ويظلُّ فقدُهُ صدعاً في القلب لا يلتئم. وكسراً لا ينجبر. وإنَّ مصابي لَجَلَلٌ بفقد عمِّي، العطوف، المحسن ظافر بن ناصر بن سرور آل مارد، وإنَّي أحتسبُ عند الله ثواب فقده، وألم مصابه، والصبر على فراقه، وأقول إيماناً بالجزاء من الله، راضياً بالقضاء فيه: لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ شيءٍ عنده بأجلٍ مسمَّى، وإنَّ العينَ تدمع، والقلبَ يحزن، ولا نقولُ إلاَّ ما يرضي ربَّنا، وإنَّا على فراقك ياعمّ (ظافر) لمحزونون.. لمَّا أُصيبَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعمِّه حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه؛ حزن لفقده عليه الصلاة والسلام حزناً شديداً، وقال: لن أُصابَ بمثلِكَ أبداً. وعلى ذلك كانت سنَّة الحياة -من قبلُ ومن بعد- في الألم والحزن والجزع، عند فقد ذوي الفضائل والمكارم. وحفظ لنا التاريخُ وأهلُ السير تعابيرَ المفجوعين.. والموتورين.. والمصابين.. في قراباتهم، وذوي رحمهم، رغم البين الطويل، والسنين التي تجاوزت المئات بعد الألف بيننا وبينهم. عَّم (ظافر)، كم أعطيتَ وبذلت، وكم أحسنتَ وعطفت، ورحمتَ وأكرمتَ ووصلت. لقد درجتُ - في بداية حياتي - على هذه الدنيا وفي بداياتي العلمية في مرحلتي (الثانوية والجامعة) على كريم خصاله، وجميل عطائه، ورأيتُ حبَّه، وشوقه لي، وحنانه عليَّ ماثلاً أمامي لا يغيب ولا ينقص، وكأنَّي الأملَ الأوحد الذي ينتظِرُهُ لبقيَّةِ عمره، ويُعِدُّه لضعف قوَّته، فعند زيارتي له: لا اسم إلاَّ اسمي على فمه!! ولا نداء إلاَّ ندائي!! لا يَكَلُّ من العناية والحرص والمتابعة. نداءاتُهُ الحانيةُ والرقيقةُ هذه وغيرُها؛ تكرَّرت كثيراً كثيراً، فلم تغب عن مسمعي أبداً، ولن يغيب ذكرها وشكرها وجزاؤها والاستجابة لها؛ دعاءً، وصدقةً، وصلةً، مادمتُ حيّاً إنْ شاء الله، فهل جزاءُ الإحسانِ إلاَّ الإحسان.. يفرحُ لفرحي، ويفخرُ بنجاحي وتميّزي، ويهمُّهُ من أمري أكثرُ من اهتمامي لنفسي، لأنَّه كان يدرك -رحمه الله- ما لا أدركه في صغري في ذلك الوقت. لقد ملكتُ عليه نفسَهُ، وقلبَهُ، وبصرَه.. عطفاً ومحبّةً وأبوَّة منه -رحمه الله-، في مراحل نشاطه وقوَّته، ولمَّا بلغ به المرضُ والهرمُ نسي البعيدَ والقريبَ، والأهلَ والولدَ -غالباً- إلاَّ (عوض) فإنَّه يعرفني مباشرة من صوتي، ويستذكرُ معي كلَّ شيء، سائلاً ومجيباً، ومتحدِّثاً، ومؤكداً عليهم بإكرامي، وفرحاً بقدومي. وبلغتُ من حُبِّهِ وتوجيهه وعطفِهِ، هو وعمَّتي (هيله بنت علي) ما عوَّضني فقد (أبي)، وبعدي عن (أمِّي)، وغربتي عن داري (ببللسمر)، حيث كان سكني معهما في دارهما بالرياض، في العريجاء القديمة، حينما كنتُ طالباً في ثانوية اليمامة، في منتصف التسعينات الهجريَّة، ولقيتُ من كرمهما، وعطفهما، وحفاوتِهِما ما