خلق الله الانسان وأودعه خصائص العمل، فالعقل يقوم بفكر العمل، ويوظف الاعضاء ويوجهها للإنجاز وامتحن ابانا آدم بالعمل، فلا يقرب تلك الشجرة، ثم أنزله الى الارض، وجعله امامها وجها لوجه، مؤهلا بالعقل وأدوات العمل، وتلك خاصية الإنسان من بدايته حتى نهايه، فآدم اخذ يتأمل الطبيعة، فهو أمام ابتلاء جديد، يؤدي الى كشف او استشكاف الطبيعة وتسخيرها وهذه حال ابناء البشر امام ابتلاءات متكررة، فكم من ابن مترف او رجل كان في غضارة من العيش ارتمى في احضان الصحراء القاحلة، فأخذ يسعى كيما يعثر على الماء والنبات فإنه سيكتشف من الطبيعة ما يقوم به أوده. وآدم اخذ يتفاعل مع الطبيعة، وسار على نهجه ابناؤه، مقلدين ومبتدعين اشياء جديدة،و هكذا استثمر الانسان الطبيعة، واستعمر الارض تحقيقا لقوله تعالى: وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه الجاثية 13. ولا يكون الاستثمار من هذا المسخر الا بالعمل، والعمل يتمثل في فلسفة فكرية تجريدية معنوية، وحسية عملية، ولا مناص من التقائهما وتفاعلهما، ومن ثمّ تكامل العمل، وهذا ما وجّه الله اليه الانسان، فيكون كادحا عاملا في هذه الدنيا، وبقدر عمله يجني الثمار والرضا، وأولها رضى الرب ويتأتى بالاخلاص في العبادة ومن العبادة العمل في سائر الأوجه وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله فالرسالات عمل، وكسب المعيشة عمل، وبناء الأوطان عمل، والدفاع عن الوطن والمكتسبات عمل، والموت هو نهاية العمل، فالحياة عمل متواصل، لا راحة فيها إلا بالنوم المنحة الربانية، فالليل سبات والنهار معاش، والغرب يأخذون بهذا المبدأ الرباني أكثر من المسلمين الذين يسهرون، وينامون نهارا فالعمل مصاحب للإنسان، ومن كان في بطالة فقد ضعف جانب الحياة عنده بل هم في نكد وكآبة، والذين يعملون فكرا وعملا يدويا اكثر سعادة وراحة نفسية، والعالم الذي يجري التجارب اكثر سعادة من العالم المنظر. واقتضى امر الله ان يكون توجيه العمل في هذه الارض من مهام العقل البشري بعد ان هيأ البشر له خلقا وسلوكا، بل أجزل المكافأة للمخلص دنيا لكل البشر، ودينا ودنيا للمهتدين الموحدين. * وقد طرحت البشرية افكارا لتوجيه البناء الارضي، واكتشف الأسس والضروريات الحياتية، ومع كل ذلك ظل الفكر العملي متواضعا أمام المسؤولية المبتغاة منه، والمناطة عليه. وهناك إسهامات لعلماء المسلمين دعوا فيها الى السلوك العملي والانجاز فيه غير انها تمثل منهجا متكاملا يشمل شرائح المجتمع,, يقول ابن الازرق عن الانسان إنه متى تجاوز طور الضعف قادر على اقتناء المكاسب سعى فيه بدفع العوض عما حصل بيد غيره مما خلق للجميع,, فابتغوا عند الله الرزق، وما يحصل منه بغير سعي كالمطر للزراعة، فهو معين والسعي لا بد منه، ولو في تناوله على حسب ما قدره منه بدائع السلك 2:297 * ومن شأن العمل الذي تصورنا أهميته ان يتصدر الفلسفة، والفكر لكنه ظل في طيات النسيان حتى ولج الى ساحة الفكر التنظيري والعملي فيما يقارب القرن الثامن عشر الميلادي بالحركات العلمية والعمالية وتطور مع ما استنبطته العلوم الادارية المعاصرة مع انها تقوم حول الادارة، ولم تبن على فلسفة فكر العمل، وتكوين مفاهيمه وقيمه، وكان هذا الحجم من الفكر ادى الى نجاح العامل الغربي والعامل في بعض دول الشرق في اداء رسالته. * نحن اكتفينا ببعث البعوث المحدودة العدد،و قليلة الأثر الفكري لا الانجاز العملي، وكذلك استيعاب العامل الغريب، بل تكاثرت وفودهم حتى اصبح لهم شأن في الدخل القومي زيادة، واستنفادا، وقل ان نقبس من جيوش العمل المهن، بل كانت بلادنا موطنا لتدريبهم، ومن ناحية التنظير فإنه يدور في بلادنا حول اجتهادات فردية في كتابة بحوث او مقالات تنظيرية ربما لم تبلغ مخيلة المنفذين, وكذلك فإن الفكر النابع من الجامعات بطئ التواصل مع التنفيذ العملي والواقعي معا. بل ان عمالتنا التي تواكب هؤلاء نكاد ان نحكم عليهم بالاتكالية، وعدم الممارسة الفعلية، ومراكز التدريب في القطاع الخاص قليلة وهي مع قلتها تدرب الوافدين، ولا يعلمها المواطنون. ونفتقد الوعي بتأليف الكتب السهلة التي تنظم المنهج العملي وتشيعه بين ابناء المجتمع ان مجتمعاتنا العربية في غفلة من امرها عن الفكر العملي ونشر