حلقات يكتبها: سليم صالح الحريص صورها/ حمدان حسين عثمان مجتمع الأمس يبقى الإنسان في إطار بيئته وتكوينها ومكوناتها.. متأثراً بمحيطه.. ومجتمع الأمس، وإن كان القروي أكثر التصاقاً وانسجاماً مع الربيع والأمطار والماشية متعايشاً مع واقعه ومرتبطاً بكل مفردات هذا الواقع ومتكيفاً مع كل متطلبات هذا المشهد الذي تصطبغ حياتنا اليومية به. والانسان «القرياوي» ارتبطت ذاكرته مع المطر والرعد والبرق كا هي مع الملح والقفل والتمر، فكلما دخل الوسم يكون الانتظار لبُشرى تفد عن وسمية أروت أو أسالت شعيباً. وحين تكون احتفاليتنا بالمطر وسط القرى فإن بهجتنا نجسدها بأهازيجنا الطفولية البريئة. يا مطير العاصي.. مطِّر على رأسي.. وأغديك وأعشيك....الخ. احتفالية بالمطر.. احتفاء بالهطل.. تحلق الصبية وحبات المطر تبلل أجسادنا.. تغسل كل ما علق بالنفس من صدأ الأيام ورتابة الحياة.. تبتل ضفائر الصغيرات.. رذاذ لا تهابه طفولتنا البريئة ولا تخشى منه أمهاتنا علينا.. بل يشعرن بأن ما يأتي من المطر إلا البركة والخير. .. ذاكرة يحملها رذاذ المطر كلما كان الديم يصافح حلمنا.. حين يتساقط على الآكام.. التلال.. وذلك السفح المبتهج بترديد أهازيجنا الاحتفائية.. يشعرنا بفرحة كلما رددنا تلك الكلمات وقوس قزح يلون فضاء نطالعه ويصبغ فألنا بألوانه البهية. .. توسدت ذكريات الشتاء والصقيع وتضاريس الأرض وهي تحتفل بحبات البرد.. وهي تكسو التلال السوداء ببياضها الناصع فتحيلها إلى رأس وقد وخطه الشيب. .. لقرى الملح في جغرافيا.. الأزمنة.. وتاريخ الأمكنة وجد بشوش.. فتزغرد عجوز نصبت بيت شعرها «القطبة» في مفرش «أبو غريسة» تحيط بها أشجار الرتم.. كلما حطت سحابة خيرها.. واغتسل الثرى فاستنشق «القطين» رائحة الدخان المتصاعد من خضرة «الغظا». ..تبتهل الوجوه القرياوية كلما لاح برق ودوّى رعد وأمطرت السماء: قالت لي. غداً تخضر سهول الأرض يحمر أو يصفر الحماد وتصبح الجرداء مخضرة أزاهير تناغي الفجر.. تزهو بها الوديان والحرة سألت الحنو عن الدحنون.. عن الزعتر وربيع القلب هل يا ترى يزهر؟؟ غداً تزهر.. غداً تبهر وغداً يحضننا شتاء يأتي فيرجمنا بأسئلة كأن الليل لن يمضي وأن الفجر لن يظهر!!! الاستعداد. للربيع: .في مثل هذه الأيام من كل عام يبدأ الاستعداد.. بتجهيز بيوت الشعر.. توفير مستلزمات الارتحال إلى مواطن الكلأ والعشب.. الوسم قد دخل، وكلما لمست السماء صفاءها وغطت فضاءه سحابة كلما تراقصت الشفاه موعودة بالمطر.. موعودة بالنماء والاخضرار. برق .. رعد.. وذعذاع يحمل رائحة المطر.. الأرض عطشى.. والقلوب ظمئة.. صوت المطر ودوي الرعد ولاعج البرق يشيعان الطمأنينة في القلوب. خلف الأسيد الشراري صوّر احتفاليتنا بالمطر والربيع كما هي حالة الحب في حياة «ليلى العامرية» يقول: مع طلوع اسهيل للمسرى دعاني ضوح برّاق المزون العقربيّة ارعدت وامطر مطرها الريهجاني حطت الماء من مراهيش ثرويّة سالت الشعبان وفروع المثاني والسحايب وبلها حلب برديّة يجتلد فوق الوطا جلد السواني غيث خير وقدرة المولى قويّة اقتلب