«تناول الجزء الأول من هذه الورقة قصائد سعدية مفرح في إطار أطروحة البحث حول تضفير القصيدة، وفيما يلي الجزء الثاني المتعلق بقصائد أشجان الهندي» 2. في قصائد أشجان الهندي تختلف زاوية الرؤية كما أشرت، فهنا أيضاً تستدعي نصوصاً معينة وتقوم الشاعرة بمزجها بنصها الشعري بحيث يتداخل النصان ويحدث التضفير، لكن الشكل الذي يتخذه التضافر يبدو أكثر حميمية مما نجد لدى سعدية، كأن الاستدعاء نوع من الاستيلاء على النص المستدعى لإدخاله في أفق شعري مغاير. على أن أشجان وهي تفعل ذلك فإنها تظل تذكرنا بالنص الأصلي بوضوح، مما يجعلنا على وعي متصل بعملية التضفير النصي. بالإضافة إلى ذلك تتخذ حميمية التضفير هنا درجة أكثر كثافة من التداخل بين نصوص يتوارى بعضها وراء البعض الآخر في خلفية القصيدة، أي أن التداخل يحدث على أكثر من مستوى، مستوى نص بارز وواضح المعالم، ومستوى نص أو نصوص متوارية. من الأمثلة على ذلك قصيدة «للحلم رائحة المطر» فهنا تستدعي الشاعرة قصيدة أحمد شوقي «يا جارة الوادي» التي عرفت من خلال غناء محمد عبدالوهاب: قطعت غابات الحصار، وما انتهى حلمي القديم، ولا صحت عيناي إلا كي تضم الغيم، تفرشه على شرفاتها، وتروح تمطره على جدب النيانم. «يا جارة الوادي طربت» وعادني في الليل سيل من حمام متظاهراً بالصمت عاد، فهل أطارحه الكلام؟ إنك لا تكاد تحس بالانتقال من الجزء العائد إلى شوقي إلى ذلك الذي تضيفه الشاعرة، ولولا الأقواس لما اتضح وجود النص الآخر إلا لمن يعرفه «وهو بالطبع أشهر من أن يعرف به». لكن السؤال الآن لماذا قصيدة شوقي؟ المعروف أن عنوان قصيدة شوقي هو «زحلة»، المدينة اللبنانية المطلة على سهل البقاع، مما يعني أنها الأقرب إلى أن تكون هي «جارة الوادي»، أي جارة السهل، لكن يبدو أن الشاعرة نظرت إلى العبارة من زاوية أخرى. فربط الجارة بالحمام في السطر التالي يوحي بأنها فهمت أو أرادت أن تفهم الجارة على أنها الحمامة، بمعنى أنها أرادت أن توظفها على هذا الأساس وبناء على إشارات متواترة إلى الحمامة بوصفها جارة، كما في قول أبي فراس الحمداني: «أقول وقد ناحت بقربي حمامة/ أيا جارتا هل تشعرين بحالي». فنحن إذاً إزاء تحوير للدلالة قد يكون مقصوداً وقد لا يكون، لكن المهم هو حدوثه وما أدى إليه ذلك الحدوث. الواضح من قصيدة أشجان اتجاه الدلالة ككل إلى إشكالية البوح وما تمثله اللغة من قيود: «يا جارة الأحلام تمطر في يدي لغة من الأغلال/ والمطر استباح غلالتي». فالصمت و «سقم الكلام» والخوف كلها ألوان من العناء تواجهها الشاعرة منذ البدء، إلى درجة أن المطر الذي يأتي عادة بالنماء والفرح يتحول هنا إلى مصدر للقيد من ناحية، وإلى أداة استباحة لإنسانية الشاعرة وخصوصيتها، وذلك عبر التوحيد المجازي بين المطر واللغة المقيدة، أي الخوف من البوح. وهنا نبدأ في تبين السبب وراء الربط بين جارة الوادي وبين الحمامة، ففي ذهن الشاعرة على ما يبدو شيء مما تشير إليه قصيدة أبي فراس: «أيضحك مأسور وتبكي طليقة/ ويسكت محزون ويندب سال». فهل نحن إزاء تناص لا واعٍ، أم إزاء انزياح متعمد للدلالة نحو قصيدة غير قصيدة شوقي، أي بقصد الربط بين قصيدتي شوقي وأبي فراس؟ الواضح هو تداخل هذه النصوص ضمن مسعى الشاعر لجدل نصها بنصوص أخرى، بعضها بارز والبعض متوارٍ، في مسعى لتعميق الإحساس بإشكاليتها الأساسية، إشكالية التعبير أو البوح. في قصيدة أخرى يطالعنا استدعاء لنص آخر، لكنه هذه المرة ينكشف على العنوان وعلى شكل مفارقة تتضح من قراءة النص. ففي قصيدة «جادك الجدب» يتجه التفكير حتماً إلى قصيدة «جادك الغيث» المعروفة بما تثيره من دلالات حول الوصل والعشق. غير أن جانب المفارقة وما تتضمنه من جدب وخيبة ما يلبث أن يتماثل للعيان متدرجاً بتدرج القصيدة إذ تنفتح للقارئ لتصير شكوى متصلة من غياب الوصل وتضرعاً إليه لكي يعود: «وصل حلمت بوصله/ حلم/ تعلق/ يا زمان الهجر/ بالفجر الندي..» ثم ما تلبث الصلة بالقصيدة الأندلسية أن تتواتر من خلال استدعاء آخر، ولكنه أكثر اندغاماً في القصيدة الحديثة، حين تقول: «لله أندلسي ومن/ جالوا مجال النفس»، وحين تتلو ذلك بقولها: «لله روح حلمها/ يفشيه غدر الغلس»، وقولها: «روح تدلت/ من عيون الحرس». وفي هذا كله ما يكثف عملية التضفير بين القصيدتين، على الرغم من أن كثافة العملية هنا أقل مما في قصيدة «للحلم رائحة المطر»، فالإشارات إلى القصيدة الأندلسية هنا منتثرة ومتباعدة على نحو يختلف عما نجد في قصيدة أشجان السابقة. على المستوى الدلالي تتضافر القصيدة المستدعاة «جادك الغيب» مع القصيدة الحديثة بأن توفر الخلفية التي يمكن إزاءها رسم الوضع المأساوي المتمثل بمفارقة الجدب. فالشاعرة تفجر أمامنا الدلالة الساكنة في التعبير المألوف والمكرر: «جادك الغيث»، أو بالأحرى في كافة أشكال التعبير الأدبي عن تمني نزول المطر مما يجري مجرى ذلك التعبير، حين تجعل الجدب هو ما يتوقع أن يجود به الزمان الشحيح إذ يحول دون الوصل. أسلوب مشابه من التضفير أو التضافر النصي يتكرر في قصيدة بعنوان «ضمائر» تستدعي فيها الشاعرة مطلع امرئ القيس الشهير «قفا نبك»، بالإضافة إلى استدعائها التلميحي أو الضمني المتواري لموشح معروف للشاعر الأندلسي ابن زهر مطلعه «أيها الساقي إليك المشتكى». والواقع أن الاستدعاءين يحدثان تضافراً خفيفاً وخفياً مع قصيدة «ضمائر»، فكأنهما ضمائر مستترة حقاً: عسعس الجرح قفا نبك ما حط على الأوجاع جرح ونما كلما عرج غيم قفا وامطراني ألما ومع أن المخاطب المثنى غير واضح الهوية، فإن القصيدة تتخذ، وبشكل عام، سمة الاحتفاء بالأحبة وبالإبداع من شاعرة تؤكد صلتها الحميمة بهم جميعاً واستعدادها أن تكون فداء للأحبة ومعاناتهم: يصطفيني الحرف إن عاتبته؟ وإلى كفي يعدو ندما/ وخيول الشعر إن خاصمتها/ أقسمت للروح أن تستسلما/ ونديمي/ كلما حدثني/ عن سيفه/ عن ضيفه/ عن حتفه/ عن ضيق ذات الرمل/ عن شح الحما/ صحت: لون الأرض يزهو/ عندما/ نسكب الحرف على خد ربيع ظلما/ ثم نغدو حلما/ ثم نغدو حلما. مجيء خيول الشعر مستسلمة للشاعرة الغاضبة أحياناً يشير إلى سيطرة الوعي الشعري أثناء عملية الكتابة، وهو ما يحدث أثناء ما أشير إليه بعملية التضفير. لكن يبدو أن العملية لا تخلو، كما سبقت الإشارة، من جانب لا واع، أو على الأقل هو ما ينبغي أن نفترضه في غياب الاستدعاء المعلن لنصوص أخرى، وهو ما يمكن من خلاله قراءة قصيدة أخرى من قصائد أشجان: «دانة». في هذه القصيدة، كما في قصيدة «للحلم رائحة المطر»، يحدث تضفير متعمد مع أغنية حجازية شعبية هي «سبحانو» التي تغنى بها المطرب السعودي فوزي محسون. فإلى جانب الاستدعاء الواضح لبعض مقاطع من نص الأغنية، لا نستطيع أن نغفل الوعي بحضور نصوص أخرى من الشعر، لكن على نحو يختلف عن حضور الأغنية، فالمقتبس منها يأتي من دون علامات تنصيص، مما يطرح السؤال: إلى أي حد يمكن اعتبار حضور هذه النصوص غير المنصصة واعياً؟ أي هل هي داخلة ضمن عملية التضفير؟ وهو نفس السؤال المطروح على استدعاء قصيدة أبي فراس الحمداني في قصيدة «للحلم رائحة المطر». في بداية القراءة لقصيدة «دانة» يطالعنا فرق مبدئي ومهم بين أسلوب التضفير المتبع فيها وذلك الذي يطالعنا في القصيدة الأولى «للحلم رائحة المطر». فبينما يصعب تبرير العلاقة بين نص شوقي «يا جارة الوادي» بما فيه من غزل حسي مباشر وبين هموم قصيدة «للحلم» إزاء الوعي واللغة، مما يبرر ربما الاستحضار الواعي أو اللواعي لقصيدة أبي فراس، نجد في «دانة» أن ثمة صلة واضحة بين هموم القصيدة وتلك التي تشغل الأغنية. ففي الأغنية تأسٍ على تلك العلاقة العاطفية المتوارية نتيجة تناسي الأحبة لمحبيهم. على أن الصلة المنعقدة بين هموم النصين، الفصيح والشعبي، لا تعني التماثل أو حتى التقابل بينهما، فالأغنية تظل تعبيراً بسيطاً أحادي البناء عن حالة الحزن الناتجة عن تنكر الأحباب أو تناسيهم، بينما في قصيدة أشجان بناء مركب ومرهف الحس، إضافة إلى تعالي الحضور الثقافي فيه من خلال تقاطعه مع نصوص أخرى، واعياً كان ذلك التقاطع، أي على شكل تضفير، أم غير ذلك. الانشغال الموضوعي الأساسي في «دانة» هو تقاطع عدد من الصلات أو التجارب العاطفية والمخاوف الناتجة عما أحدثته وتحدثه تلك الصلات من معاناة داخلية تصل إلى حد الانهيار أحياناً. ففي بدء القصيدة إشارة إلى عدد من «الذين توسدوا الأنفاس»، تتلوها مخاطبة لفرد واحد تتضمن أمنية أن يكون الأخير، أي آخر الذين توسدوا الأنفاس، أو تعلق بهم القلب: «ليتك أنت آخرهم». على المستوى البسيط للانشغال العاطفي بشخص ما تأتي أغنية فوزي محسون، لكن قصيدة «دانة» تتجاوز ذلك إلى المستوى المركب الذي يشعرنا بتاريخ من الانهيارات وركام من النسيان: ألا ليت الذين توسدوا الأنفاس ما عدلوا،/ ولا ظلموا،/ ولا وهبوا،/ ولا بخلوا،/ وليتك أنت آخرهم:/ «نستنا وإحنا في جدة»؛/ فإنك مولد والرأس يشتعل،/ وكل نوارس الميناء ترتحل:/ وبي ملل،/ ولي أمل.. الأمل الذي يظل مشتعلاً على الرغم من الملل وتوالى الخيبات هو الذي يدفع بالسفينة لتواصل البحث عن ميناء حلمها الإنساني، لكنه أيضاً لم يستطع الحيلولة دون تجرع مرارة الحزن وأكثر من ذلك تزايد الخوف من تكرار الخيبة: و «بكره»/ كيف سوف سيجيء إن نمنا/ «وصرتوا كبار»؟