لا أجد في كتب النحويين المتقدمين نصًّا على جمود الفعل (تبارك) أي استعماله ماضيًا فقط، أما كتب المتأخرين كابن مالك وشراح كتبه فاطرد النص على جمود هذا الفعل من غير بيان علة ذلك إلا نادرًا(1). ومن غير النحويين نجد السمرقندي(ت 373ه) يقول عند قوله تعالى {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرا}[الفرقان-1]. قول الله سبحانه وتعالى: تَبارَكَ قال ابن عباس رضي الله عنه يعني: تعالى وتعظّم. ويقال: تَفاعَلَ من البركة، وهذه لفظة مخصوصة، ولا يقال: يتبارك، كما يقال يتعالى. ولا يقال: متبارك، كما يقال متعالٍ. ويقال: تَبارَكَ أي ذو بركة. والبركة: هي كثرة الخير»(2). ويبين ابن عطية (ت 542ه) جمود هذا الفعل، قال «ولا يوصف بها إلا الله تعالى، وتَبارَكَ لا يتصرف في كلام العرب، لا يقال منه يتبارك، وهذا منصوص عليه لأهل اللسان. قال القاضي أبو محمد: وعلة ذلك أن تَبارَكَ لما لم يوصف بها غير الله تعالى لم تقتض مستقبلا؛ إذ الله قد تبارك في الأزل، وقد غلط بها أبو علي القالي فقيل له كيف المستقبل من تبارك فقال يتبارك، فوقف على أن العرب، لم تقله»(3). ونجد في هذا النص ربطًا بين جمود الفعل ودلالته المتصفة بالأزلية، وهذا أمر سأبين علة توقفي فيه، وأما تغليط جِهْبِذٍ كأبي علي القالي فغير وارد؛ فلم نرَ كيف صيغ السؤال، فيغلب على الظن أن أبا علي القالي أجاب عن تصريف الفعل بإطلاقه من غير إسناده لاسم من أسماء الله أو ما يدل عليها، فكان جوابه صحيحًا بغض الطرف عن سماعه من العرب فما طريقه القياس لا يعوز إلى سماع. قال ابن مالك «وليس في الأفعال ما لا مصدر له مستعمل إلا وتقديره ممكن كتبارك وفعل التعجب، إذ لا مانع في اللفظ»(4). ولذلك نجد الفعلَ مستعملًا مضارعُه مسندًا لغير الله، قال سبط ابن الجوزي (ت 654 ه) «وقبرُه ظاهِرٌ يُتبارَك به»(5)، قال الذهبي (ت748 ه) «وقبره يُتبارك به ويُزار»(6). وجاء في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (ت 1021ه) «لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ يُتَبَارَكُ بِهَا»(7). وقال صالح آل الشيخ «فإذا أخذ - من هذه حاله - تراب القبر، ونثره عليه لاعتقاده أن هذا التراب مبارك، وإذا لامس جسمه فإن جسمه يتبارك به أي: من جهة السببية: فهذا شرك أصغر»(8). ونجد علة جمود الفعل (تبارك) عند ابن فرْحون (ت 799ه) قال «وأمّا (تبارك) فإنه لا يُستعمَل إلا مع اللَّه تعالى، وذلك إذا كان بمعنى التنزيه، فإن كان بمعنى (التبرك بالشيء)، مثل: (تباركت بقدوم زيد)، (أتبارك به)؛ فإنه يجوز، وإن كان إطلاقهم يأبى ذلك. وقد تقدّم في الحديث الثاني من (باب التشهد)»(9). وقوله «وإن كان إطلاقهم يأبى ذلك» يعني مثل قول أبي حيان (ت 745ه) «وتَبارَكَ تَفَاعَلَ مُطَاوِعُ بَارَكَ وَهُوَ فِعْلٌ لَا يَتَصَرَّفُ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى فَلَا يَجِيءُ مِنْهُ مُضَارِعٌ وَلَا اسْمُ فَاعِلٍ وَلَا مَصْدَر»(10)، وقول ابن القيم (ت 751ه) «وأما صفته تبارك فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه ... أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوهما فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمها وسعتها»(11). تخصيص هؤلاء استعمال الفعل (تبارك) بأسماء الله وصفاته مطلقين ذلك إطلاقًا اقتضى التنبه إليه، فبين ابن فرْحون أن تلك الخصوصية متعلقة بالتنزيه، أي إنه إن استعمل (تبارك) لإنشاء التنزيه كان خاصًّا بالله وكان جامدًا، فإن انصرف إلى غير ذلك عاد متصرفًا؛ فجمود الفعل مرهون باستعماله لتنزيه الله، وليس لكون الفعل دالًا على الأزلية كما ورد سابقًا وأشرت إلى التوقف فيه. وقد أشار غير عالم إلى تعدد استعمال الفعل، ولعل أوضح قول ما ذكره ابن عاشور «وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَتَوَفُّرِ كَمَالَاتِهِ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّعْلِيمُ وَالْإِيقَاظُ، وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ إِنْشَاءِ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْشَأَ اللَّهُ بِهِ ثَنَاءً عَلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: 1]»(12). والذي ننتهي إليه أن الفعل (تبارك) ونحوه مثل (تعالى وتقدس وتعاظم) إن أريد بها إنشاء الثناء والتنزيه لله فهي جامدة لا يستعمل منها سوى الماضي، ومرد جمودها إلى خصوصية الاستعمال، وإن أريد بها الإخبار تصرفت، فمن تصرف الفعل (تعالى وتقدس) قول ابن الأثير «واللَّه يَتَعالى عَنْ ذَلِكَ ويَتَقدّس»(13). ... ... ... ... (1)ينظر:ابن مالك، تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، ص: 246. ابن هشام، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، 3: 232. الأشموني شرحه لألفية ابن مالك، 2: 268. خالد الأزهري، التصريح بمضمون التوضيح، 2: 64. ناظر الجيش، تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد، 9: 4522. ابن عقيل، المساعد على تسهيل الفوائد، 3: 244. (2)السمرقندي، تفسير بحر العلوم، 2: 528. (3)ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، 2: 409. (4) سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، 5: 459. (5)ابن مالك، شرح التسهيل لابن مالك، 2: 179. (6)الذهبي، تاريخ الإسلام، 50: 74. (7) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي، 1: 240. (8)صالح آل الشيخ، التمهيد لشرح كتاب التوحيد، ص: 129. (9)ابن فرحون، العدة في إعراب العمدة، 3: 8. (10)أبو حيان، تفسير البحر المحيط، 8: 79. (11) ابن القيم، بدائع الفوائد، 2: 185. (12) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 18: 316. (13)ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، 4: 32.