وجه البلاد بلون ثاني لبشت الثوب الربيعي بضحويّة جيت أحث خطاي يوم الله عطاني رغبة المربع بفياض عذيّة صوب ليلى والمتاهة رحت عاني وشفت نبت احرارها كالمزهريّة والمحاير عشبها فاق الأماني من جلس بأدناه ما شافه خويّة الخزامى واليهق والديدحاني مال بطرافة جناح الراعبيّة وأم سالمت غردت بأحلى الأغاني وسط روض بالوطا ما شفت زيّة لو وقف مجنون ليلى به ثواني عاف قلبه حب ليلى العامريّة هام في عطر النفل والقحوياني مع هوى ريح الشمال الذعذعيّة ديرتي محبوبتي روعة كياني حبها بالروح دام الروح حيّة في روابيها قضيت أحلى زماني القرايا والقريات الأبيّة أهلها أهل الوفا قاصي وداني قو بأس وزين طبع وطيب نيّة .. هكذا إذن هو المشهد وهي حقيقة الصورة.. أبيات جسدت واقع ربيعنا.. وارتباطنا به.. مشهد يبقى وإن أظعن الناس وأراحوا بيوت الشعر بكل أحجامها ومستلزماتها اليوم لكن ابن القريات يبقى بينه وبين هذه الصحراء عشق سرمدي وهوى لا يشاركه فيه أحد. .. صبيحة يوم مطير وغيوم تغمض أهداب العين عن رؤية سمائها. يتقاطر الظعن صوب الفيافي المتراقصة خضرة والجذلى بربيعها الأخاذ. صباحات جميلة ولوحة المظعنين تحتفظ بها تلك المنازل.. مواقد الدفء وحواكير الحجارة السوداء التي أبقوها لنا.. لنتذكرهم ونذكرهم. نسائم الصبح تراقص الأغصان الغضة وذعذوع يحمل شذى كل فيضة تباهت نواويرها وتناغمت رقصاتها مع تغريد البلابل الصادحة في فضاء هذا الكون. .. تستحضر الصورة.. تقتفي الأثر تؤنسك «فيروز» أو هي تذكرك بأمس لم يبق منه إلا «هوادي» وبقايا رماد مضى عليه عشرات السنين. تلفي خيام لهم من الصحاري البعيدة وتضوي على ظلهن نار الليالي السعيدة ومافي حدا يدلهن على الجراح الوحيدة.. وترحل خيام لهن وآآآآني وحيدة.. .. عندها تطالع الأماكن.. تتأمل المنازل.. تبحث عن تلك الخيام السوداء.. عن رائحة القهوة المخلوطة بأدخنة الغضا والرتم.. تصغي علّ صوت نجر يدعوك لتناول فنجان قهوة. .. دقوا المهابيج.. صوت المهابيج ينده يا محبوبي.. لا صوت مهباج ولا نجر ولا قطين تراه.. مجرد خيالات تتراءى لك.. تعايشها.. تراها من خيالك!! الشامة هنا «الشامة» تصافح أحلامي الخضراء.. تراقص مشاعري فأطوف سهلها.. أراهم.. أرى بيوتهم. ..فياض تؤنس بوشاحها المطرز فتغازلك «أم سالم» بتحليقها وتسلب أنظارك «الحمّر» بتنقلها بين غصن وغصن واطيار« الشنّار» في اختبائها بين شجرة وحجر. ووسط روض غني بشجيراته ونباتاته تشم رائحة «بنات وضيحان» وهن يخطين بين شجيرات الضمران والفرس وصوت مناد «احتلب».. انهن لا يأكلن إلا من نبات الأرض، ويمد لك ب «طاسة» تتقطع رغوتها.. تغريك بالشرب «حليب نياق» فتتذكر قول الشاعر: أحلى من در المباكير بالشتاء لاحت من بعض الفياض تحاش لكن صاحبك يجيبك بأبيات أخرى: حليبها طب الكبود العليلات مع التمر عن باقي الزاد نايب عادة درج عليها بادية هذا الجزء من الوطن في ضيافة لا يعتبرونها كرماً بقدر ما هي شيء طبيعي اعتادوا على ممارسته وجبلوا عليه.. صورة لن تجدها في غير هذا المكان. .. الشامة.. امتداد حلم أخضر على صفرة الأرض. شموخ يأخذ مكانه في سويداء القلب.. الشامة.. الحرة.. الحماد.. إلخ أماكن تبقى ذلك السر المدفون بين مهابط مقل وعلو الكتب ومسايل الناعم وشموخ عمود الحرة. أماكن حضنت «خفوف» المطايا في ارتحالها صوب «المفالي» فأسبلت العين وهدأ الخاطر.. أماكن تستيقظ كلما دوّى الرعد وأفزعها البرق.. يُضحك جنانها هطالة عانقت ثراها فارتوى كل سهل وأفاض كل سفح وسيّل كل واد. ..