ينتابك وجع طفولي، وأنت تتصفح كائنات شعرية يمزقها التلون والتشكل إيحاءً بتواصل حداثي مع منجز تقليدي، لكنك تفاجأ بلغة كلاسيكية في نسيج حداثي، تشيخ من خلاله المفردات، وتتوارى الدالالات منسحبة إلى الداخل، بينما النص يستمد مشروعيته من الصوت الموسيقي المتجذر «خليلياً» و«نازك ملائكياً». تحاول التماهي مع اللافتات التي يختارها صاحبنا عناوين لنصوصه، فتسعد بالتوقف لدى نصوص كما «فاتنة الحلم الرملي»، «خاتمة البوح»، «قراءة لصوت»، «من شظايا الماء»، «الحوات»، وغيرها. لكنك معني بالتداخل مع «نماذج» وليس الكل تعريفا وقراءة أولى تحتاج إلى وقت أطول كي تكون دراسة شاملة لمجمل المنجز الشعري لإبراهيم صعابي. وإبراهيم صعابي شاعر.. ميزته أنه مخلص لفن الشعر البيتي.. ومخلص أكثر للغة الشعر، ويتفانى في سبيل إنجاز مشروع شعري موسوم بالماء ودلالاته من حياة وخصب ونماء!! إبراهيم صعابي.. ينتمي للشعر وبه يعرف، مفرداته الشعرية تكتنز قوة وسلاسة وديباجة تدل على جذور التكوين الشعري لديه. مشكلة إبراهيم صعابي.. تكمن في ذلك الاخلاص حتى أن جمعاً من النقاد.. يَسِمُونه بالتقليدية.. والتقريرية.. والشعرية الواضحة. مأزق إبراهيم صعابي أنه حاول الخروج من هذا التأطير إلى القصيدة الحديثة عن طريق شعر التفعيلة لكن صوت الشعر الخليلي - التقليدي - البيتي يعيده إليه. معظم دواوين الشاعر إبراهيم صعابي التي بلغت ست مجموعات والسابعة الحوات في الطريق إلى النشر إن شاء الله تعطيك هذا التصور، وليس هذا مأخذا نقدياً وإنما تميزاً وميزة تحسب للشاعر إبراهيم صعابي. إبراهيم صعابي - بآخرة- شاعر كبير، قامة شعرية معروفة، مثلت الوطن في كثير من المناسبات.. صوته الشعري واضح ومعروف على مستوى الساحة المحلية والخليجية والعربية. منذ «الحصار».. إحدى قصائده في ديوان «شظايا الماء» يحملك الهم التقليدي الذي تنوء به القصيدة البيتية في عصرنا هذا، حيث تلتقي الذاكرة التاريخي، الذاكرة الشعرية، فتتواشج دلالات القهر والكبت من التسلط اليهودي والتشرذم العربي وما تعانيه المسألة الفلسطينية، وردة الفعل العربية تجاه كل تلك المآسي من بكاء وشجب وعويل ومطالبة بالسلام المهزوز غير المتحقق إلا في الذهنية العربية المتكسرة. وجه المليحة ما به.. قد كان يحمل غرة مجنونة.. من أول الدرب الذي نسي الخطى حتى حدود الماء في ورق الشجر.. شجر ... شجر وقصيدة قيلت على لغة المطر مطر ... مطر نسيت لشاعرها معاناة السهر وجه المليحة.. شوهوه .. وغيروا كل الصور هنا يتماهى الهم الخاص .. الذاتي بالهم العام الوطني الإسلامي. هَمُّ الشاعر المنتقل من دار لدار، ومن بلد إلى آخر. هَمُّ الفتى المحسود، المسروق، المقتول لأنه كان متوجاً بالمجد لكنه: أضحى الفتى خبراً وكان مدى الزمان المبتدا وهَمُّ الأمة المتقلبة في كينونة الهم والضعف والخذلان هَمُّ الأمة المسلوبة، المحسودة، المسروقة، المقتولة، لأنها كانت متوجة بالمجد .. لكنها: أضحت خبراً.. وكانت مدى الزمان المبتدا!! هنا يصافحك تاريخ النص 7/12/1416ه إذ يوحي هذا بدلالات نهاية العام، فشهر «12» هو الشهر الأخير من العام. فها هو النص يغادر عامه السادس عشر بعد الألف والأربعمائة.. وها هو التاريخ السياسي للأمة العربية يعيدنا إلى «الحصار» الاسرائيلي لفلسطين في ذلك العام مع ملاحظة التقارب بين الواقع السياسي التاريخي والواقع الشخصي الذاتي والنفسي. وعنوانه «الحصار» المختار بدلالة ذكية لهذا النص!! وتقف بنا القراءة أمام نصين من نصوص ديوانه الأخير «من شظايا الماء» وهما: «خاتمة البوح»، و«فاتنة الحلم الرملي». تشعر وأنت تراود هذين النصين لمقاربتهما أنك أمام نصوص واضحة لا تحتاج إلى قراءة، لكنك تفاجأ أن أحد مفاتيح النص يكمن في «الثنائية» التي يحملها كل نص مما يفجر مزيداً من الدلالات والرموز الايجابية التي تضيف إلى النص بعداً قرائياً مغايرا.