ثقافته والوعي به. * ألا يدرك كل منا العمل هو بناء الذات اولا، فيستهل الطفل حياته بالعمل بالبكاء وتحريك الاعضاء، ثم بالرضاعة، ثم بتقليد المشي، وهكذا في سائر الاعمال الفطرية فإن الانسان والحيوان ملهم لكيفية استخدامها، فالعمل ضرورة حياته فيما ذكرت وفيما هو أدق في حياة كل حي، والله يلهم الحي في صغره ما لم يستطع على ادراكه حتى بالتقليد كالبكاء، والرضاعة والضحك، فإذا رأى وأبصر وتبصر، فإن الله يمتحن قدراته العقلية، بل ويترك لها مبادئ التفكير كتقليد الاكل والمشي وغيرهما. والعمل، هو بناء الذات والأنا المعتدلة والمفرطة، فالعمل وسيلة التغذية، ووسيلة الكسب، ووسيلة بناء الجسم، ووسيلة لاشباع الرغبة، وتلك يظفر بها الطفل العربي المعاصر والتربية المعاصرة تقف عندها ولا تتجاوزها، فتتناسى الانجاز والابداع ويتدرب الاطفال على الاعمال المنزلية الخاصة بهم اولا كتنظيم ألعابه، وملابسه والمساهمة في تنظيم منزله، وعنايته بأغطيته وحجرته، ومن ثم خدمة والديه فيما هو قادر عليه في أقرب الاشياء وأيسرها حتى ننمي روح العمل وروح التعاون والتآزر، بل ننمي عنده الإدراك العملي، كيما يبلغ المرحلة العملية الالزامية، وقد أعدّ لها الاعداد المؤهل لبناء الذات بلا مساعدين وموجهين بل في خضم المنافسين او المثبطين, فنحن في تربيتنا المعاصرة لم نفكر في تربية عملية واقعية تؤدي الى الاعتماد على الذات، بل نزع الاتكالية والتواكل. * والفكر العملي ضرورة ملحة متواصل مع الانسان عبر مسيرته الحياتية ونحن المسلمين احوج ما نحتاج اليه في زمننا المعاصر، لضعف العامل المسلم من ناحية الانفعال الشعوري والحماسة، ومن ناحية الضعف السلوكي الخلقي الذي يتعامل به مع ارباب العمل ومع خبرائه ومنفذيه، وضعف التكوين الذهني عن العمل فنفتقد للتأمل العقلي في جوانبه السلوكية واالمنهجية والانتاجية ومن اهم مكونات الضعف التربية التي لم تفكر في فكر العمل وتطبيعه ومنها ضعف المراكز التدريبية المتعاملة مع الواقع المباشر والحاضر في الذهن. ونحن لو تدبرنا مسيرة الفكر العملي في عالمنا الاسلامي لأصبنا بالاحباط، فما عدا التكوين الاول في القرن الأول الاسلامي حمل العرب لواء العمل وبناء الدولة في المدينةالمنورة وحملوا راية الجهاد، وحملوا راية العلم، ثم تضاءل دورهم فيما بعد حتى قل منهم طلاب العلم،و حمل الترك راية الحرب، وحملت الشعوب مهمة المهن والصنائع واستقطب التصوف كثيرا من ابناء المسلمين، مع ان المنظرين دعوا الى العمل واكثر من وقف عنده ابن الازرق في بدائع السلك في طبائع الملك لكن التنظير في قمة بعيدة عن العمل به او هو في منأى عن عقول المنفذين. ومن هنا كان لزاما علينا ان نتعهد الكتاب والسنة والتراث بالاستنباط الفكري، ونقبس منه حتى يتمحور فكرنا حول التوجيه الرباني فيكون مصدرنا الاول لبناء فكرنا المعاصر. ويكون المصدر الثاني التجارب المستغربة علمية وعملية، فاستقراء الحكمة من تنظيراتهم ومناهجهم العملية، ميادين العمل المكون للذهنية، والعملية التطبيقية كل ذلك من الواجب ان نستفيد منه بما يتناسب مع واقعنا، لا نأخذه صورة متكاملة، لبيئتنا فتكون الغربة، والذي لا مراء فيه ان العمل الغربي والياباني اكثر انجازا، واخلاصا وتفانياً في العمل من العامل المسلم، فعلى مفكرينا ايجاد التنظير الواقعي التطبيقي المباشر كي نبني لنا فكرا عمليا منهجيا ينزرع في بيئتنا، يتلاحم مع ديننا وواقعنا ولا اقول عاداتنا فالعادة اذا كانت من الدين، فهي تلحق بالدين، واذا لم تكن منه فتخضع للعقل والتمحيص. ولا خير من زوالها، اذا لم تكن ذات فائدة, وعلى منفذين ترويض الفكر والمفكرين وتسخيرها لعملية بناء الفكر المنهجي الواقعي العملي. * المصدر الثالث: الواقع الحاضر، الذي يتمثل في تكوين الذهنية للنشء الجديد، وايجاد الميادين العملية التطبيقية في حقول التربية جنبا الى جنب مع الممارسة التعليمية،و ايجاد المراكز التدريبية في المدن الصناعية، وتركيز الاعلام عليها في فضائياته، وصحافته، بل في وسائله الترفيهية ان الآفة الاسلامية يتأتى ضعفها من ضعف العمل الفردي، والجمعي بل من ضعف الفكر الباني لمكون الذهنية العملية، فنحن احوج ما نكون الى جهاد فكري وعملي نبني به حصوننا من الداخل.