لم تكن بلجرشي - في حينها - إلا قرية هادئة من قرى منطقة الباحة، يميِّزها سوق السبت الكبير الذي كان ميداناً من ميادين التجارة الناجحة في المنطقة، يفد إليه الناس من قرى تهامة والسراة كل أسبوع بشتى البضائع التي يغلب عليها الانتاج المحلي غذاءً وصناعةً، وثروةً حيوانية كبيرة، كانت بلجرشي في حينها تحتضن المدرسة السلفية التي انبثقت فجراً علمياً دينياً مضيئاً في المنطقة كلها، وقد أشرف عليها ولا يزال الشيخ الفاضل «محمد جمَّاح» وفقه الله، تحت رعاية ومتابعة من الشيخ محمد بن إبراهيم، ثم الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمهما الله سبحانه وتعالى، ولا تزال هذه المدرسة تحت إشراف شيخها «محمد جماح»تعطي إلى الآن. في ذلك الحين زُفَّت إلى الناس بشرى افتتاح أول «معهد علمي» في المنطقة «معهد بلجرشي العلمي»، فازدادت القرية آنذاك، المدينة الآن، نوراً على نور، واحتضن المعهد العلمي مئات الطلاب من داخل المنطقة وخارجها، ودبَّ في أوصال «بلجرشي» نشاط ثقافي جديد، اضافة إلى النشاط الذي كانت تقوم به المدرسة «السلفية». ونشرت شجرة العلم النافع ظلال أغصانها على روابي المنطقة الخضراء، وازدهرت سنوات العطاء منذ ذلك التاريخ الواقع في 1385ه فما بعدها، ولم تكن المدرسة السلفية، ولا المعهد العلمي ببلجرشي مدارس متقوقعة على نفسها، بل كانت ذات صلة وثيقة بالمجتمع، تفتح أبوابها للناس، وتخرج إليهم في منتديات ثقافية واحتفالات سنوية متميزة تبرز من خلالها المواهب المتعددة، وتنتشر بها روح الوعي والعلم والثقافة النافعة بين الناس. في فترة ذهبية من فترات الدراسة المضيئة في معهد بلجرشي العلمي، كان الشيخ القدير «عبد الرحمن بن عثمان الجاسر» - رحمه الله- مديراً للمعهد، وأيُّ مدير، كان صاحب علمٍ وثقافة، وصاحب رأي وبصيرة وصاحب خلق فاضل نبيل، وصاحب رؤية تربوية بعيدة النظر، وقد حظي المعهد بعدد من الطلاب الأذكياء المتفوقين الذين استقبلوا العلم استقبال الأرض الخصبة للغيث الهنيء المريء الغَدَقْ، فنمت في عقولهم شجرة العلم، وتفرعت أغصانُها، وطابت ثمارُها. كل من عاصر الشيخ «عبد الرحمن بن عثمان الجاسر» في تلك الفترة عرف قيمة علمه ووعيه، وأدرك مدى إخلاصه وتفانيه، ولو سئل الآن عنه أبرز تلاميذه في المعهد، وفي مقدمتهم الشيخ علي الحذيفي إمام المسجد النبوي الشريف لتحدث عن أبي عبد الله بما يؤكد ما نرويه عنه في هذه الأسطر التي تتشرف بالاشارة إلى ذلك الرجل القدير - رحمه الله. هذا ما تحتفظ به ذاكرة «بلجرشي» المدينة التي خرجت من اطار «القرية» بعد النهضة الواسعة التي مرت بها بلادنا منذ انطلاقة ما نسميه «بسنوات الطفرة». أما ذاكرة «الدِّلم» مسقط رأس الشيخ وبلدته الأصلية فهي تحتفظ بأضعاف ذلك، فالشيخ «عبد الرحمن» علمٌ من أعلامها، وفقيهٌ من أبرز فقهائها، ومصلحٌ اجتماعي من أبرز مصلحيها، وهو ممن تتلمذ على يد الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمها الله تعالى، وهو تلميذ مخلص للشيخ الفاضل عبد الرحمن الجلاَّل أطال الله عمره على طاعته الذي يملك هو -أيضاً- من العلم، والخلق الفاضل، والسعي في طرق الخير ما كان له أثرٌ واضح في شخصية تلميذه الشيخ عبد الرحمن الجاسر رحمه الله تعالى. الشيخ عبد الرحمن بن عثمان الجاسر إمام الجامع الكبير في الدِّلم، وشيخ طلاب العلم فيها، والساعي إلى مصالح الناس، والمتولي لأمور الافتاء فيها بالتنسيق مع سماحة المفتي، وهو مكان ثقة شيخه عبد الرحمن الجلال، وثقة الناس جميعاً، رجلٌ صالح - ولا نزكي على الله أحداً - محبٌّ للأدب، متذوقٌ للشعر الأصيل، متابعٌ له، حريصٌ عليه، كما أنه مدير المعهد العلمي في الدلم لسنوات طويلة ورئيس مجلس الادارة للمكتب التعاوني للدعوة فيها. رموز علمية مخلصة متواضعة، لاتشغلها الدنيا ومظاهرها وبهرجها، نشعر نحوهم بمشاعر الغبطة والامتنان، والتقدير، ونودع من نودع منهم بدموع تعبر عن ألم الفراق، وتسقي شجرة الأمل الكبير في ربنا العزيز القدير، أن يتغمدهم برحمته، ويجمعنا بهم في جنات النعيم. أخبرني الأخ الكريم الأستاذ «عبد الرحمن الداغري» أحد تلامذة الشيخ الراحل أنه كان يردد قبل موته رحمه الله عبارات الشكر لله والذكر والدعاء، ويكثر من قوله لمن حوله «لله ما أعطى ولله ما أخذ.. الأرض لله يورثها من يشاء.. كلنا سنمشي.. أستودع الله دينكم، وأسأله أن يعاملنا بلطفه وكرمه.. الحق لا بد منه، الحق لا بد منه.. الحمد لله على نعمه.. الحمد لله على نعمه.. الحمد لله على نعمه». هكذا عطَّر الأجواء بهذه الكلمات وأمثالها، ثم أسلم الروح إلى بارئها - رحمه الله - وذلك يوم الاثنين 8/8/1423ه.. عزاءً صادقاً لأبنائه وذويه ولشيخه القدير شيخنا الحبيب «عبد الرحمن الجلال» ولأهل الأمر والعلم في بلادنا الغالية - حماها الله وحرسها من كيد الكائدين-. ما أجمل نسائم الحب في الله، حينما تهبُّ علينا في أجواء هذا العصر القاتمة. إشارة: ُلْمَتني يا شعرُ أم لم تَلُمِ فستبقى مفصحاً عن ألمي خذ عزائي صادقاً وارحَلْ به