بالأمس القريب فقد الوسط الثقافي العربي، وبخاصة السعودي علماً بارزاً من أعلامها الأوائل، وأديباً وشاعراً من شعراء الجزيرة العربية شارك في إعداد الكلمة العربية الصادقة منها المقروءة والمسموعة، ألا وهو معالي الشيخ عبدالله بلخير أحد تلاميذ الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل مؤسس الدولة السعودية الحديثة، وكان الفقيد من بين الذين ساهموا في احداث الجهاز الإعلامي الرسمي في المملكة العربية السعودية عند تأسيسها، وكان من الشخصيات الإعلامية البارزة في تأسيس أول وزارة للإعلام فيها. والفقيد من مواليد حضرموت عام 1333ه الموافق 1914م، وكانت مدينة بيروت التي أحبها في حياة شبابه الأولى، الرحلة الأخيرة من حياة العمر عن عمر بلغ «90» عاماً حيث توفي يوم الأحد الرابع من شوال 1423ه الثامن من كانون الأول «ديسمبر» 2002م أثناء تلقيه العلاج الطبي وهو في سن السيخوخة في أحد المستشفيات اللبنانية، وكان قد أوصى أنجاله على أن يدفن في مكان وفاته أياً كان تيمناً بالسنة النبوية المطهرة ولهذا تحققت تلك الأمنية من وصيته. وباعتبار أن الفقيد من شعراء الجزيرة العربية الفطاحل وأنا كاتب المقال من أصدقائه الكثر في العالم العربي لذلك وجدت من الأنسب أن أختار بعض الأبيات الشعرية لشاعر عربي كبير وكان هذا الشاعر من معارف الفقيد وأصدقائه، وكان هذا الاختيار لأنني لست بشاعر ولكن هوايتي أن أسمع الشعر لذلك اخترت الأبيات من الشاعر السوري محمد سليمان الأحمد الملقب بدوي الجبل «رحمه الله» وهو من الشخصيات الوطنية البارزة التي حققت السيادة والاستقلال وطرد المستعمر الفرنسي من الوطن السوري، وكان عضواً فاعلاً في الحزب الوطني الذي أسسه أقطاب الحركة الوطنية السورية بقيادة الزعيم الكبير إبراهيم هنانو، ووجدت من الأنسب والأفضل أن تكون تلك الأبيات المختارة والقليلة مقدمة لمقالي في عزاء الشاعر العربي السعودي الصديق: أنا أبكي لكل قيد فأبكي لقريضي تغله الأوزان إن قلبي خميلة تنبت الأحزان ورداً ونرجساً وشقيقاً فأذهب كما ذهب الربيع على الربن منه يد وعلى القلوب له يد لم يكن موته فراقاً ولكن هذه أوبة الخيال البعيد الشعر ما ملك النفوس وهزها وأثار ثائرها الكمين وقادها تتلو الطبيعة في الصباح قصائداً بزت بهن لبيدها وزيادها هذه أشعار من قصائد شعرية طويلة من شجا الشاعر بدوي الجبل القيت في رثاء اخوانه من رجال السياسة وبعض كبار الشعراء في العالم العربي، وكان كامل مروة صاحب الحياة اللبنانية ينشر قصائد البدوي في صدر الصفحة الأولى مكان افتتاحية صاحب الحياة. وحباً في زيادة المعلومات عن ماضي وتاريخ الفقيد كانت استعانتي بمؤلف الدكتور عبدالرحمن الشبيلي عضو مجلس الشورى، وعضو مجلس الإعلام، وأستاذ الإعلام في جامعة الملك سعود، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة «الجزيرة» للصحافة والنشر سابقاً، حيث يعتبر الدكتور الشبيلي بين الأوائل الذين ساهموا في قيام الجهاز الإعلامي ومنه الإعلام المرئي «التلفزيون» حيث تولى إدارة التلفزيون السعودي منذ تأسيسه وقد سمى ذلك المؤلف :«الإعلام» في المملكة العربية السعودية، وكان عبارة عن دراسة وثائقية وصفية تحليلية لأبرز الحوادث والمناسبات الإعلامية، وصدر المؤلف مع إعلان الرياض عاصمة للثقافة العربية عام 2002م. لقد كان الفقيد معالي الشيخ عبدالله بلخير قد رافق والده عندما غادر مسقط رأسه حضرموت إلى الحجاز عام 