كانت الأرض موعودة بالقطر... موعودة بالخير والنماء مساؤها لم يكن كباقي الأمسيات... لم يمر الليل عليها ثقيلا كلياليها ولم تكن الدقائق محسوبة.. لم يكن وقع الساعات كخطوات متعب.. بل مرت مثل ملاطفة تلك السحابة التي غافلتها فلثمت منها كل مبسم..... لم تستطع أرضنا أن تخفي بهجتها.. فرحها وهي تلك الليلة في هودج الفرح زفها الهطل عروسا... خرجت من مخدعها... كما أخرجتنا تلك الليلة فرحتنا برذاذ المطر واحتفاليتنا بالبرق والرعد لنحلق في أجواء احتفالية نقلتنا من جو التثاؤب حول موقد النار إلى اغتسال تحت شلال يتدفق صبيبا على هامات التلال وسفوحها... بطون الأودية ومسايل الأرض ومساقط الماء. كانت تلك الليلة... كل الوجوه تحمل صورة فرحها الموعود بالخير... بالمطر بالاخضرار... فهل يوحد المطر الصور لتبدو الصورة واحدة والمشاعر متوحدة...؟! هكذا بدت الصورة... هكذا رأيتها.. أو هكذا تخيلت..!! كانت الشوارع تغتسل والاجساد هي كذلك وشجيرات الزيتون في حقول النماء تغنت.. وأشجار الغضا والرتم والرمث طربت غسلها المطر بديمة. تلك الليلة كشفت لنا الشامة عن لغة العشق ومفردات البوح وأماطت لنا اللثام عن سر فرحها بتلك الليلة.. كأن الماء المنهمر من السماء وهو يصافح الأرض يوشوشها... يلاطفها وخرير المساقط المائية وهي تطوي الأرض تهمس في أذنها لتبرز مفاتنها التي غابت عن أرضنا.. لتبرز صور الجمال من احمرار دحنونها إلى صفرة الشلوة في سفوح تلالها.. إلى عطر النفل في جدائلها وطعم الشبح والقيصوم في ثميلة طاب لنا شرب مائها. كنت ذاك المساء أريد الحمد والشكر لواهب النعم أسأله أن يبارك فيما أعطى.. كما هم كل أبناء هذه الأرض.. والذين تشحذ فيهم رائحة المطر كل المشاعر والأحاسيس الدفينة ليظهروا مدى ارتباطهم بالأرض وتعلقهم بكل ذرة رمل. حين يكون المطر.. تكون للأنفس انشراحها وللعين متعتها وللأقدام عشق الخطو فوق رملها الناعم.. بين غضاة ورتمة.. وسط مغاليها البهية.. هنا في ابو نجيلة أو قبر الحصان وعريفان.. وإن حيل بيننا وبينها بعقم وآخر ومسحية وأخرى. لم تكتمل فرحتنا لأن تلك الأماكن أصبحت عصية على الأقدام ان تصلها... متاح للنظر رؤيتها عن بعد... هكذا أرادوا ان تكون مثل أخوات لها (شمسانات، البريكات، ابوطلحة). خطوت صوب الاخضرار.. كان الحلم وكانت الأرض تسترخي تحت مزنة علت كل مسيل... وكانت العصافير تشيع الدفء... بدت أشجار الرتم أكثر اخضراراً والرمال البيضاء أكثر فرحا بما وهبها الله من خير عميم... نقلت بصري إلى غريفة علّني أحظى بعناقها عن بعد.. فأبكاني اغترابها وحملت نظراتي صوب (ابونجيلة) فما احتملت رؤيته والعقم الترابي يحول بيني وبينه... ان يعتقدون بان العقم سينسينا تلك الأرض البهية... فهو خطأ جسيم. فلن تبرح صورة فيضة (ابن علية) أو فياض غريفة وغضا أبو علية ومذاري عريفان ذاكرتي ولن تغادر موطنها في قلبي ستبقى انشودة نتغنى بجمالها كل وسم... كل موسم اخضرار. هي الشامة... مرابع طفولتي... حيث خطواتنا احتضنها رملها الدافئ الحاني في صقيع كانون... هي أرض (القريات) ومغاليها ومرابعها... تسجل في حضورها ربيع قلوبنا وتنسج من اخضرار روابيها قصيدة عشق تخلدها قلوبنا من كثرة ترديدها. هي الأيام... المواسم.. تعيد لنا ذاكرتنا الأولى... صحونا الأول وطربنا في ليلنا المقمر ونشوتنا من نقاء ما نتنفسه من هواء شمالي محمل بالندى.. في ليلة من ليالي شتائنا الطويل.. يصحبنا الغضا... يسامرنا الجرم والرتم.. يمنح العيون كحلها وللملابس عطرها وللمجالس انسها. أنّا تنقل خطواتك فأنت في أغنى منطقة رعوية بالمملكة فلن تجد مثيلا لاغلب أعشابها وأزاهيرها ولن تطأ قدماك أرضا مثل أرضها فتنة وبهاء وحسنا... هي الشامة... قد سكنت شغاف القلب واستوطنت كل مكان في الجسد... انشودة نتغنى بها كلما علّها الوسمي ونثرت على خدها كل الوان الجمال وأسرت كل عين رأت مفاتن الأرض.