من المعلوم أننا نجهل البداية الفعلية للفن بنفس الدرجة التي نجهل بها تاريخ بداية النطق ونشوء اللغة. وعلى أية حال، فمن المهم أن نتعرف على ما هو المقصود بالتساؤل موضع البحث، فإن كنا نقصد بالفن جميع العلوم والفعاليات التي تتراوح بين بناء المنشآت والرسم والنحت والتصوير والغزل والنسيج وغيرها من مختلف ضروب الفن، فالجواب على ذلك أنه ليست هناك حضارة بدون فن منذ فجر التاريخ ومع الإنسان الأول نفسه. أما إن كنا نقصد التذوق الفني والترف الذي يتجاوز حدود الصناعة الفنية والمهارات والحرف اليدوية الأساسية والذي ينحصر في الأعمال الفنية كالرسم والتي تعرض في المتاحف، فمن الثابت أن هذه الظاهرة حديثة ولم تكن معروفة قديماً. وللتمييز بين نوعي الفن المذكورين ربما يكون المثال من الفن المعماري سهلاً للفهم، فمن الواضح أن جميع الحضارات وحتى البدائية منها قد تعاملت مع فنون البناء كل منها بطريقتها الخاصة وأنتجت ما يناسبها من الأبنية والمنشآت الوظيفية التي تخدم غايات وجودها واحتياجاتها. أما الأعمال المعمارية التي تتميز والتي قد ينظر لها من نواح جمالية فهي التي تميز الفن المعماري الجمالي عن الفن المعماري الوظيفي، ولكن الأول يسود في حال الترف فيما ينتج الأخير كرد فعل للحاجة. وبكلمات بسيطة يمكن القول إن للفن بشكل عام مهمتين واحدة وظيفية وذلك بخاصة في الفنون التطبيقية والأخرى جمالية وتخضع لمعايير ومقاييس متفاوتة. ولإدراك ماهية الفن عبر التاريخ لعل من الضروري إدراك الغاية التي كان يخدمها الفن في تلك الفترة التاريخية، وكلما أوغلنا في التاريخ البشري قديماً تبينت لنا حقيقة غرابة الغاية التي كان الفن يخدمها والتي تتفاوت من زمن لآخر. ومثال على هذه الغرابة ما نجده فيما لو نظرنا للمجتمعات الريفية التي ننعتها بأنها بدائية بمقارنة تجمعاتها العمرانية بالنسبة لمدننا وحواضرنا المدنية. ولا يمكننا إدراك مدى نجاعة وربما (حداثة) هذه التجمعات الريفية البسيطة بمجرد النظر إلى ناتجها ومقارنتها بمدننا، بل لا بد من النظر في حيثيات نشوئها والغاية التي أنشئت من أجلها. ومن هذه المقدمة التمهيدية كيف لنا أن ندرك تاريخ الفن بدون النظر في محتواه والغاية التي أنشئ من أجلها عبر التاريخ. ولذلك فمحاولة تتبع تاريخ الفن البشري ينبغي أن تكون مصحوبة بمحاولة تتبع ما قد نرى أنه بدايات غريبة، وفي الحقيقة فقد تكون بدايات الفن فعلاً غريبة فكيف كانت هذه البدايات الغريبة؟ يسجل لنا علماء الآثار والانثروبولوجيا بعض البدايات الحقيقية للفن والتي تعود للعصر الجليدي والتي اكتشفتها مصابيح البحاثة المتوغلين في ردهات الكهوف المظلمة بجنوب فرنسا وجنوب إسبانيا. والغريب أن هذه الرسومات التي حفلت بها هذه الكهوف والتي تسجل مظاهر من حياة الصيد التي كانوا يعيشونها تعلل من قبل العلماء اليوم بأنها تجسد معتقداتهم الغريبة بأنهم إذا رسموا صورة الغزال أو الحيوان الذي يرغبون في صيده فإن بمقدورهم السيطرة عليه بتسليط رماحهم على الصورة التي يرسمونها، تماماً مثل معتقدات الانكا بالشعوذة والقدرة على التأثير عن بعد على الشخص بدق إبرة في دمية تشبه صورته.... (يتبع العدد القادم)