أعتقد أن الغوص في أعماق متعب التركي، ليس وفاءً لهذا الشاعر العذب فحسب وإنما هو من باب الوفاء للشعر الصادق والكلمة الراقية، فصحيح أن متعب التركي قد هجر الساحة الشعبية، ألا أنه ترك فيها صوته وروحه من خلال شعره النقي وإحساسه المتدفق، فوحده متعب التركي من يستطيع أن يحملك عبر النص، في رحلة تطوف بك بين أفق الإبداع، دون أن تكل قصيدته أو يجف عطاءه.. فعلى الرغم من اعتزال متعب للنشر، واتجاهه نحو الالتزام الديني، ألا أنه لايزال يعيش في ذاكرة المتلقي وكأن ما كتبه من الشعر ظل مستحوذاً على كل المساحات الخضراء في قلوبنا، فما يكتبه متعب من شعر قادر على النفوذ إلى دواخلنا، والاستحكام بمشاعرنا النابضة، ولاسيما أنه يكتب بعاطفة مؤثرة وصادقة يقول: ما قلت لي شي.. وش خليت ما قلته اسكت وخل الكلام لجرحي الدامي ففي هذا البيت تتضح العاطفة الصادقة، وتطغى المشاعر الجياشة على هذه الصورة التي رسمها متعب بكل اقتدار، فأراه وفق كثيراً في إيصال صورته لخيال المتلقى، حتى أنه وضعه وجهاً لوجه أمام ذلك السيل المنهمر من الجرح الدامي في صميم مشاعره. فتجده يواجه ملهمته، بقوله«ما قلت لي شي» مستخدماً«ما» النافية في بداية الجملة ليس رغبة منه في نفي كلامها، بل تهكماً من جرحها له، ومن ثم ظهورها بصورة بريئة وكأنها لم تقل شيئاً يثير المشاعر ويكتب الجراح، فيعاود الالتفات إليها«وش خليت ما قلته» ولن أفصل في المجادلة، ولكن«اسكت وخل الكلام لجرحي الدامي» فهو الابلغ لإيضاح الصورة والتعبير عما سببته المحبوبة من وقع في داخله. ويقول: وش طرالك.. بعثت اليوم برسالة كم سنة وأنت ماعبرت مرسالي أصل الأيام.. رحاله ونزاله من شرب مرها يشتاق للحالي ولعلها ميزة استفرد بها متعب التركي، وهي قدرته على مخاطبة الوجدان مباشرة، ولعل هذه الميزة ناتجة عن واقع يعيشه متعب، إذ إن ما يقوله يضيف حساً وروحاً للخيال، ولا أظنه يبنى عليه، وليكن لي شاهد من بعض شعره في قصيدة أخرى، إذ يقول: من عاش هالدنيا بلا صاحب وولف عزالله انه عاش عيشة يتامى قلب يضيق بذكريات الهوى جلف وقلبي مثل جرد القفار يترامى واعود إلى قوله:«وش طرالك بعثت اليوم برسالة» فتراه يورد هذا التساؤل، مترنحاً بين التقرير في حتمية الإجابة لدية، وبين التعجب«الحقيقي» بداخله في شعور متفاوت، ولكن يغلب عليه الاستنكار، بدلالة قوله في عجز البيت«كم سنة وأنت ما عبرت مرسالي».. ثم يكمل في أسلوب«استدراكي» النهج أي كأنه أراد أن يقول«لكن الأيام» رحاله ونزاله، فمن شرب المر منها، فلا بد وأنه حتماً سيشتاق للحالي، وهنا تلاحظ اختياره لمفردة«شرب» ولم يقل«ذاق»، فيتضح عمق هذه العلاقة التي أراد الشاعر إبرازها هنا. ويوظف متعب قدرته على معانقة الخيال، وأدوات التشبيه البلاغي لديه، في رسم صورة جميلة، إذ يقول: استحمليني لو زعل مني الكل البحر يدفن موجته في ضفافه فما أجمل هذه الاستعارة وما ابلغ هذا التشبيه يا متعب التركي.. فهنا يخاطب الشاعر ملهمته، طالباً منها أن تنصفه بتحملها له ووقوفها دائماً إلى جانبه، حتى ولو زعل منه كل من هم حوله، فأنت جزء مني وأنا جزء منك، ويقرب الصورة إلى ذهنها بتشبيهه لعلاقتهما بقوله:«البحر يدفن موجته في ضفافه».. فعلى الرغم من هيجان هذه الأمواج وهديرها المستمر، إلا أنها ما تلبث أن تتوارى خجلة بين ضفاف البحر!! وله أيضاً بيت رائع يقول فيه: ما عاد لي قلب.. حتى ياخذه غيرك أفنيت كل المشاعريا معذبها فأي حب قد بقي في قلبي حتى يستولي عليه غيرك، بل وأي نبض، وأي مشاعر وأحاسيس فهذه الجراح دامية، والاستنزاف ظاهر على واقعي المؤلم.. والجميل في شعر متعب التركي أن الصورة والمعنى هما الطاغيان على جوهر الصياغة الكلية، فحتى القوافي التي يختارها تخدم غرضه في تجسيد الصور التي يريدها، فتأتي سلسة وعذبة غير مخلة بجزالة اللفظ، ففي قوله:«ما عاد لي قلب» فهو لايقصد القلب بحقيقته المادية المحسوسة، إنما