تحدثت في المقالة السالفة عن وشاية الممثل حين يزاوج بين دلالتين إحداهما دلالة الكلام، والأخرى دلالة حركات الجسد، وقلت إنه يمثِّل نوعاً من التناقض في بنية الرسالة لكن هذا التناقض مقصود لذاته بوصفه نوعاً من إثراء أداء الممثِّل الذي ينعكس على العمل الفني. وأظهر مثال يبدو لي في هذا الصدد هو أداء الممثّل عادل إمام في كثير من أعماله، إذ نجده يبطن أو يزاوج بين الدور الظاهر ودور آخر يشعر بموقف الممثّل من الفعل الذي يقدمه الدور نفسه. يظهر هذا مثلاً في فلم «بخيت وعديلة» في الموقف الذي يتفق فيه بخيت مع عديلة على تأسيس شركة، ويأتي بها قادماً الصباح إلى مكتبه بعد تأسيس الشركة، وفي دخوله إلى المكتب يتمايل في مشيته وكأنه يظهر كيف أصبح من القطط السمان أصحاب الشركات، وأن أصحاب الشركات يسيرون بهذه الصورة، ولأنها مشية غير طبيعية فإنها تخفي نوعاً من الإضحاك بناءً على أنه يحاول أن يقول بأنه الآن أصبح منهم ولذلك يمشي مشيتهم التي هي بهذه الصورة عنده هو في حالة كونه فقيراً فهو يقدم الأغنياء لا كما يكون الأغنياء على وجه الحقيقة ولا كما يبدون لأنفسهم (الأغنياء) وإنما كما يبدون للفقراء. وقد لا يكون هذا الملمح واضحاً للرائي في هذا الموقف فيبدو أنه تصرف طبيعي لعادل إمام سواء أكان جاداً أم ساخراً، بمعنى أنه سيقوم بالأحوال العادية بهذه المشية حتى ولو كان في وضعه الطبيعي، وهنا تكمن المشكلة، وهي أن أفعال عادل إمام لا تختلف باختلاف الموقف بين أن يكون جاداً أو ساخراً، ويظهر ذلك مثلاً في حديثه عن ابن ابن عمه في فلم «هالو أمريكا» حين أراد أن ينفي عن نفسه ريبة والدة الطفل، فقال: «زي الفل..زي الفل»، وهي العبارة نفسها التي قالها في موقف آخر شبيه في هذا الموقف في فلم «السفارة في العمارة» مع اختلاف النبرة. ويمكن أن نأخذ هذه العبارة مثالاً أيضاً على ازدواج الرسالة بين الكلام والحركات، فهو في حالة الولد في «هالو أمريكا»، كان جاداً لأنه لم يمس الولد بسوء، وهو يدافع عن نفسه وعن الولد في الوقت نفسه، لكنه في المشهد الآخر لم يكن صادقاً، ولم تكن عبارة «زي الفل» دالة على المعنى الظاهر منها لأنه في الحقيقة قد اتصل بالشخصية الأخرى كما في الفلم. وقد تكون عبارة «زي الفل» ملبسة، فهي صحيحة في موقف الفتى فيما تدل عليه، وهي أيضاً صحيحة في الموقف الآخر فيما تدل عليه في موقفها ذلك، لكن استعمالها في نفي الريبة والتنصل عمَّا ظن به توحي أنها قد استعملت في موقف واحد بمعنى واحد. الأمر المهم، أن المتلقي يأخذها في فلم «السفارة في العمارة» على أنها نوع من الإضحاك لأنها تخالف حالة الشخصية الأخرى لأنه يقول: إنها «زي الفل» بدعوى عدم مساسه بها وهي ليست كذلك، وإن كانت هي «زي الفل» بمعنى أنها جميلة، واستعمال العبارة ذات الوجهين بالدلالة يكشف الازدواج في الفعل نفسه بين الجد والإضحاك وهو ما يجعلها مناسبة في هذا السياق من جهة ويكشف الظاهرة التي أشرت إليها. في حين أنها في حالة الولد، لا تحمل إلا على وجه واحد وهو الجد، فإذا استصحب المتلقي الجانب الآخر الذي استصحبه في مشهد «السفارة في العمارة» تلقيه للعبارة ولطريقة النطق بها تبين الازدواج في تركيب فعل التمثيل. وهذه الظاهرة تتجلى بصورة بينة في المواقف التي يأخذ فيها عادل إمام دوراً سياسياً ويردد الأقوال التي يرددها بعض الساسة عن المساومة والتنازل، ونحو ذلك، إذ يرددها -بالرغم من جدية الدور- بصورة تبدو أنه لا يقولها حقيقة وإنما يقولها جرياً على عادة من يكون في مكانه حيث يقولها دون عزم على التمسك بها وإنما إضلالاً للجماهير، وكأنها لازمة ينبغي أن يقولها من يشغل هذا الموقع بغض النظر عن قدرته على تطبيقها أو إيمانه بها، وهو ما يكشف موقفاً مناقضاً للموقف المعلن في الكلام ويمثِّل شاهداً على ما ذكر آنفاً. وهذا التشويه أو الإرباك distractionفي الرسالة التي يبعثها عادل إمام في أدائه أدواره هي التي تدفع المتلقين للضحك بمجرد مرآه أو سماع صوته بالرغم أنه لا يعتمد الإضحاك أو ليس في المشهد على وجه الحقيقة ما يدعو إلى الضحك، وقد عبر هو عن هذه الحالة، واستغرابه لضحك الجمهور بالرغم أنه لم يقل شيئاً أو يأت شيئاً يدعو إلى الضحك وذلك في المقابلة التي تحدث فيها عن بداياته بالتمثيل وكان على المسرح حين قام بدور «الباش كاتب» ففوجئ بأن الحاضرين يتلقون فعله بالضحك ما دفعه إلى مواصلة العمل في الإضحاك مع أنه في الأصل كان في المسرح التراجيدي الجاد.