اليائسة استهل قصيدته.. ويمضي في سوداويته وتشاؤمه إلى درجة القنوط.. إلا أنه أخيراً يستدرك مذكراً بمفاتيح النجاح.. «كتاب الله يغبطه الفنار وشرع الله وهو لها طريق تشق له الفيافي والبحار فلو أخذت به وبكل صدق لعانقها التقدم والفخار» وما إخالها إلا آخذة به.. متمسكة بنواصيه.. انه طوق النجاة لعالم تتقاذفه أمواج المطامع.. وتحيط به أخطار المتربصين.. والمتلصصين.. أما غزلياته.. فلا وجود لها في شعره.. لقد أبدلها عزلا لعاطفته.. وامتشاقاً لسهم عروبته في لامية النظام الدولي الجديد «أطول قصائد الديوان.. وأكثرها عرضة لهزات الموج وتداعياته.. يبدؤها بأبيات تنزف الماً ودماً.. «ولد الجنين فخلته مسلولاً فإذا به شهد الحياة مكبلا سُلب الإرادة فهو دمية عابث أضفت إلى سرر البلاء عليلاً».. لعله أراد أن يقول «أضافته» بدلاً من اضفت.. لا يهم.. الذي يهمه ألف مليون من البشر: « يا ألف مليون نفد جموعهم صفراً تلاشى تائهاً مشلولا يرمون بعضهموا ببعض عنوة وعدوهم يجني الثمار حفيلا صلبت سراييفو وهانت قدسها واستشهد الخيل الأبي خجولا».. ملاحظة عابرة.. القدس قدسنا.. قدس فلسطين.. لا قدس سراييفو.. الأجدر أن يقول «قدسنا» بهذه الأبيات من قصيدته الطويلة يأتي مسك الختام لقصة شعر.. وحكاية شاعر حلَّق في بعض شعره.. وأخفق في البعض الآخر.. ولن يضيره أبداً أن يخفق فكل الشعراء يمتلكون مواطن قوة.. ومواطن ضعف.. فلكل قوة ضعف.. ولكل ضعف قوة.. المهم أن تشحن طاقة من التجربة نضيفها ونوظفها.. ونحولها إلى دعامة يستند عليها طموحنا الحياتي بما فيه طموح الفكر بجناحيه الشعر، والنثر.. حينها يقوى الضعيف وتكتمل الصورة.. وتظل المسيرة عامرة بمرتاديها.. عابرة لحلم الأمل في بناء أمثل.. الرياض: ص. ب: 231185