أراده بجوهره الحسي وهيامه الروحي، وهذه الصور الحية حملت الكثير من ملامح الإبداع بين طياتها، دون أن يلجأ متعب إلى التكلف في جملته والذي قد يعيق جاذبية النص. ولصدق العاطفة كلمتها السائدة في شعر متعب، يقول: يا من سكنت أجمل زوايا كياني يا ما على نفسي عشانك تحاملت مرات أحس انك معي شخص ثاني ومرات أحس انك حبيبي ومازلت لا تفرح انك دجت بين الحاني لو ما تخون الذاكرة ما تسللت عشان ماضيك الجميل وعشاني حاول تشيل من الوفا ربع ما شلت ماني على خبرك حبيبي تراني حتى عن صغار الاماني تنازلت مشاعر ملتهبة وعالم متأجج من التناقضات، وهذه الصورة في البيتين الاولين قريبة جدا من حيث المعنى لقول الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن: في حجر عينه لي غدير وسحابة وفي وسط قلبي له تناهيت وعتاب ان قلت أحبه يكفي القلب مابه وان قلت مابيه بصير كذاب وقلت بأن أجمل ما في قصائد متعب التركي، هي سرعة استيلائها على القلوب، وتسللها بين خفايا الروح، ولعلني أذكر هنا قصة حدثت مع الشاعر فهد عافت، حينما كان مقيماً في دولة الإمارات، وأوردها الشاعر إبراهيم الخالدي في كتابة المستطرف النبطي، يقول الخالدي:«جاء أحد الأشخاص لفهد عافت مصافحاً ومبدياً أنواع الإعجاب بشاعريته مؤكداً أن سبب إعجابه قول فهد في إحدى القصائد:«في هالزمن نسيان الأحباب عادي» يقول فهد:«إنني أمام هذا الإعجاب الشديد لم أستطع خذلان هذا المعجب لأوضح له أن هذا البيت ليس لي ولم يسبق لي أن سمعت به من قبل، فقد خشيت بصراحة من ردة فعله، وذوبان إعجابه أمام ناظري». وللعلم فإن الشطر الذي ذكره المعجب هو للشاعر متعب التركي من بيت يقول فيه: نسيتني، علمني اشلون بانساك في هالزمن نسيان الأحباب.. عادي». انتهى النقل من الخالدي. فمتعب حينما يكتب شعره، إنما يكتب الوفاء والإخلاص والتضحية، يقول: أكتب لغيره والقصايد تجي فيه كن القصايد حالفه ما تخونه فيأبى القلم أن يكتب لغيرها، وتتمرد القوافي عن كل معنى يخالف حنينها، وترفض المشاعر أن تبوح لغيرها، وكأن القصائد في داخله أخذت عهداً بالوفاء الأزلي لها. ويقول أيضاً دام نفسك ل حب الشعر مياله ليه ما صير شاعر وأنت في بالي وقرأت له قصيدة جميلة، يقول في أبيات منها: يوم طاب السهر.. عيت تطيب النفوس جت من الله.. وأنا كنت محتاجها كنها من حلاها.. كل ليلة عروس خايفه من عيون الناس واحراجها فقد لا يكون هذا الكلام حقيقياً في وصف الملهمة، ولكنها الرؤية من عين المحب التي تبالغ في وصف المهمة، فتتجاوز الموضوعية لتخضع تحت العاطفة، وتجنح فوق عنان الخيال. وهذا وصف آخر، إذ نجده يقول: راوي العود لا قاصر ولا هو بطايل ينعرف زولها لو هي بوسط الزحام ويكتب متعب أجمل الاختصارات، وأبلاغها في آن واحد، فيقول: اليا انشدوك العرب وش بينك وبيني قولي حياتي قصيدة.. كان شاعرها فما أكثر الشعراء الذين نمل من كثرة تواجدهم، وقد امتلأت بهم الصحفات.. ولكن متعب هو الشاعر الذي تحس بالشوق إليه كلما اقتربت منه أكثر، فما أن تقرأ له نصاً جديداً حتى تتوق نفسك لقراءة المزيد من نصوصه، يقول متعب: ياليت مجروح الهوى جرحه يشاف لقول قرب من جروحك وشفها ولانه عاشق سخي بمشاعره وأحاسيسه، فإنه يتحمل من الصدمات والطعنات من الأحبة دون أن يجازي ذلك إلا بالصبر والصمت. ما شوف لبحور القصايد مواني ولا عاد أشيل من الغلا كثر ما شلت يا ما خذوا مني ولا أحد عطاني ويا ما سمعت من الكلام وتجاهلت وفي قمة التوهج يأخذ متعب بالابتعاد عن الساحة، فيتخيل الناس أن نجمة قد أفل، بينما أنه بدأ أكثر نجومية وإشراقا، ولا أستطيع أن أصف هذا الإحساس، أكثر من متعب ذاته، فيقول: ماهو خطا عشان ادور معاذير ولا هو غلط عشان أدور صوابه اليوم توه عود لو كره الطير واصبح يشوف العالم أكثر رحابة مستغربين انه ملا قلبي الخير ليه الغرابه وين وجه الغرابه تعبت ادور للخطاوي مشاوير لين التعب زاد الليالي رتابه