إنّ الملحمة الشعريّة الأوديسّة ل«هوميروس»، التي ظهرت في القرن الثامن قبل الميلاد كبداية خجولة للرواية بشكلها الحالي، رسّخت مفهوم البطولة، وأظهرت ولأوّل مرّة - فيما يبدو - دور النساء البطوليّ، وساعدت على إعادة النظر في مفهوم الحرب والسِّلم، وعزّزت معنى العودة إلى الوطن، مكرّسة مفهوم «الفرديّة» الذي قاد إلى تغييرٍ كبير في العالم القديم.. هذا العمل الأدبيّ العظيم يُعَدّ مثالاً ناصعاً، يُظهر بجلاء قدرةَ الأدب على التغيير، وتأثيرَه الكبير في المجتمعات منذ تلكم العهود الغابرة. وفي سيرة الكاتب الروسي «مكسيم غوركي» ما يدعم بقوّة هذا الاستجلاء لأهميّة الرواية، وذلك عندما أوعز إليه «ستالين» بتخليد مسيرته النضاليّة في رواية أو مسرحيّة، فرفض أن يكون ستاراً يُخفي الوجه القبيح للأفكار الشيوعيّة ولقادتِها الموغلين في سفك دماء البسطاء، مع أنّه كان قد تبنّاها بداية مع صديقه «لينين»، ولكنّه ما لبث أن تركها لاحقاً، بعد فهمه لمغازيها الأيدلوجيّة؛ فكان الثمن مقتل ابنه مسمومًا في عام 1934م، ثمّ مات هو بالطريقة نفسها في 18 يونيو - حزيران 1936م؛ إلّا أنّ اسمه بقي خالداً.. وفي هذا ما يشير إلى قدرة الروائيّين على تحريك الجموع وتقويض سلطات الحكّام المستبدّين. أيضاً، في هذا السياق التاريخيّ، نستحضر رواية «كوخ العمّ توم» للكاتبة الأمريكيّة «هيريت بيتشر ستو» التي نُشرت في 20 مارس من عام 1852م، وعُدّت من أكثر الأعمال الأدبيّة تأثيراً في حركة التحرّر من العبوديّة في أمريكا. كذلك رواية «فرانكشتاين» للكاتبة «ماري شيلي» المنشورة في أوّل يناير من عام 1818م، والتي استشرفت الكاتبة، من خلالها، المستقبلَ البعيد، بحيث تنبّأت بخطورة الابتكارات العلميّة على الحياة المدنيّة، وخروجها عن نطاق السيطرة. ذلك يقودنا بالطبع إلى الوقوف في وجه من يقلّل من أهمّية الرواية، أو يَعدّها مضيعة للوقت وملهاة للشعوب؛ وإن كان علينا الاعتراف أوّلاً، بأن ليس كلّ من كتب صحّ أن نسمّيه كاتبًا وأديبًا، وكذلك ليس كلّ من وضع مخطوطة على أرفف المكتبات وصنّفها رواية، عُدّ روائيًا، إذ لا بدّ من الفصل هنا بين الأدعياء وبين تلكم النماذج الرائعة التي تركت أثراً خالداً لن يمحى من ذاكرة الزمن مطلقاً. والسؤال المهمّ هنا: هل يصحّ تصنيف هؤلاء المبدعين وصنّاع الحياة صلحاء أو خبثاء تبعاً لما يطرحون من أفكار في سرديّاتهم، وإن لم تعجبنا؟! في ظنّي، إنّ الحكم لن يكون مطلقاً، إذ لا مقياس حقيقياً يميّز من خلاله الصالح من الخبيث، طالما لم يكن هناك تصريح بالأفكار والتوجّهات؛ وهو ما يستحيل تبيّنه في الدراما السرديّة التي تتكوّن عادة من شخصيّات تطرح أفكاراً متضادّة، لا نعلم أيّها يتبنّاه الكاتب. والدخول في النوايا - كما هو معلوم - أمر غير مقبول مطلقاً؛ هذا عدا أنّ ما تعتقده أنت سيّئاً قد لا يكون كذلك في نظر غيرك. وعلى أي حال، التصنيف في كلّ أحواله يُعَدّ ضعفاً يلجأ إليه أصحاب المآرب والحجج الواهية، محاولين من خلاله تجييش عامّة الناس، وفصلهم عن محيطهم. ولكن، حتّى نكون منطقيّين، علينا تقبّل وصم بعض الروائيّين بالخبثاء؛ فثمّة روائيّون يمارسون بالفعل الاحتيال تجاه القارئ، مسخّرين أقلامهم لأهداف قميئة أو للترويج لمعتقدات شاذّة. فالمشاريع الإبداعيّة - كما هو الحال مع غيرها - قد يوظَّفها ضعاف النفوس لأغراض شخصيّة... ولكنّ ذلك لا يعني بكلّ تأكيد إغلاق هذا الباب كلّيًا خشية التغرير وغرس الأفكار الهدّامة؛ فالإغلاق يستحيل أن يكون حلاً لمعضلاتنا مهما بلغت شدّتها، وما نحتاجه هو إيماننا بضرورة أن تكون قراءتنا واعية، نقف من خلالها على الأفكار العميقة، وندرسها جيّداً، قبل أن تتحوّل إلى قناعات تسيّرنا؛ فالكيّس الفطن لا ينجرّ خلف الأفكار دون تمحيصها والتدقيق فيها وتصفيتها، لا سيّما أنّ الغثّ يغلب كثيراً على السمين في الأعمال الروائيّة، بالأخصّ العربيّة منها، حيث نجد كثيراً منها مجرّد حكايات مبتذلة، تفتقر أولًا للّغة الرصينة، ثمّ لتقنيّة العمل الروائيّ ومنهجيّته العالميّة، ولا تتضمّن أيّ أهداف أو مضامين عميقة مؤثّرة وقادرة على إحداث التغيير؛ هذه الثوابت التي ميّزت بعض الأعمال العالميّة، فاستطاعت من خلالها إعادة صياغة الأمم! ** **