1345ه وكان في الثانية من عمره، ودرس علومه في مدرسة الفلاح في مكةالمكرمة، ثم انتقل إلى بيروت لاستكمال علومه في الجامعة الأمريكية، وتخرج منها، بدأ الفقيد عمله الوظيفي عام 1355ه 1936م مترجماً وسكرتيراً في الديوان الملكي في عهد الملك عبدالعزيز وذلك في إدارة شؤون الصحافة والأنباء، إذ كان يتابع مع زملائه رصد الأخبار من الإذاعات والصحف الخارجية في ذاك التاريخ. وعند قيام وحدة نجد والحجاز وكانت أول وحدة عربية تقام في العالم العربي وبجهود ثابتة وراسخة من الملك عبدالعزيز،و مازالت حتى هذه الساعة حريصة على كيانها بتماسك الشعب السعودي العربي المسلم وبجهود أبناء المؤسس الراحل «رحم الله من توفي منهم وحفظ الذين يتولون المسؤولية في هذه المرحلة حفظهم الله». وقد كان الملك المؤسس قد شرع في تأسيس جهاز الدولة الحديثة، وكانت تنظيمات الدولة في أيامها الأولى لتحديث شعب الجهاز الإداري الذي أطلق عليه بلاط الملك عبدالعزيز وقد ضم 17 شعبة تمثل أجهزة الدولة، وفي مقدمتها المجلس الخاص في البلاط الملكي، ثم الشعبة السياسية التي كان لها الدور الأساسي الفعال للوقوف على أخبار وأحداث العالم وبخاصة الدول العربية الشقيقة، من خلال ما يذاع في أجهزة الاستماع في الإذاعات، ولهذه الدائرة إدارة شؤون الصحافة والأنباء والتي بدأ فيها عبدالله بلخير في شبابه بوظيفة سكرتير ومترجم. وكانت الشعبة الثالثة في البلاط الملكي والديوان الملكي، والرابعة شعبة الشفرة والبرقيات، والخامسة شعبة البادية.. الخ.. وبعد وفاة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - ومبايعة الملك سعود بن عبدالعزيز النجل الأكبر للعاهل السعودي لتولي شؤون البلاد «رحمه الله» برزت في سياسة المملكة عناية وأهمية خاصة لشؤون المطبوعات ووسائل النشر من حرص قيادة المملكة مواكبة العالم عربياً ودولياً بقضايا النشر لابراز نشاط كل دولة ونشر سياستها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً على العالم الآخر وجاءت هذه الفكرة عندما شعر الملك سعود بالحاجة إلى وجود جهة خاصة تهتم بتزويد الصحافة السعودية بتغطية جيدة ومصورة للنشاط الرسمي في داخل المملكة وخارجها وبخاصة في ضوء مشاركة المملكة بأعمال المؤتمر الأول لدول عدم الانحياز الذي عقد في باندونغ بإندونيسيا.. وكانت بدعوة خاصة من الرئيس الإندونيسي الدكتور أحمد سوكارنو، وعقد المؤتمر جلساته يوم 25 شعبان 1374ه 18 نيسان، أبريل» 1955م ومثل المملكة في هذا المؤتمر وفد برئاسة الأمير فيصل بن عبدالعزيز «رحمه الله»، وقد تم تغطية نشاطات زعماء الدول التي شاركت في المؤتمر بالصور والأخبار في صحافة بلادهم. وبدأ التحضير لهذا المؤتمر في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية بعد أن تحررت الكثير من الدول في القارة الآسيوية والقارة الأفريقية من الاستعمار البريطاني والفرنسي والايطالي والهولندي، لذلك أطلق على المؤتمر صفة «عدم الانحياز، ولأن يكون بعيداً عن الدول الغربية المستعمرة لدول العالم الثالث وكانت مرحلة لتحرير بعض الدول في شرق أوروبا التي استعمرها الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الأولى والثانية في العالم. وبذل زعماء كل من رئيس الهند جواهر لال نهرو، والرئيس الأندونيسي سوكارنو، والرئيس اليوغوسلافي جوزف برونترتيتو، إلى جانب الرئيس جمال عبدالناصر رئيس جمهورية مصر كل جهد لعقد هذا المؤتمر وبلغ عدد