ليس من اليسير البحث في تكوّن المعنى الشعبي، خاصة وقد حددناه بقائليه، وبالموضوعات التي يدور حولها، بيد أن تحوّله من شيء للا شيء إلى معنى يتطلب المرور بكثير من الأحوال أو المراحل.. فنحن حين نصنفه بأنه شعبي أو غير شعبي يعني أننا نربطه ببعض الحقول ذات الاتصال بالمجتمع أو المعرفة المعترف سلفاً بها، وبأهميتها، وهذا يعني أننا نستعمل المراحل السابقة التي قطعها الحقل الكبير لتعريف المعنى الجديد. لكن كيف نصنف المعنى الجديد وفق الحقل الكبير القديم؟ ربما نعتمد الحيل التي تمارسها اللغة في بناء الترابط بين الأشياء كالاستعارة، أو التورية أو المجاز، أو الكناية، أو التعريض ونحوها، في الربط بين البناء اللغوي بدلالته الشعبية.. إلا أن المشكلة هي أننا حين نصنفه وفق الحقل القديم فإننا ننفي أو نلغي دعوى أنه أصل أو نواة لمعنى جديد؛ وذلك لنسبته للحقل القديم. ومع هذا فسنحاول السير بهذا الاتجاه. ضربنا مثلاً على المعنى الشعبي في المقال السابق بقولهم: «هم في مثل حولاء الناقة». وقلنا إن دلالته على الخصب من قبيل قولهم مهزول الفصيل، وهو كناية؛ وذلك أن حولاء الناقة مملوء بماء أخضر كما يقول الميداني، فهو مثله؛ مما يعني وفرة الخصب والماء والنعمة. فالحولاء هو قائد السلى، أي هو عضو مثل المعي مملوء ماء أخضر يخرج قبل السلى عند ولادة الفصيل، وما فيه من ماء هو طعام «الحوار» في بطن الناقة. ومع أنه صغير فإنه يمكّن الحوار من الحياة في بطن الناقة؛ وهو ما يكسبه أهمية وقيمة في الوظيفة. وبناء على أهمية الحوار لدى صاحب الإبل نشأت أهمية هذا الجزء في السلى عنده وقيمته، وصار يضرب به المثل. هذا هو الأصل في المعنى، لكنه تراكم بعد ذلك مع عدد من المكونات في السياق الشعبي نفسه، وذلك من خلال ارتباطه (الحولاء) بالإبل ذات القيمة العالية، ثم ارتباطه من جهة الخضرة والماء بالعشب والمطر، مما هو فضاء صاحب النعم، وهو ما يدل بعد ذلك على النعمة وهناء الحال. هذا التراكم في المعاني وتتابعها يكوّن المعنى الشعبي، ويجعله فاعلاً في الثقافة، وقادراً على حمل رسالة الفئة المستخدمة له، وإيصال ما يدور في ذهن المتحدث والسامع. ويمكن أن نضرب على ذلك بالحكايات التي أوردها الجاحظ في كتاب البخلاء كما في حكاية مريم الصناع، وهي طريفة، ولكنها تعكس الحس الشعبي ليس لدى البخلاء كما صورها الجاحظ وإنما لدى قوم مستوري الحال، يحتالون لمعيشتهم للإبقاء على أودهم. فمريم الصناع تأخذ من دقيق الخبز كل يوم حفنة، فإذا اجتمع عندها مكوك (وهو مقدار الصاع أو يزيد) باعته حتى إذا جاء زواج ابنتها جهزتها كما تجهز الفتيات القادرات من غير أن تسأل زوجها شيئاً. وإذا كان الجاحظ قد أوردها بغية إظهار التطور الذي وصله الفكر «البخلي» - إن صح التعبير - باصطفاء البخلاء شخصيات يتخذون سيرهم نماذج للدرس، وترسم الآثار، وذلك في معرض الإضحاك والتندر (مع ما في هذا القول ما فيه بناء على أن هناك من يرى أن الجاحظ نفسه بخيل، وأنه إنما أوردها في معرض الحجاج عن البخل والدفاع عن مذهبه)، فإن المهم لدي هنا المعنى المأخوذ من هذه الحكاية، وهو أهمية إعداد البنت للزواج إعداداً كاملاً مع الاستغناء عن الزوج ومسألته في ذلك بوصفه شأناً نسائياً خاصاً، ما يمنحها استقلالاً عنه، ويحفظ لها كرامتها. فأهمية هذا المعنى مرتبطة بعدد من المعاني ذات القيمة لدى الفئة الشعبية، أهمها الحفاظ على «كرامة المرأة»، وهي - أي الكرامة - قضية مفصلية بالنسبة لسواد الناس وعامتهم، يتركون أشياء كثيرة للحفاظ عليها، وينطلقون منها في تقويم الأشياء، وبيان منزلتها. ومن كرامتها تحقيق استقلالها عن الزوج مادياً، وعدم احتياجها له في كل صغيرة وكبيرة حتى تتمكن من تحقيق استقلالها النفسي والجسدي، والاجتماعي بعد ذلك، وهو استقلال نسبي، خاصة في وسط ثقافة تحث على تعدد الزوجات. وقد يميل الزوج إلى واحدة دون أخرى، ولا تشعر بقيمته إلا المرأة نفسها التي وإن كانت تظهر بوصفها أقل من الزوج إلا أنها لا تخفي الشعور بالندية والرغبة في ذلك حتى ولو ذلك كان في نفسها على أقل تقدير. وفي إطار هذه الكرامة أن تظهر البنت يوم زفافها بالمظهر اللائق حتى لا تبدو أقل من مثيلاتها في المجتمع أو من بنات ضراتها إن كان لها ضرات، دون أدنى تكلفة؛ إذ إن كل ما تكلفته هو حفنة من دقيق كل يوم، لا تكاد تبين في المقدار المعد للعجن. المعنى الثاني قيمة «التوفير» في الحياة اليومية، وهو أيضاً معنى شعبي؛ فهذا القليل من الدقيق قد أصبح كثيراً حين ضم إلى مثيلاته، ومكن من إنجاز عمل كبير، كان من الممكن أن ترصد له ميزانية خاصة توازي ميزانية الضيافة. وهو معنى لم يكن ليظهر في حادثة «حفنة الدقيق» بوصفه جزءاً من التوفير الاقتصادي لولا أنه أدى إلى الحدث الأكبر، وهو التجهيز، الذي تكوّن من هذه المعاني الشعبية المختلفة، وأصبح ذا دلالة عليه أولاً، وذا قيمة بها ثانياً.