شهر رمضان شهر عظيم فهو موسم للعبادة والطاعة تضاعف فيه الحسنات وتحط السيئات وهو مدرسة للتقرب الى الله والبعد عن المعاصي والموبقات والتضرع إليه بالتوبة النصوح وسؤاله سبحانه عن كل ما يقرب الى الجنة من قول أو فعل أو عمل والاستعاذة من النار وما يباعد منها من قول أو فعل أو عمل، ونحن نعيش هذه الأيام المباركة المشبعة بالأجواء الروحانية في شهر رمضان فنرجو الله أن يكون قد أدى فينا رسالته وحقق فينا طاعته وخلف وراءه آثاراً طيبة في النفوس والأخلاق ولعل الدواء يكون قد نجع ولعل العلاج يكون قد أجدى ولعل ما يقصده الإسلام من وراء الصيام والقيام قد تحقق وأفاد ولعل رمضان يكون قد لامس بروحانيته القلوب المريضة فشفاها والعقول الضالة فهداها والضمائر الميتة فأحياها والأرواح المظلمة فأنارها والنفوس الخبيثة فزكاها والأخلاق الشاذة فهذبها والأهواء الجامحة فكبحها والشهوات العارمة فظهرها والنزعات الضالة فاقتلعها والعقائد المزعزعة فثبتها والايمان الضعيف فقواه ولعله يكون قد أذاقنا حلاوة الطاعة ولذة العبادة وثمرة الهداية ومتعة القرب من الله.. لعله يكون قد علم القاطع لرحمه كيف يكون واصلا لها والمسيء لجاره كيف يكون محسناً والمذنب العاصي كيف يكون تائباً منيباً.. لعله يكون قد علمنا فعل الخير وبذل المعروف واسداء الجميل.. لعله يكون قد علمنا الصبر والجلد والتضحية والايثار والتفاني وإنكار الذات .. لعله يكون قد علمنا سمو النفس وعلو الهمة وصدق العزيمة وقوة الارادة وسعة الصدر ولين الجانب والتسامح في الأخذ والعطاء.. لعله يكون قد علمنا طهارة اليد وغض البصر وضبط الجوارح ومخالفة الشيطان. لعله يكون قد علمنا الصدق والأمانة والوفاء والاخلاص وهذه هي بعض الآثار التي كان يتركها في نفوس الصالحين السابقين ولذلك كانوا يتألمون لفراقه أيما إيلام بل لقد كان يترك فراقه في نفوسهم لوعة حارة وحسرة بالغة وألماً محضاً وأسفاً مريراً حتى انهم كانوا يودعونه بالبكاء والرثاء كما يودعون الأحبة والأصدقاء بل كما يودعون فلذات الأكباد.. ولذلك كانوا يحرصون على ما حصلوا عليه من كسب وما وصلوا إليه من منزلة وما ظفروا به من غنيمة وما فازوا به من مغفرة وما نالوه من أجر وجزاء ويظلون على عهده ووعده ويحافظون على ميثاقه ومحبته ويتمسكون بما في هذا الشهر من فضائل وتقوى وآداب وطاعة للحق سبحانه وتعالى، يدفعهم الشوق ويحدوهم الأمل ويصحبهم الرجاء حتى يأتيهم رمضان الجديد وهذا هو الاخلاص في العبادة والطاعة لله جل جلاله وتقدست أسماؤه. ولكن من الناس من لا يعرف الله إلا في رمضان ولا يعبده إلا في رمضان ولا تستقيم أخلاقه إلا في رضمان حتى إذا ما انقضت أيامه المباركة ولياليه المشرقة وساعاته السعيدة ونفحاته الايمانية ولمحاته الربانية وأجواؤه الروحانية إذا ما انقضى ذلك كله عاد الى أحضان الذنوب والآثام وانغمس في حمأة الشهوات والأهواء وعاد إلى صحبة الأشرار وأقران السوء وهذه وأيم الله لنكسة أليمة وتجارة خاسرة أوما علم هذا المسكين أن الله هو رب شعبان ورمضان وشوال بل هو رب أشهر العام كله أوما علم ان صاحب الفضل عليه في رمضان هو صاحب الفضل عليه في سائر الأيام وأن من بيده نفسه وفي قبضته حياته وموته وإليه مرجعه ومرده يوم القيامة سيحاسبه على كل شيء على اللمحة واللحظة واليوم والليلة وكل وقت وحين {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وعمر الإنسان هو طريقه الى الله فيجب أن يصوم الانسان فيه من الذنوب والمعاصي والرذائل والنقائض حتى يلقى الله ويجب أن يتمسك الانسان فيه بالفرائض والسنن ويتحلى بالمحامد والمحاسن ويتجمل بالخلق الكريم ويعمل ويجد في كل ما يعليه فإذا كانت حاله كذلك صارت كل أيامه رمضان. إذا ما المرء صام عن الخطايا فكل شهوره شهر الصيام {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد} لقد كان رمضان فرصة سانحة لفعل الخيرات وموسما مهيأً لعمل الطاعات وربيعاً خصباً لغرس الحسنات ولكننا أهملناره وضيعناه وكنا فيه