اطّلعت على ما كتبه أستاذنا أ.د. عبدالله الفيفي بعنوان (من أوهام النحاة!) المنشور في المجلة الثقافية صحيفة الجزيرة يوم الجمعة 4 رمضان 1442ه الموافق 16 أبريل 2021م العدد 17673، وأستأذنه بالوقوف بعض الوقفات: 1-قال «ربما صدمهم (العباس بن مرداس، رضي الله عنه) بما لا يتفق مع قواعدهم، التي أقاموا الدنيا من أجلها ولم يُقْعِدوها، إذ قال: «أمَّا أنت ذا نفر». فما الذي نصبَ «ذا» هذه؟ يا للهول! لا بُدَّ من حل!». والحق أنه لم يصدمهم، ولم يفاجئهم؛ فقوله جاء موافقًا لاستعمال عربي عرفوه فذكروه، وسيبويه يروي أمثلة ذلك التركيب عن أشياخه ولا يزعم ذلك زعمًا، وأستاذنا قبل أسطر قال عن ابن هشام «لأنه في المتن [شذور الذهب] يصف الاستعمال، كما جاء عن العَرَب»، ونجد في كتاب سيبويه أمثلة لهذا التركيب مثل قوله «ومن ذلك قول العرب: مَنْ أنتَ زيداً، فزعم يونسُ أنّه على قوله: مَنْ أنت تَذكُر زيداً، ولكنه كثر في كلامهم واستُعمل واستغنوا عن إظهارِه»(1)، وجاء في الصفحة نفسها من الكتاب أن بعضهم يرفعون (من أنت زيدٌ) ولكنه قليل، وقال سيبويه «وسألته [الخليل] عن قوله: أما أنت منطلقاً أنطلقُ معك، فرفع. وهو قول أبي عمرو، وحدثنا به يونس. وذلك لأنه لا يجازي بأن كأنه قال: لأن صرت منطلقاً أنطلق معك.»(2)، ويفهم من النص أن الخليل على علم بالتركيب وليس ببعيد أن يكون على علم ببيت العباس كما أنشده سيبويه، وقال «ومن ذلك قول العرب: أَمّا أنتَ منطلقاً انطلقت معك، وأَمّا زيدٌ ذاهباً ذهبتُ معه. وقال الشاعر، وهو عباس بن مِرداسٍ: أَبا خُراشَةَ أَمَّا أنتَ ذا نَفَرِ فإِنّ قومِىَ لم تَأْكُلْهُمُ الضَّبُعُ»(3) وما أريد بيانه أن الظاهرة أعم وأوسع من بيت الشاعر، وما قوله سوى مثال من الأمثلة، وليس حديث النحويين منذ سيبويه وشيوخه يدور في فلك تخريج البيت؛ فهو ليس بحاجة للتخريج إذ لم يخالف قاعدة. 2-قوله «إنَّ صعوبة العَرَبيَّة، إذن، إنما صنعها لنا النحاة، من خلال تمنطقهم، وتنافسهم، وخلافهم، وصراعهم. فأضحى جهدهم وبالًا على العَرَبيَّة، وإنْ كان في ظاهره لخدمتها». هذه اللغة بنحوها هذا كانت لغة العالم، لغة العلم والعمل في الأندلس، وكانت كتب الطب العربية درس في أوربا، والزعم بأن صعوبة العربية من صنع النحويين زعم باطل؛ لأن تعلم العربية ليس طريقه تعلم النحو بل طريقه تلقي مهاراتها المختلفة بالوسائل المعروفة، وليست هذا الظواهر التي تشِكل بعض الإشكال كل النحو، وليس خطأ المخطئين بمثلها، بل بما هو أيسر مما أحكامه معروفة ميسرة. ولست تجد في كتب تعليم العربية في التعليم العام حديثًا عن مثل هذا البيت وما تعلق به من تفسير. 3-قوله «ثمَّ انظر، هنا، كيف أصرُّوا على أن حذف (كان) واجب؟ وكيف جعلوا «أمَّا» بدل «إمَّا»؟». القول بوجوب الحذف هنا مماثل لمواطن أخرى من الحذف، كحذف الفعل عند نيابة الفعل المطلق عن فعله نحو «قيامًا بالواجب»، أي قم بالواجب، وفي أساليب التحذير مثل: إياك والأسدَ. وهم لم يجعلوا (أمّا) بدل (إمّا)؛ فالاستعمال جاء على (أمّا) حين يليها الاسم و(إمّا) حين يليها الفعل. قال ابن يعيش «ولا يجوز حذفُ الفعل بعد «إمّا» المكسورةِ، كما لم يجز إظهارُه بعد «أمَّا» المفتوحةِ، وذلك أنّ «أمَّا» المفتوحَة كثُر استعمالُها حتى صارت كالْمَثَل الذي لا يجوز تغييرُه»(4). 