هي مفال سارت عليها أقدام من عشقوها حد الثمالة وقوافل قطعت فيافيها في رحلة البحث عن الكلأ والمرعى.. صوب محطات الحلم ومواقد الدفء.. رياض تبقى أنشودة الرعاة كلما خضرت الأغصان وتباسق الطلع وترنم «الشحرور» بأصواته الشجية.. يعيدك إلى الأماكن القديمة والأزمنة القديمة.. لتقرأ من سطرك الأول وذاكرتك الأولى. .. أماكن لها في القلب منزل وحين يشق الربيع عطش الصحراء وظمأ العين للنوار. تنهض بخيلاء مجارية رقصة «الديدحان» وتمايل أزاهير «السليح» وأغصان «الشلوة».. تنفض غبار الجدب فتتشقق الأرض لتعانق العين «بياض الزبيدي» و «حمرة الجبا» .. يقول الشاعر: مطرد البلعاسي: لو تحصل لي سجة قبل الابهاج ومشي مع فجوج الحماد الوسيعة مع خايع فيه الزبيدي تقل عاج يجذب على الميضاح بأبيض لميعة .. حين تخرج أرضنا مبللة بالمطر وتغتسل التلال بالديم وتسترخي المزن عند حدود الفرح لتعانق كل تل هنا والخدود تتورد بألوان زاهية.. ننيخ رحال السفر كي نتعطر برائحة النفل والاقحوان وليجمل «الدّل» بما يبهج القلب ويطرب العين. ترى الأرض طرية متراقصة كصف أطربة صوت طار وسامري بثّ شحنة من الطرب فتمايلت الأجساد المنتشية. . أو كما نشوة الربيع في تحلق صف «الدحة» بعيد تعللة على وجار وأحاديث مسلية من ليالي ربيع قطين رأوا في الدحة ما يمتص جهد ارتحالهم ورعيهم لماشيتهم أو سقياهم لها من غدير تلتطم جمتة: نزلوا يرعوا غنمهم حد النبعة القريبة ل.. انزل النبعة واسرح مع قطعانك حبيبي وحين يكون السمير مطلاً ببهائه وأنسه: تردد.. شعلوا النار وسهروا والقمر نورة يلالي.. نسم ريح الشمالي وانووا واحنا حبايب.. .. وحين يظللنا الليل بعباءته نتمنى أن يطول ويطول حتى يقطع الحديث صوت الراعي عن ذئب هجم ليخطف فريسته من وسط القطيع ليفزع الكبار لحماية أغنامهم.. قد يكون ذئباً أو كما أسمته فيروز: يا ذيب ياللي بالعالي لونك من لون عنيهم روح بسود الليالي سلم .. سلم عليهم ..صوت «المرياع» .. ثغاء الماشية.. سيمفونية لم تعزفها آلة موسيقية.. تثري دقائقنا بحنين لا ينقطع وتوقظ فينا إحساس علاة الغبار وصدأ السنين فنتلمس حدود الأمس ونستعيد صورته. .. خطت أرجلي بعد أن رميت بحذائي.. كي أستعيد صورة الطفولة لتعانق قدماي رمال هذه الأرض الطيبة لتغوص أصابع أرجلي فيزيد حبي لها توقداً.. لأتأكد ويزداد يقيني بأن حب أهلنا لهذه الأرض له سره الدفين. ألم يقل عبدالله بن رمضان: كريم يا برق حقوق زعج ماه على شعيب الجفر نثر غمامه امطر على الصوان سيلة ورواه حول بوديانه وشلّخ جثامه باير سعيبة من علاوية مشاه وحدرج كما امواج البحور ابترامة سمرمدا يرهب وحيفة من