إذا ما توقفنا عند دلالات المناظرة سنجدها تطرح علينا إشكالات أخلاقية ومنطقية في الآن نفسه؛ يقال المناظرة المفاعلة بالنظر أو « المباحثة والمباراة في النظر «؛ إنّ المناظرة هنا تتجاوز حدود التأويل الذي يفتح لنا أفق التسامح لتنخرط في رقعة أرضية لها جمهور ( مع أو ضد)، ففي مباراة كرة القدم مثلا يستحيل أن تجد أنصار هذا الفريق يشجع خصمه! أو لعلها مباراة في المبارزة بالسيف التي تفضي أحياناً بخدوش نفسية لا تدركها إلا الأرواح التي أدمنت التطهّر من العنف الرمزي. قد يكون هناك وجه مشرق للمناظرة، خاصة إذا عددناها من زاوية المحاججة بتوخيها الوقوف عند الحق، والتي تسمى عادة « تحاقُقاً «. لكن في سياق عالم يعج بالاختلافات والأجناس هل تبقى المناظرة وسيلة فعالة لتحقيق الحق، مع العلم أن أهدافها هو انتصار فرقة على أخرى، أو طرف على آخر، بمعنى هناك غالب ومغلوب .. دائماً؟ من المعلوم أن ‹أدب المناظرات› بات من التراث، وإن كنا هنا نتحدث عن المناظرات فمن باب حوارنا الناقد له، وضرورة تفكيكه، بل واستشكاله حتى يكشف عن حقيقته. من ثمة فإن كان ما يجمعنا بالتراث هو المفهوم من المناظرة بوصفها كائنا يعاصرنا من قديم، فإنّ ما يفصلنا عنه ويجعل بيننا وبينه مسافة رؤية وتأويل وتفكيك، بل وحفر في طبقاته، هو التصور النابع من مجتمعنا المعاصر، أي: كيف نتصور المناظرات اليوم؟ لا ان نظر إلى المناظرات من داخل المناظرات، هي متعة وممتعة قراءتها لكن في زمنها الثقافي والمعرفي وشرطها التاريخي والسياسي والديني أيضاً، لا فقط الشرط الأدبي. وبهذه الاحراجات نكون قد تملكنا التراث لا تلقفناه تلقفاً من دون تمحيص أو تدقيق. كيف نفهم مناظرات تأثرت بالمنطق الأرسطي الصوري الذي تجوّز اليوم، وأقيمت بدلا عنه منطقيات متعددة القيم، غير صورية، طبيعية، تبحث في اللغة وسبل السّلم، والتفاعلات التخاطبية بين القول والفعل (ينظر حسان الباهي في كتابه فلسفة الفعل) مناظرات لم يعد هذا مجتمعها ولا أهلها ولا صناعها، مناظرات تعودُ إلينا غريبة في عصر التقنية، والرقمنة، وإن تحجج بعض الأوفياء لأدبها أن لها ضوابط أخلاقية تبتعدُ عن العبث والشغب والسفسطة. والحال أننا في حاجة إلى كل شغب فكري مغاير يفضح كل دعوة أخلاقية مشوهة، أو أحكام بلاغية زائفة، أو ميل نحو التطرف والانعزال. لا بدّ والسياق كذلك أن نطرح أسئلة أخرى نترك الإجابة عنها إلى حين: ما مصير المناظرات أمام التقدم الحاصل في علم الأعصاب الذي أكد أن وعينا متصل بأدمغتنا، وأنّ اختلاف وجهات النظر إنما تأتي من التعايش والتسامح والعمق الإنساني الذي يسكننا؟ هل من سبيل إلى أن تكون المناظرات الدينية داعية إلى وحدة الإنسان، أم المناظرة تبقى مناظرة قائمة على ‹الانتصار›، و›الأز›، و›الغلبة›، و›الإفحام›، أي منطق القوي يأكل الضعيف، لا منطق الحجاج الرحيم الذي يأتينا من القول اللين؟ وقد سبق أن اشتغلت في بحث جامعيّ حول بلاغة الحجاج في الخطاب القرآني ووقفت على رحمانية الحجاج القرآني، وكيف أنّ هذه الرحمة تجلت في الخطاب الموجه إلى النبي موسى الذي دُعِيَ إلى أن يقول لفرعون الغريق قولا ليناً، فأين هي مناظراتنا من هذا القول الرحمانيّ؟ من الطبيعي أن تقدم المجتمعات وانفتاحها على خطابات مختلفة خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، يمكنُ أن يعرض أفرادها إلى كثير من المغالطات المنطقية تتخفى وراء الخطاب، بادية في صورة حجاجيات مقنعة، لكنها تروم تضليل المتلقي والإيقاع به في شراك مآربها الخاصة، ومنعه من التفكير. من ثمة تصبح حاجتنا إلى معرفة البلاغات المضللة، والمغالطات المنطقية، حاجة ملحة، والسبيل إلى ذلك هو دراسة مباحث المنطق غير الصوري خاصة في جانب تعليمه للتفكير الناقد لمثل تلكم الخطابات المفخخة. غير أن مشكلة مبحث المغالطات في المنطق غير الصوري أنه فَوقي، بمعنى يهتم به الخاصة من علماء المنطق والفلاسفة وأهل اللسانيات والبلاغة الجديدة .. وفي أحسن تقدير يدرّسُ لمستويات جامعية أو أقلها بقليل .. غير أن ما نطمح إليه أن يصبح منطق المغالطات في متناول الجميع، يدرس في المدارس منذ مراحل التلميذ المبكرة ( ويكفي أن أذكر هنا تجربة تدريس الحجاج للأطفال في كندا مثلا، مع العلم أن كندا خاصة جامعة وينزر في مقاطعة أونتاريو تعدّ اليوم رائدة في مجال المنطق غير الصوري الذي أسس ركائزه علماء في المنطق والفلسفة من أمثل دوغلاس والتون، وكريستوفر تيندال ..) كما يمكن أن تعرض برامج أو لقاءات إعلامية أو أفلام ومسلسلات تعرض بطريقتها للمغالطات الشائعة وكيفيات نقدها. رؤوس المغالطات المنطقية تجدها في كل مكان وبكثرة، وما استخدام آليات منطق المغالطات من أجل الوقوف عند زيفها إلا سلاح فعّال ضد رؤوس البلاهة والزيف والخداع، تلك الأنماط السيئة من التفكير التي أصبحت تروج بين الناس من دون مقياس لها أو منذر بخطورتها في تفكيك أواصر الحياة، ولو من بعيد ..! تختص الخطابات الزائفة بدغدغة مشاعر الناس، واستفزاز عقولهم لو لزم الأمر، « فالناس الذين لا يوافقون هم مجرد كائنات غير عاقلة « أو لا تتحمل مسؤوليتها فيما يقع، أو تعيش في عالم مثالي بعيد عنّا، أو إني رجعيّ ولا أفكر بطريقة علمية موضوعية .. لذا يتوجب على الجميع أن يصدق ما تقوله البلاهة المغالطة، وهكذا تسقط في بلاغتها الزائفة من دون شكوى أو شكّ أو نقد. والحالُ أنّ عدم قدرتنا على تصديق شيء ما، سواء أكان من العلوم أو المعتقدات أو غيرهما، لا يعني أني أميل إلى عدم التصديق، ولكن قد يكون السبب الرئيس كوني لا أؤمن بالحجج المقدمة إلي، أو أنّ الأمور غير واضحة تماماً، أو إني أؤوّل العالم وأفهم الوجود بطريقة تختلف عن من يريدُ مناظرتي بمنطق صوري بعيد عن لغتي وواقعي .. فقط .. يشتهي «مغالبتي» بعد أن تصيّد ضُعفي. ** **