أغناني، وآواني، رغم قلَّة ذات اليد في ذلك الحين، ووجدتُ من تشجيعهما ما أعانني على طلب العلم، والجدِّ في تحصيله. شاركني بماله وحضوره وجاهه؛ فرحة العمر بزواجي، وتحمَّل في سبيل ذلك العناء والسفر معي للكويت بشأنه، ثم أقمتُهُ في داره المعمورة، وتحت كنفه اللطيف؛ مع عمِّتي الرحيمة (هيله)، وقبلها كانت فرحتهما التي لا توصف بتخرجي من الجامعة، وحصولي على أعلى الدرجات. فكانوا لي بمنزلة الوالدين الرحيمين. لقد لمست من العمِّ (ظافر)، والوالدة (هيلة الأبوَّة الصادقة لابنهما (عوض). ولا أُبالغُ حين أقولُ بأنَّي لا زلتُ أجدُ حلاوةً في قلبي، ولذةً في نفسي، وراحةً في بدني، حتى هذه الساعة، حينما أتذكَّرُ تلك الأيام التي عشتُها في كنفهما. كانت تلك المرحلة بقربهما بالنسبة لي من أسعد الأيام، وأكثرها طمأنينةً وراحةً واستقراراً. وعاملاً أساساً بعد توفيق الله وفضله فيما تحقِّق لي من نجاحات ومراتب عالية وترقيات. لقد شَمِلَ العم (ظافر) بعطفه وحبِّه وكرمه قرابته، وذوي رحمه، ومعارفه، وضيفانه، وزائريه من بعيدٍ وقريب. فهو مثالٌ للشهامة والكرم والبذل، ورمزٌ في العطاء والسخاء. الأقارب والضيفانُ وعابرو السبيل يلجؤون -بعد الله- إلى العمّ (ظافر)، رحمه الله. لقد كان لهم كالنبع الدفاق يمدُّهم بماله، ويدخلُ السرور عليهم، ويعينهم في معاشهم. جمع الله للعم (ظافر) من الفضائل، وطيب الشمائل، وجميل الخلال ما يربو فوق التصوّر، ويفوق الوصف، مع خشيةٍ لله وبِرٍّ وتقوى، ومداومةٍ على الطاعات، ومحافظةٍ على الصلوات، وحرصٍ على الأمر بها، وإقامتها في المسجد، وعلى ذلك كنتُ من الشاهدين، وأيضاً من المأمورين بالمحافظة عليها؛ بقوله ونصحه وتوجيهه، جزاه الله عنّا خير الجزاء. أُصيب في آخر حياته - رحمه الله- بمرضٍ أقعده وأعجزه، ثم أصيب بفقد فلذة كبده وقرة عينه؛ (غازي) رحمه الله؛ الابن البارّ لوالديه، والرجل الصالح في دينه ودنياه، ثمّ أصيب بعده بزوجته الحنون. لقد اجتمعوا في الدنيا في بيت أُلفةٍ ومحبّةٍ وتراحم، وبِرٍّ وإحسان، أسأل الله أنْ يجمعهم برحمته وفضله على سررٍ متقابلين، وأن يُفيضَ عليهم من فيوض رحمته، ويسبغ عليهم عظائمَ منته، والله ذو الفضل العظيم. رحمك اللهُ (أبا) غازي، فقد كان لك حمىً من الفضلِ والعقلِ والمعروف والدِّينِ والرُّشد. اللهم إنّك تعلم أنَّ العمّ (ظافر) كان يحبُّني وكنتُ أحبُّهُ، ويشتاقُ إليَّ، وأشتاقُ إليه، وقد فرَّق الموتُ بيننا وبينه، فلا أزالُ أَجدُ في قلبي وجداً وحزناً عليه، وحنيناً إليه.. اللهم أجرني وأجر محبيه وبنيه في فقده، وأخلفنا خيراً منها، وصبِّرنا على فراقه، واجعل جزاءنا وإيَّاه الفردوس الأعلى من الجنَّة، إنَّك قريبٌ مجيب. فعليك يا والدي السلام ورحمة الله وبركاته ** ** د. عوض بن خزيّم بن سرور آل مارد الأسمري - مدير جامعة شقراء