الدول المشاركة فيه «28» دولة، وتمثلت روساء الحكومات تلك الدول، أو وزراء خارجيتها في المؤتمر. ومنذ ذلك التاريخ صدر الأمر الملكي برقم «21/5/29/2014/في 26/10/1374ه 17/6/1955م يقضي بدمج قلم المطبوعات ومديرية الإذاعة، التي كانت تتبع وزارة المالية، في مديرية جديدة عامة للإذاعة والصحافة والنشر وتركيزها في مرجع واحد وكان مقرها مدينة جدة العاصمة الدبلوماسية للمملكة، وحدد الأمر الملكي مهمتهم وهي التنظيم والتنسيق والاشراف على جميع وسائل النشر، ونشر الحقائق والمعلومات عن سير حركة الاصلاح فيها والدفاع عن سمعتها، على أن يقوم سكرتير الملك وهو عبدالله بلخير ووضع بمرتبة وزير مفوض بالمرتبة الأولى كما استمر في وظيفته في الديوان الملكي. وفي يوم 25 ربيع الآخر 1381ه الرابع من تشرين أول «اكتوبر» 1961م منح الملك سعود عبدالله بلخير لقب وزير دولة لشؤون الإذاعة والصحافة والنشر مع اشراكه على شعبة الأنباء والنشر في الديوان الملكي، ولهذا اعتبر الفقيد رحمه الله أول وزير للإعلام في المملكة واستمر في عمله حتى يوم الرابع من ربيع الثاني 1382ه 28 آذار - مارس 1963م حيث أعفي من منصبه وتقاعد عن عمله الرسمي، وصدر الأمر الملكي بتعيين الشيخ جميل الحجيلان وزيراً للإعلام حيث نقل من عمله كأول سفير سعودي في دولة الكويت بعد استقلالها. والحقيقة كانت تربطني صداقة أخوية مع معالي الشيخ عبدالله بلخير في النصف الثاني من القرن الماضي وقد استمرت عدة سنوات، حتى أيام تقاعده سواء من منزله في جدة حيث كنت أتردد على زيارته، كما ألتقي معه في مدينة بيروت التي عرفها في شبابه وظل على ودها حتى آخر يوم من حياته. وكانت علاقته مع الصحف اللبنانية ممتازة وخاصة مع كامل مروة ناشر وصاحب جريدة «الحياة» باعتبارها كانت الصحيفة العربية الأولى في العالم العربي بصرف النظر عن ما يكنه أعداء الحياة من أصحاب الأقلام اليسارية المتطرفة بسبب موقفها الواضح من الأنظمة العربية العسكرية التي فرضت سيطرتها على بعض الدول العربية. وكان الفقيد يتردد على صاحب الحياة في مكتبه وقد وصف بعملاق الصحافة العربية وقد فقدته الصحافة العربية يوم 16 ايار - مايو 1966م عندما اغتيل برصاصة صامتة أثناء تأديته الواجب الصحفي في مكتبه وقد ارتكب الحادث الأليم أحد عملاء النظام الناصري في لبنان ويدعى عدنان سلطاني الذي لجأ بعد الحادث إلى سفارة جمهورية مصر في بيروت في عهد السفير عبدالحميد غالب. وكان الفقيد عبدالله بلخير يشارك في اجتماعات الندوة السياسية التي تعقد في غرفة خاصة بجانب مكتب كامل مروة، ويحضرها العديد من ساسة العالم العربي المقيمين على أرض لبنان أو الذين يتوافدون على زيارته في مناسبات عديدة وقد كان هذا اللقاء العربي كنموذج لبرلمان عربي موحد، أو ما يسمى بمجلس شورى كما نصت عليه الشريعة الإسلامية، تعرض فيه شؤون العالم العربي وما يحيط به من أخطار بسبب محاولة الاتحاد السوفياتي في ذاك التاريخ الذي انتشرت فيه المبادئ اليسارية الماركسية الشيوعية المتطرفة لتنافس الدول الغربية المسيطرة على منطقة الشرق العربي. وحاول الاتحاد السوفياتي وضع أول قدم له في المنطقة بهدف نشر مبادئه اليسارية في البلدان العربية وتمكن في النصف الثاني من عقد الخمسينات من التغلغل في بعض الدول العربية منها سورية ومصر مستفيداً من وقوع العدوان الثلاثي على قناة السويس يوم 29 أكتوبر «تشرين أول» 1956م إذ كان الرئيس السوري شكري