سألج لهذه القراءة من المداخل التالية: المدخل الأول (حُسن أمي): لم تكن العلاقة التي كانت تربطني بها -رحمها الله- علاقة عمة بابن أخ، فقد كانت لي بمنزلة الأم، أذكر حين كنت طفلًا في سن التمييز لحبِّها الشديد لي، حين كانت تحلب الغنم، كانت تناديني لأرغي الحليب الطازج، إذ تكون رغوته طازجة وفوّاحة، ولا زلت حتى الآن أطعم لذاذته في فمي، وكأنها تمنحني قوت الحياة، وهذا ولَّد عندي المدخل الثاني وهو: (الحبّ الشديد لها): منحتني حبًّا وأرجو أن أكون بادلتها الحب ذاته، إذ كان يضاعف اشتياقي لها رحيلهم المستمر خلف رعي غنمهم التي يتتبعون بها مساقط الغيث، فيغيبان زمنًا والطفل يترقّب عودة عمته من غيبتها، وصادف أنها كانت زوجَ رجلٍ أكنُّ له الحب والتقدير شأن كثيرٍ من رفاق الجماعة، فهو الشاعر عامر بن عبد الرحمن ابن شيخ القبيلة وخال الوالد وابن عمة الوالد الجدة (عمرة بنت علي القفز -رحمهما الله- ولذلك كان جلَّ لقائي معها -رحمها الله- في الحديث عن هذه الذاكرة الالتقائية في النسب والقرابة، وتذكر شعر المرحوم، ولذلك حظيت علاقتي بأبنائها -حفظهم الله- بعلاقة مميزة ألتقيهم عندها ونستذكر ما نستذكر من حياتها وزوجها المليئة بالتجارب والعبر ومفاجآت ظروف حياتهما العامية. ذات مرة ذكرتني بنوبة بكاء انتابت العم (رداد بن هميل) الشخصية السنافيّة المشهورة في جماعتنا حين رأى عمي حسن -رحمه الله- وعمي حسين -حفظه الله- يتناوبان لعب التعشير وقد كانا بارعين فيه؛ لأنه استذكر فيهما براعة والدها جدي عمر القفز -رحمه الله، وهذا يقودني للمدخل الثالث وهو: (ذاكرة الشعر): وهذا كثيرًا ما تفاجئني فيه بمفاجآت تستنبئني عن المقصود، فذات ليلة كانت تسألني عن قولٍ للعم (رداد بن هميل) يقول فيه: (يا مرسلي بالكلام الزين من عندنا لأهل الغديرين وقول هذي لنا شهرين نرجيك يا طلع البساتين)، فقلت مداعبًا وللحقيقة كنت أتوقع أن هذا هو المعنى المقصود، إذ قلت: (هذا أنت تتشوقين للزواج من العم عامر - رحمه الله)، ضحكت ساخرة وأنبأتني بالمعنى المقصود، وهو أن العم رداد ينتظر فاكهة الخريف من عند أهل الغديرين، إذ كان لديهم بئر بالغديرين وعليها مزرعة لهم. المدخل الرابع (عمتي ذات الوَرَع): كانت في رمضان تحافظ على الصلاة في جامع العقيق الذي يؤم المصلين فيه إمام ذو صوت شجي تخشع به القلوب لذكر الله، تحدثني عن ذلك وأقول لها: «لا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها»، تقول: (يا ولدي ما أسطي أكب الصلاة ولا أسطي أصلي على كرسي). طبعًا لها موقف من قيادة المرأة للسيارة، جادلتها في ذلك ذات ليل، وقلت لها: أما كانت المرأة في زمنكم تركب الجمل وتمضي إلى غايتها؟؟ حسبتني أقنعتها! فإذا هي تقول: (وأنا فدى الجمل) وأخذت تحدثني عن الجِمال وشعورها بحاجة راكبها إلى الإسراع، أو مشي الهوينا، فقلت في نفسي «أنت أمام شخصيّة تتعلم منها لا تعلّمها» فضُم لسانك واسكت، وقل: (ربي اغفر لها وارحمها واجبر كسرنا فيها وألهمنا وآلها وذويها الصبر والسلوان، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. ** **