،/ وصارت أضحيات الخوف أغنية،/ وصار تأوه الناجين من جمر الغناء المر/ ألحاناً بلا أوتار؟ هنا تقاطع مباشر مع الأغنية يؤدي في التضفير إلى دعم الدلالة، ففي القصيدة خشية من أن يؤول هذا الارتباط العاطفي إلى ما آل إليه الوضع الذي تندبه الأغنية، حين طغى المعشوق على عاشقه فتناساه: «وسبحانو وصرتوا كبار/ وصار ينقل لكم أشعار»، كما تقول تكملة المقطع الذي لم يرد في قصيدة أشجان. أما فيما يتعلق بالنصوص الأخرى الحاضرة في النص على نحو أقل بروزاً فتشمل قصيدة المتنبي في عتاب سيف الدولة التي مطلعها: «واحر قلباه ممن قلبه شبم»، تقول أشجان في المقطع الأخير من «دانة»: ألا يا ليت من قدروا/ فكان الراحلون هم/ شغاف النار ما طرقوا..» هنا استدعاء ضمني لبيت المتنبي «إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا/ ألا تفارقهم فالراحلون هم». ومن ضمن الاستدعاءات ما يجيء في السطرين الأخيرين من القصيدة، فهنا نجد ما يبدو لي أنه تقاطع مع قصيدة حديثة ومشهورة لشاعر سعودي معاصر، هو عبدالله الصيخان: «وليت حمامة ناحت/ وراقص دمعها ألم/ تقول: ليستريح هوى/ وتهمي فوقه ظلم». قصيدة الصيخان هي «هواجس في طقس الوطن»، التي تقول في البيت الثالث من مطلعها التناظري: «إن جئت يا وطني هل فيك متسع/ كي نستريح ويهمي فوقنا مطر». وفي تصوري أن ما لدينا هنا لا يعدو أن يكون تقاطعاً في المفردات والصور نتج عن قوة الذاكرة الشعرية لدى أشجان الهندي، ليس بوصفها شاعرة فحسب، وإنما بوصفها باحثة درست قصيدة الصيخان نفسها ضمن دراستها الظاهرة «توظيف التراث في الشعر السعودي المعاصر». *، فإن أشجان تبدو مشغولة بإغناء نصها بنصوص أخرى دون أن يكون تطوير اللغة الشعرية شاغلها الأساسي. هذا الاغتناء بالنصوص الأخرى هو بالطبع ما يشغل سعدية مفرح، كما رأينا. فلدى الشاعرتين هاجس يدفع بهما نحو الموروث بأشكاله المختلفة لاستثمار دلالاته من ناحية وإثراء القصائد بتقنيات التعبير التي تتيحها تلك الأفكار، من ناحية أخرى، ولا شك أن اختلاف الشاعرتين في أسلوب ذلك الاستثمار وذلك الإثراء دال على قدراتهما الإبداعية، وفي الوقت نفسه على ثراء هذه التقنية التعبيرية التي وصفتها بالتضفير. مراجع: 1- مفرح، سعدية آخر الحالمين كان. الكويت: دار سعاد الصباح، الطبعة الثانية، 1992م. 2- مفرح، سعدية: كتاب الآثام. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م. 3- الهندي، أشجان. توظيف التراث في الشعر السعودي المعاصر. الرياض: النادي الأدبي، 1996م. 4- الهندي، أشجان. للحلم رائحة المطر. دمشقك دار المدى للثقافة والنشر، 1998م. الحواشي: * هذا ما تراه أشجان في تحليلها لقصيدة الصيخان، وهو رأي جدير بالاهتمام، لكنه خلافي في أفضل الحالات.