القوتلي أول رئيس عربي يزور العاصمة السوفياتية موسكو في خطوة سياسية عربية وليطلب من زعماء الكرملين الوقوف إلى جانب القضايا العربية ودعم الرئيس عبدالناصر وتقديم العون لرد العدوان الإسرائيلي المدعوم من بريطانيا وفرنسا. كما تغلغل الاتحاد السوفياتي في العراق بعد انقلاب الرابع عشر من تموز 1958م ومد يده لزعيم الانقلاب عبدالكريم قاسم لإلغاء حلف بغداد المدعوم من بريطانيا وتركيا وإيران وباكستان. ولما تكشفت أهداف زعماء الكرملين في هذه المنطقة العربية وغاياتها الاستعمارية أمام جمال عبدالناصر على أساس أن موسكو تخطط لاقامة هلال خصيب أحمر في المنطقة العربية لذلك جرت تغييرات عدائية جذرية في السياسة بين عبدالناصر والاتحاد السوفياتي. وكانت الأوضاع العربية في ذاك التاريخ تمر بمخاطر كبيرة قد تكون السبب في اندلاع حرب ثالثة عالمية في هذه المنطقة الحساسة وهو موقع استراتيجي والحديث عن هذا الموضوع المتشعب قد يطول كثيراً لذلك علينا أن نتابع الهدف من هذا المقال المخصص لشخصية الفقيد الإعلامي والأديب والشاعر السعودي عبدالله بلخير. من خلال تردد الفقيد على مدينة بيروت كوَّن معاليه صداقات عديدة مختلفة قوامها رجال السياسة والأدب والثقافة والشعر، وكان يشارك في بعض الندوات الأدبية والثقافية التي تشهدها مدينة بيروت ومنها، الندوة الأسبوعية التي يعقدها المجاهد الفلسطيني محمد علي الطاهر الملقب «أبا الحسن« في داره قبل ظهر يوم الأحد كما يشارك أيضاً في لقاء الأكاديمية الأسبوعية التي تعقد مساء كل اثنين في دار المجاهد الفلسطيني ويحضرها بعض الشخصيات العلمية في لبنان وخارجه وكان الفقيد يشارك في الندوة وفي الأكاديمية بأدبه وثقافته العالية وشعره العربي الأصيل. ومن رواد الندوة العديد من الشخصيات العربية المقيمة على أرض لبنان ومن كل من يحط الرحال في العاصمة بيروت فهناك شخصيات من المغرب وتونس لأن المجاهد محمد علي الطاهر له علاقات مميزة مع الملك محمد الخامس ثم مع نجله الملك الحسن الثاني، وعلاقات أخرى مع الرئيس الحبيب بورقيبة المجاهد التونسي الذي حقق السيادة والاستقلال لبلده تونس لذلك يشارك في الندوة كل سفراء المغرب وتونس الذين تعاقبوا على هذا المنصب في بيروت، كما يشارك في تلك اللقاءات المجاهد الفلسطيني الحاج أمين الحسين ورئيس ورزاء اليمن سابقاً أحمد محمد نعمان وولده محمد وأبناء عائلة آل الوزير في اليمن حيث أطلق عليهم الفئة الثالثة خلال الصراع على اليمن بين الملكيين والجمهوريين وهناك شخصيات سورية وعراقية وعربية أخرى تحضر تلك اللقاءات التي تعرض فيها قضايا الأمة العربية، ومنهم الدكتور مأمون الكزبري رئيس وزراء أول حكومة في عهد الانفصال في سورية والشاعر بدوي الجبل، ونقيب الصحافة السورية الأستاذ نصوح بابيل، صاحب جريدة «الأيام»، وشقيق جبري الشاعر الدمشقي الكبير وغيرهم بالاضافة لشخصيات لبنانية متعددة من سياسيين أمثال الوزير والنائب نصري المعلوف والنائب الدرزي وليد جنبلاط الذي خلف والده الزعيم كمال جنبلاط، والسيدة خولة أرسلان كريمة أمير البيان شكيب أرسلان وهي زوجة كمال جنبلاط وولدها وليد، والمحامي الكبير محسن سليم وغيرهم. وعرف بأن تعيين سفراء المغرب وتونس في لبنان حسب الاتفاق الجنتلمان بين المجاهد محمد علي الطاهر وقيادة كل من المغرب، وتونس، أن يتم استخراج محمد علي الطاهر قبل استخراج وزارة الخارجية اللبنانية، لذلك ستكون الموافقة الأولى من