لا أعرف اسم الفيلم السينمائي الفرنسي الذي تضمّنه هذا المشهد الإبداعيّ، وليس لي سابق معرفة بأبطاله، ولا أظنّني بحاجة لمعرفة قصّته، كل ما يعنيني أنّه أتى بسؤال مهمّ جدًّا وذكيّ، طرحه شابّ على أستاذه الذي كان يعلّمه الكتابة الإبداعيّة؛ سأله ببراءة شديدة وبتلقائيّة عجيبة وابتسامة صفراء تعلو شفتيه، وهو يرى في ما يقوله أستاذه تحقيرًا لاجتهاداته الكتابيّة: إن كنت تعلم كلَّ ذلك عن الكتابة فلمَ لا تكتب بنفسك؟! هذا السؤال العفويّ أثار في نفسي سيلًا من الاستفهامات! وتداعى أمامي عدد هائل من المشاهد التي فيها تقليلٌ من شأن كُتّابٍ واعدين، واستنقاصٌ لإبداعاتهم، بسبب أسلوبهم الكتابيّ البسيط، ووقوعِهم في أخطاء لغويّة قد لا تُغتفر، وإهمالِهم علامات التنصيص، أو سوء استخدامهم في بعض المواضع لعلامات الوقف، ناهيك بافتقار كتابات بعضهم لجمال الأسلوب الأدبيّ الذي يحفظ للنصّ رونقه ويسهّل وصوله إلى المتلقّي. في ظنّي، إنّ تركيزنا على هذه العناصر - مع أهمّيتها - ابتلانا بكتابات لا قيمة لها إلّا لدى أصحاب هذا التوجّه، وربما أصبحت هاجسًا لدى بعض الكتّاب الجدد، فنجدهم يولون الشكل اهتمامًا بالغًا، متلاعبين بالمفردات والجمل، مع توظيفهم المحسِّنات البلاغيّة من دون الارتكاز على مضمون جيّد يمنح العمل قيمة حقيقيّة. يأتي ذلك في ظلّ تعزيز نقّاد كبار لهذا التوجّه. إنّ هذا الأمر لا يعني بالطبع إنكار وجود نماذج رائعة ممّن أثروا المشهد الثقافي بأطروحاتهم المتخصّصة والجميلة، وأسهموا في تبنّي بعض المواهب الواعدة، وساعدوا على صقلها ورفع مستواها، فكانوا جميعهم واجهة مشرّفة لبلادنا؛ لكنّ هؤلاء - للأسف الشديد - قلّة قليلة لا يعوَّل عليها، فالغالبيّة العظمى من النقّاد يرفضون النظر إلى أيّ عمل أسلوبه ضعيف مهما عظم موضوعه. على أيّ حال، إن كان ما يقدَّم دون مستوى ذائقة هذه الفئة الطاغية، لم لا يحملون الراية بأنفسهم ويشتغلون بالكتابة الإبداعية ضمن مختلف الأجناس الأدبيّة، فيأتوننا بعدد من الروايات التي تبارز الروايات العالميّة بل تتفوّق عليها، أو بمجموعات قصصيّة ملهِمة لكلّ المنشغلين بهذا الفن، أو حتى بدواوين شعر خالدة بأصالتها وعمق إحساسها وبُعدها عن السطحيّة والنفاق اللذين ابتُلي بهما شعرنا ونثرنا مؤخّرًا؟! لمَ لا يقومون بكل ذلك ويكونون البديل الناجع، عوض اشتغالهم في النقد والتجريح، الذي يثبط عزيمة أصحاب المواهب، فيتقاعسون عن الإتيان بجديد، ما قد ينتج عنه طمس هويّتنا الثقافيّة، وجعلنا كمثقّفين في الدرك الأسفل بين الأمم؟! السؤال الذي تضمّنه هذا المشهد الإبداعيّ إجابته ليست بتلك الصعوبة، فهؤلاء النقّاد العظام المعنيّون بحديثنا، يعلمون يقينًا أنّ الأسلوب الكتابيّ لا يشكّل سوى القشرة الخارجيّة للأعمال الأدبيّة الخالدة، التي يمكن تشبيهها بالثمرة اليانعة بما تحتويه من أفكار وتفاصيل إبداعيّة يصعب حصرها، بمعزل عن لغتها، فالمظهر الجميل كما هو معلوم لن يعليَ من قدر الأشياء الفارغة. وأظنّهم يدركون تمامًا أنّ التعليم -مهما كانت جَوْدته- لا يخلق مبدعًا من العدم، وإنّما دوره تطوير قدرات المبدعين، وتصويب أخطائهم، ووضعهم على الطريق الصحيح للاستفادة قدر الإمكانّ من إبداعاتهم؛ وأحسبهم يعلمون أيضًا أنّ الأدب الحديث عمليّة تكامليّة لا يمكن الاستغناء عن أيٍّ من أضلاعها. فكما أنّ المبدع يحتاج للناقد، والمدقّق اللغوي، والمحرّر الأدبي، والناشر الأمين، وباقي أعضاء الفريق، نجد أنّ كل واحد من هؤلاء -مهما علا شأنه- يحتاج، وبشدّة، للمبدع الذي هو الأيقونة التي لا تكتمل الأعمال الإبداعيّة بدونها. لو كان المعلّم ملمًّا بكلّ ذلك، لنظر في وجه تلميذه مبتسمًا، وأخبره بكلّ صدق بأنّه يجيد الخياطة، ويتقن تعليمها وتمييز جيّدها من رديئها، ومتابعة نتاجها حتى يكتمل جمالها، لكنّه لا يمتلك القماش الذي يَخيطه، وليس لديه القدرة على ابتكار تصاميم أصيلة، ويخشى أنّ احتكاره لهذه الصنعة قد يُفسدها. ولعلّه سيهزّ رأسه ويصمت للحظة قبل أن يخبرَه بهدوء بأنّ اكتفاءه بهذا الدور المهمّ ليس عيبًا، في ظلّ أنّ هناك من يمتلك كل ما من شأنه جعل هذه الصناعة جميلة ومتقنة. هذا - في ما أظنّ - ما يمنح الكتابات الغربيّة قيمتها الإبداعيّة؛بينما لا نزال نحن نتصارع في ما بيننا حول أيّنا الأكثر أهمّيّة من الآخر: الكاتب أم الناقد؟!من دون أن نحفل بالقيمة الكبيرة التي يشكّلها فهمنا العميق لمعنى»حياكة الإبداع». ** **