أوحاه بغثاة كن الشيخ بنا خيامه يفرح به اللي كل الأوقات يرعاه يرعى ربيعة بالغنم والجهامة لكن الشاعر المرحوم: سعيد بن غيثة الشراري يؤكد بأن ربعه سيحيلون طلباً للمرعى ألم يقل: بدون شور الراي باكر محيلين لا والله إلا دون هجسي وظني قاد الجهام اللي من الصبح مسقين باتوا على شور بصبح نصني وامست بيوت اللي على العز ناشين والصبح زينات المفارع طوني وغدا عسام الجو لون الدخاخين الزمل رد ودالة القلب جني .. هو الربيع يمنحك فرصة التغريد كطائر بلا قيد.. يحثك للبحث عن «البدو» في مفاليهم ومنازلهم بين «عريفان» أو «غريفة» أو «ريع الشراري» أو «بغيثات» أو «شداد المسمى» أو «ليلى». تأسرك بيوت الشعر وهي تلتحم مشكّلة قلادة تزهو بها الأرض وقطعان الماشية وهي تشكل بتماوجها على وجه الأرض المخضرة تمازجاً مبهجاً.. خضرة الأرض وبياض «الشاة». تشعرك بأن الوقت المستقطع من يومك هو عمر يعطيك اياه هذا الربيع. عندها تحلم بأنك للتو تعيش الحياة بمباهجها.. تأسرك تلك الفياض لظتها تمسك بقلبك وتستعذب الانشاد مع صدح «القباير».. التحليق معها. سكون يضيء لك شموع الأمل وهجعة الليل وأنت تتأمل «المجرة» وتقاطع النجوم وركض القمر باتجاه مغيبه.. تخرج الكلمات ممسوقة.. واستنشاق رائحة الشجر وهو يمارس مع نسائم الليل غرامه. .. صور عديدة تراها وعشرات الصور تعيشها.. فما الذي بقي؟؟ وماذا تركوا لنا وماذا أبقوا على خد هذه المليحة؟؟ كل شيء تركوه.. كل شيء بقي إلا هم.. تستيقظ من غفوتك.. تحدق في كل الأمكنة.. تتلفت يميناً.. شمالاً.. ترقب من على تل تنظر خلف شفق الصورة.. تسأل أين القطين؟؟ أين اظعنوا؟؟ لن يجيبك إلا الفراغ وصدى الشعر معك: ياما زمى من دونهم من حجاريف يبدا صحاصيح شعاف ومهافي بيني وبينه يهرف الذيب ويقيف ويزعج ثلاث أصوات عقب الهرافي ..تحدرك الآلام ويوقظك الشوق ويؤلمك البعد.. تطوح بقلبك لكن «فيروز» تجعلك تنتحب أكثر حين تدنو منك المزن ورائحة المطر وهي تلاطف أنفك.. جانا المطر من قبله والغيم لم أطرافه وأنا مضيّع وليفي شافة الله يامن شافه يأتيك الصدى.. كريم يانو بروقه تلالا برق ورى نو ونو ورى برق يهمي المزن والشعاب تعوي والعروق يبللها القطر.. فتتراءى لك الكثير من الصور والصور.. أجواء ممطرة وغيوم تلبد منافذ السماء فيطل عليك: بديوي الوقداني: الله من مزنة هبت هبايبها رعادها بات له في الجو زلزالي ريح العوالي من المنشا تجاذبها جذب الدلا من جبا مطوية الجالي ديمومة سبلت وارخت ذوايبها وانهل ماها على الخدان هطالي .. علمتنا البادية وأريافها قصائد نظمها من أسرتهم بجمالياتها فما استطاب لهم العيش بعيداً عن «سمرها» وكثبانها وشعابها. تفرحنا باحتفاليتها فنطلق هجينية تعيد لنا زهو شبابنا ولإنسان أرضنا عاطفته ولبلابلها انشادها ولماشيتها فرحها. ستبقى باديتنا مخضرة الجنبات.. مورقة الشجيرات متوردة الأزاهير.. تأتينا مع كل «وسم» متلفعة ب «الدحنون» ومتعطرة بالنفل وموردة الشفاة ب «دميم الغزال». لتشيع في النفس ربيعاً آخر ولتلاطف العين بفرحها.. ولتعيدنا إلى أماكننا القديمة.