هذا المجاهد الفلسطيني من خلال حرصه الشديد لهذه العلاقات. ولمعرفة العلاقة بين الحبيب بورقيبة والمجاهد محمد علي الطاهر فإن هذا الأمر يعود عندما كان المجاهد التونسي يتنقل بين بعض الدول بهدف حصوله على دعم تونس لنيل استقلالها، وعند اقامته في القاهرة، كان محمد علي الطاهر يقيم فيها وقد أصدر جريدة «الشورى» لشرح القضية الفلسطينية وأتخذ مقراً له في أحد الشوارع وفتح محلاً صغيراً لبيع زيت الحلو الفلسطيني وهذا المحل كان لتمويه نشاطه نحو بلده، لذلك استضاف المجاهد التونسي بورقيبة في منزله للنوم ليلاً وحجز له قاعة خاصة في فندق شيبرد لاستقبال ضيوف صديقه الزعيم التونسي ليقال بأن المجاهد التونسي يقيم في الفندق. وعند زيارة الرئيس بورقيبة العاصمة بيروت عام 1965م وأطلق مشروعه السلمي بين العرب واليهود لتحقيق السلام في المنطقة وقد قوبل ذلك المشروع بمعارضة من الزعماء الفلسطينيين وقادة الأحزاب القومية في لبنان وألقيت على الرئيس التونسي كميات كبيرة من البيض والبندورة تعبيراً عن رفض الشعب اللبناني لمشاريع المفاوضات مع العدو الإسرائيلي، والحقيقة أن جمال عبدالناصر كان على وفاق مع الرئيس بورقيبة في عرضه لهذا الاقتراح، ولكن عبدالناصر عندما علم بتلك الاهانات التي تلقاها بورقيبة تراجع عن اتفاقه وترك الزعيم التونسي ليلقى العقاب وحده في الشارع العربي. عرف عن الفقيد بلخير بأنه محب لجميع البلدان العربية على حد سواء وروى لي رحمه الله بأنه في عام 1951م في صيف ذلك العام قرر السفر إلى دمشق لقضاء أيام في العاصمة السورية، ولدى وصوله إلى المخفر السوري قادماً من لبنان لم يسمح له موظف الأمن بدخول دمشق إلا بعد أن يدفع الرسم المفروض على دخول سورية والبالغ «50» ليرة سورية في ذاك التاريخ هذا الرسم الذي فرض في عهد حكم أديب شيشكلي وبوزارة خالد العظمة بسبب فرض القطيعة بين البلدين. فاحتج بلخير على هذا الرسم وقال للموظف أريد مقابلة رئيس المخفر وبعد المقابلة قال رحم الله الرئيس:«أنا عربي سعودي ولن أسمح لنفسي أن أدفع أي مبلغ سواء كان صغيراً أو كبيراً لأدخل الأرض السورية، لذلك سأعود من حيث أتيت إلى لبنان ولن أزور سورية بعد هذا التاريخ. وقال لرئيس المركز: «أين شعار: بلاد العرب أوطاني» الذي أنشده الزعيم الوطني السوري فخري البارودي. والحقيقة كان المناضل الباروي قد وضع نشيداً خلال وجود الاستعمار: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدانِ ومن نجدٍ إلى يمن إلى مصر فتطوانِ وأمام هذا التهديد الحازم - كما قال بلخير - طلب رئيس المركز التمهل قليلاً ورحب به مع تقديم القهوة، وأجرى اتصالاً هاتفياً مع رؤسائه بدمشق فصدرت إليه تعليمات بالترحيب بالضيف العربي والسماح له بدخول سورية، وصدرت التعليمات لالغاء الرسم على العرب منذ ذلك التاريخ. وفي اللقاءات المتعددة مع عبدالله بلخير والتي شارك في بعضها الأستاذ كامل مروة وأنا شخصياً كان رحمه الله يحدثنا عن ركائز السياسة الإعلامية التي قامت عليها المملكة العربية السعودية، وأن المسيرة الأولى للإعلام شهدت تطورات ومراحل مختلفة باعتبار أن الإعلام العربي كان يعيش في ظروف حساسة ويحتاج الأمر ايجاد تخطيط متكامل لتلك السياسة لتحقيق ما يتطلب من اصلاحات على اعتبار أن الإعلام هو الوجه الأول والأمثل لكيان الدولة، وبخاصة أن سياسة المملكة تقوم على ركائز الشريعة الإسلامية ولهذا تم التركيز في عهد الملك عبدالعزيز