4- قوله «أعندهم من الشواهد غير بيتهم اليتيم؟». على الرغم من أن الظاهرة من الشيوع الذي لا يقتضي شاهدًا ذكروا بيتًا آخر هو: إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحلًا ... فالله يَكْلأ ما تأتي وما تذرُ(5) 5-قوله «وزعم (سيبويه) أنَّ العَرَب تقول: «أمَّا أنت منطلقًا، انطلقتُ معك»، و«أمَّا زيدٌ ذاهبًا، ذهبتُ معه»؟ فإنْ صحَّ هذا، أما كان يسعهم أن يَعدوها لهجة؛ فيريحوا ويستريحوا؟!». لا يمكن عدها لهجة وهي لغة جمهرة العرب والرفع لغة أقلهم، وهبهم عدّوها لهجة فإنها مفتقرة للتفسير وبيان علة النصب. 6-قوله «ثمَّ كيف تُبنى قاعدة، تشغل حيِّزًا من كتب النحو على مَرِّ الدهور، ولا شاهد عليها، سِوَى بيتٍ روي شفويًّا، احتمالات الخطأ فيه والتصحيف واردة بلا حدود؟». والحق أن سيبويه والبصريون لا يبنون قواعدهم بلا شواهد، وشواهده في هذه الظاهرة أقوال العرب التي نسبها لهم، وأما الرواية الشفاهية فهي العماد في التلقي، وبها روي الشعر الجاهلي والقرآن الكريم، بل شاع بين أهل العلم أن الاعتماد على الصحف مرغوب عنه متهم صاحبه بأنه صحفي. قال العسكري « كَانَ يُقَالُ لَا تَحْمِلُوا الْعِلْمَ عَنْ صَحَفِيٍّ وَلا تَأْخُذُوا الْقُرْآنَ عَن مصحفي»(6). 7- قوله «ومن أين انتهت تلك الرواية إلى (سيبويه، -180ه) وحده، فتأكَّد قطعًا من ذلك الحرف الفارق، وأن الشاعر قال «أَنت َ»، لا «كُنتَ»، وبينه والشاعر نحو قرن ونصف من السنين؟!». تلقى سيبويه رواية البيت من الرواة ك ما تلقى غير هذا البيت ولم ينكر أحد عليه ما أنشد، وزمن سيبويه زمن السماع، والرواة لغتهم نفسها مقبولة مستشهد بها، ومن المعلوم أن الأبيات قد تروى بطرق مختلفة لا يعاند بعضها بعضًا، وهذا البيت روي بإنشادين هذا الذي أنشده سيبويه (أما أنت) وروي (إما كنت)، وساق سيبويه الرواية التي وافقت الظاهرة موضع الحديث. 8-قوله «أكاد أجزم أن الشاعر لم يقل البيت كما رووه، وإنما قال: «أبا خراشةَ، إمَّا كُنتَ ذا نفرٍ»، فجَعلَ جاعلٌ الهمزة فوق الألف بعد أن كانت تحته، وحوَّلَ «كُنتَ» إلى «أَنتَ»، واشتغلت عجلة النحاة على هذا الأساس أكثر من ألف عام». من الصعب الجزم بشيء، فكونه قال بذكر كان احتمال يبطل به الاستدلال، وهل يطمع أستاذنا أن نقبل ترجيحه وندع رواية إمام النحويين الثقة، والمصادر أوردت الروايتين، وبغض الطرف عن قول الشاعر تقبل رواية الرواة وإن اختلفت عن قوله ما دام الراوي في زمن الاستشهاد. والبيت كما قال أستاذنا روي شفهيًّا، فكيف يضع واضع على الألف همزة؟ ولو افترضنا جدلًا أن التغيير لمكتوب فإنه لا وجود لهمزة في ذلك الزمن تحت الألف، فهمزة الألف أول الكلمة ترسم فوقه أبدًا(7). 9-قوله «دعنا نذهب إلى ديوان (العباس بن مرداس السُّلَمي)! الآن حصحص الحق! في ديوان الشاعر، بتحقيق (يحيى الجبوري)، تجد البيت كما توقَّعناه: «أبا خراشةَ، إمَّا كُنتَ ذا نفرٍ...»؛ فالبيت في الديوان لا شاهد فيه؛ لأن «كان» ثابتة، لم تُحذف.». ولكن ماذا قال يحيى الجبوري عن هذا الديوان؟ قال: «لا يُعرف للعباس ديوان مخطوط أو مطبوع، وإن كان له في القديم ديوان فُقد مع ما فقد من الدواوين، فقد ذكر ابن النديم أن الطوسي وابن السكيت صنعا ديوانًا للعباس بن مرداس. كما أشار حاجي خليفة إلى ديوان (ابن مرداس). وليس بين أيدينا أصل قديم لشعر العباس غير ما حفظته الكتب من شعره، وبخاصة السيرة النبوية، ففيها شعره الإسلامي الذي قاله في الفتح وفي حنين. وفي المكتبة الظاهرية مخطوطة حديثة لديوان العباس، كتبها جميل بك العظم الدمشقي بخط حديث جميل. وتمتاز بثلاثة أمور هامة: أولها إنها تغفل الأصل الذي نقلت عنه، فليست فيها رواية ولم تنقل عن أصل صحيح، والظاهر أن جامعها نسخها عن إحدى نسخ السيرة الناقصة وتاريخ دمشق لابن عساكر إذ إن بعض القصائد الموجودة في السيرة لا توجد في هذه المخطوطة»(8). وقال أيضًا: «كل هذه الأمور تجعل هذه المخطوطة قليلة الفائدة، ليس من الصواب الوثوق بها والاعتماد عليها، ومع كل ذلك فقد أفدت من هذه المخطوطة واتخذتها أصلًا من جملة الأصول التي هي مصادر الشعر، وأفدت منها في مقابلتها بالشعر الذي استخرجته من الكتب، وقد أشرت إلى أوجه الخلاف أو الزيادة، أو النقص، فقد تتفق هذه المخطوطة مع الشعر المجموع حينًا وتختلف عنه في أحايين كثيرة»(9). فلا حجة بهذا الديوان المجموع، والمعول عليه ما في الكتب التي أولها كتاب سيبويه وروايته. 10-قوله «ولقد ذكر المحقق أن البيت واردٌ في اثنين وعشرين كتابًا من كتب التراث، في اللغة والنحو والأدب، منها ثمانية عشر كتابًا برواية «إمَّا كنتَ ذا نفرٍ»، أوَّلها معجم «العَين، (ضبع)»، ل(الخليل، -173ه)، أستاذ سيبويه، وهو راوية موثوق، وقد رواه بصورته الطبيعية: «إمَّا كنتَ». ولم يرد برواية «أمَّا أنت ذا نفر» إلَّا في أربعة كتب، منها ثلاثة نحوية- طبعًا!». وهذا كلام غير دقيق، فلم أجد قول محقق الكتاب أن منها ثمانية عشر كتابًا برواية (إما كنت ذا نفر) ولم يحصر المحقق الرواية الأخرى في أربعة الكتب؛ بل ذكرها على سبيل التمثيل، والحقيقة أن رواية (أما أنت ذا نفر) قد وردت في ستة وثلاثين كتابًا نحويًّا، وفي خمسة وثلاثين كتابًا غير نحوي، ووردت الروايتان في معجمين اللسان والتاج، فتلك ثلاثة وسبعون كتابًا ذكرت البيت كما أنشده الإمام. وأما كتاب (العين) فهو متأخر في تدوينه عن كتاب سيبويه ولم يروه الخليل نفسه بل رواه غيره؛ ولذلك نجد الأزهري في (تهذيب اللغة) ينسب الأقوال إلى الليث لا الخليل. وقال ابن جني «وإن كان للخليل فيه عمل فإنما هو أنه أومأ إلى عمل هذا الكتاب إيماء، ولم يلِهِ بنفسه، ولا قرّره»(10). النحويون لم يتوهموا في أمر هذه الظاهرة، ولا في بيت العباس كما أنشده الإمام، وإن يكن من وهم فهو وهم غيرهم ممن استُهتِرهم بشنآن النحو والنحويين، حين توهموا أن حماية العربية وإصلاح شأنها إنما يكون بالزراية على نحوها وعلى أعلامه، متجافين عن النقد العلمي الجاد، وهم أهل النقد وسدنة علمه. - - - - - - - - - - - - - - (1) سيبويه، الكتاب لسيبويه، 1: 292. (2) سيبويه، الكتاب لسيبويه، 3: 101. (3) سيبويه، الكتاب لسيبويه،1: 293. (4) ابن يعيش، شرح المفصل، 2: 90. (5) الزمخشري، المفصل في صنعة الإعراب، ص: 104 . (6) العسكري، أخبار المصحفين، ص: 32 . (7) انظر: القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، 3: 163. (8)يحيى الجبوري، مقدمته لديوان العباس بن مرداس، ص28 . (9) يحيى الجبوري، مقدمته لديوان العباس بن مرداس، ص 29 . (10) ابن جني، الخصائص، 3: 288.