كغيره من سائر الأشهر.. رمضان ورمضان ورمضان وما أكثر ما لاكت الألسنة رمضان اسم ولكن لا مسمى له ولفظ ولكن لا مفهوم منه وجسم ولكن لا روح فيه وهذا هو رمضان المقصرين الغافلين أما رمضان الله الصحيح فهو مستشفى للاسلام والمسلمين يتجلى الله على عباده فيه بفيضه السماوي ورحمته ومغرفته وعفوه ورضاه حتى يستقبلوا عامهم الجديد بقلوب سليمة ونفوس طاهرة وأرواح صافية وصدور رحبة وعزمات فتية وتقوى متجددة وأمانة صادقة ويقين تام وإيمان قوي ثابت. وقد كنا نظن أن رمضاننا الراحل من هذا النوع فقد كان المنتظر فيه أن يتوب العاصون ويهتدي الضالون ويتذكر الغافلون ويعود الهاربون من الله إلى الله فقد كان المنتظر فيه أن يقوى ضعيف الايمان ويتضاعف قليل الاحسان وأن يتنافس الأخيار والأبرار بالعطف على الفقراء والمساكين والأيتام والمعسرين والعجزة والمنقطعين فديننا الاسلامي بتعاليمه الخالدة وتوجيهاته السامية يأمرنا في رمضان وغير رمضان ان نطيع ربنا وأن نجيب رسولنا وأن نتبع كتابنا ونقهر شهواتنا وننفذ أوامر عقيدتنا بنصر مبادئها ونحيي سنة رسولنا ونحقق أهدافه ونتبع صراطه المستقيم خاصة أن وم المسلمين غيره بالامس فاليهود يتربصون بنا ودول الكفر تحرضهم علينا يمدونهم بالسلاح والذخيرة والقواعد - والأساطيل والأعوان والضباط والجنود والمال قبل ذلك وبعده دون أن يقيموا أي وزن للاسلام ودون ان يحسبوا أي حساب للعرب والمسلمين ويطيب لي ان اختم مقالي هذا بالحديث عن القرآن مأدبة الله في الأرض داعياً إلى الاكثار من تلاوته وتدبره في هذه الايام القليلة الباقية المباركة من شهر رمضان يقول الله سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. لقد كان من أبرز خصائص هذا الشهر المبارك ومن أكرم محامده وعظيم مآثره ومن أجل نعمه وأياديه أن أنزل فيه القرآن الكريم وإنها لنفحة سماوية ومكرمة ربانية أن يتجلى الله على عباده فيه بكتاب جامع ونظام شامل ودستور خالد ونور ساطع مبيناً فيه أخبار الأولين وقصص السابقين، فيه أمثال وحكم وعظات، وعبر ونظم، وأحكام وشرائع، وقوانين تتجدد كلما تجددت حاجة الانسان وتتطور كلما تطورت مصالحه فتقدم له الحل السريع لكل ما يعرض له من مشكلات أو معضلات، حدد علاقة الانسان بربه ثم علاقته بنفسه ثم علاقته بأسرته ثم علاقته بجيرانه ثم علاقته بمجتمعه الذي يعيش فيه ثم وضع بعد ذلك كله مصير الإنسان ونهايته حيث يقف بين يدي ربه فيحاسبه على موقفه من كل هذه العلاقات. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} فهو رحمة للخلق وغذاء للقلوب والأرواح وهداية للعقول والألباب ونور للبصائر يا له من كتاب محكم دقيق، عجيب في نظمه معجز في آياته بديع في أسلوبه بليغ في تعبيره فريد في ألفاظه عميق في معانيه، كتاب يصدر عنه كل كتاب وينبع منه كل صواب وتقوم به كل حجة ويتم به كل دليل وبرهان لا يكون العالم عالما إلا إذا أيده ولا يكون الخطيب خطيبا إلا إذا سدد ولا يكون الواعظ واعظا إلا إذا أرشده ولا يكون الفقيه فقيها إلا إذا نفذه وحكم به ولا يكون الأديب أديبا إلا إذا جمله وحلاه.. إذا تلاه المسلم وهو مخلص له واثق به مؤمن بكل ما فيهٍ أمده الله بما فيه من نفحات وبركات فإن كان محزونا عزاه وإن كان مهموماً سلاه وإن كان ضعيف الايمان قواه وإن كان خائفا أمنه وإن كان ضالا أرشده وهداه وإن كان بعيدا عن ربه قربه وأدناه ولا عجب ان كان ذلك من أعظم منن الله على عباده المسلمين. حقاً لقد أنزل الله القرآن في هذا الشهر المبارك تشريفاً له وتعظيماً وتقديراً له وتكريماً وتقديساً له وإجلالاً فمن حكمته أن شرّف الله رمضان بالقرآن وشرّف القرآن برمضان ومن حكمته أن الله أنزل أحب الكتب إليه وهو القرآن في أحب ليلة إليه وهي ليلة القدر في أحب شهر إليه هو شهر رمضان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام يارب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه ويقول القرآن يارب منعته النوم والراحة فشفعني فيه فيشفعان».