على أن تلتزم المملكة بالأسس الثابتة التي تقوم عليها التوجهات الدينية بالنسبة للأمور الفكرية وصدق الكلمة مع توجيه المواطن نحو تاريخ الدولة السعودية بهدف تنويره بالحقائق التاريخية، مع عدم التدخل بسياسات الدول الأخرى من حرص الملك عبدالعزيز على أن تكون علاقات المملكة مع دول العالم على الاحترام المتبادل مع حرص المؤسس الأول للدولة على موقف الحياد في الحرب والسلم عالمياً. كما كان يعتقد الملك عبدالعزيز أن كل أمة تريد أن تنهض لا بد لكل فرد فيها من أن يقوم بواجباته نحو الوطن. وقال: لقد قاد الملك عبدالعزيز حركة اصلاح متكاملة ووضع نواة مجتمع جديد في الجزيرة العربية المترامية الأطراف، ونشر الأمان والطمأنينة وقضى على الجريمة، وقضى حياته في قصر من طين، ولكن كان اهتمامه بإقامة المدن الحديثة في أرجاء الجزيرة وفي قلب الصحراء، لذلك خلد الشعب السعودي المليك الباني وحافظ على هذا التراث الحضاري. ويشير عبدالله بلخير في أحاديثه يقول: إلى جانب سعي الملك عبدالعزيز للإصلاح والصلاح في الوطن وبطولته المعجزة كان يعمل بهمة تنطلق من التوقد شعلته ومن العزيمة طاقتها، ومن الطموح منتهى آفاقه، وكان الملك عبدالعزيز رجلاً متواضعاً، يفتح لأبناء شعبه قلبه الكبير، وكان الشعب السعودي بالمقابل يلتف حول مليكهم، مستظلين بعطفه، مطمئنين لعدله، شاعرين بأنه منهم ولهم. واختار مجالسه المفتوحة مع شعبه، وكانت سنة الحكم والعدل في الجزيرة العربية لم تعرفها الشعوب الأخرى، وأخذها أنجاله، لأن هذه المجالس تحمل معاني الديمقراطية الإسلامية الحقة، يتخللها الحوار المفتوح بين أركان الدولة وأفراد الشعب، وهي تساعد على حاجة المواطنين والعمل على تلبيتها، وتقديم الحلول للمشاكل والعقبات للحفاظ على مسيرة الاصلاح، فقد كان - طيب الله ثراه - يتحدث مع الجميع حديث الحق والإيمان الذي نصت عليها الشريعة الإسلامية والعمل بموجبها ضمن كلمة الحق. لذلك الحديث التلقائي مع معالي الشيخ عبدالله بلخير الذي وضع لمساته على السياسة الإعلامية في تلك المرحلة التي تأسست فيها الدولة السعودية الحديثة يحتاج لصفحات عديدة من تاريخ الملك عبدالعزيز باعتباره كان قد رافق تلك المسيرة ما يقارب من ربع قرن مع صقر الجزيرة العربية.. وهنا نقول ونردد قول بعض الحكماء العرب: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم وأمام تلك المسيرة التي خلدها الملك عبدالعزيز في الدولة الحديثة حيث كانت مسيرة الأبطال العظماء والتي وصفها الكاتب «ماردن» من العالم الغربي حيث قال: «لم ينتظر عظماء الرجال الفرص لتقف أمامهم وتعرض ذاتها عليهم، وإنما هم ا لذين قبضوا عليها وهي مسرعة أمامهم وسخروها لقضاء مطامحهم». وفي الختام نردد قول العبقري العربي الكبير مصطفى كامل: «إنما تعرف أخلاق الرجال، ويظهر شرف نفوسهم، بقدر حبهم لوطنهم واخلاصهم في خدمته». لقد كان الفقيد عبدالله بلخير عاملاً مخلصاً لوطنه ووفياً في كل ما قدمه في شبابه وحياته العملية، رحم الله «أبا يعرب» وأسكنه فسيح جناته وألهم أنجاله الكرام وهم: يعرب، وبلقيس، وعمر، وقحطان، ومحمد سبأ، وحرمه رفيقة العمر وبناته وجميع أفراد الأسرة الصبر والسلوان فهذه سنة الحياة.. }ّولٌكٍلٌَ أٍمَّةُ أّجّلِ فّإذّا جّّاءّ أّجّلٍهٍمً لا يّسًتّأًخٌرٍونّ سّاعّةْ وّلا يّسًتّقًدٌمٍونّ (34)} {إنَّا لٌلَّهٌ وّإنَّا إلّيًهٌ رّاجٌعٍونّ}..ولا حول ولا قوة إلا بالله. * كاتب وصحافي سعودي