تمر امامي ملامح ذلك الوجه الملائكي.. اتحسس براءته.. اشعر بأنفاسه العذبة التي تحولت الى طيور اشبه ما تكون بحمام السلام الابيض.. امام المرآة تنعكس ملامح اخرى اشاهدها كل مساء.. ولكن كيف لذلك الوجه ان يمتزج مع ملامحي.. ان يختلط مع انفاسي.. تعود للمقعد، تحرك الاوراق المبعثرة من على المنضدة تشعر ببياض الاوراق.. برودتها.. الآن اشعر بأن كفي تحمل كوراً ثلجية تمتص معها حرارة تخرج من الاوردة وتحول قطرات العرق الى نقط بللورية بيضاء.. في حين ذلك ترسم بأناملها خطوطاً متعرجة.. اوجه تمتزج بألوان قاتمة.. تمزق الاوراق، تشعر بأن هناك احساساً قديماً تدحرج من قمة الذاكرة فهوى على سطح المكتب واخفى معه بياض الملامح الشفافة.. صوت الطفولة الذي غاب مع قطار الشباب.. واختلط مع صورة زوجة أبي بملامحها المتحجرة واطرافها الخشنة. تمسك بقميصي الابيض تشده.. تمزق اطرافه.. حتى اسقط على الارض بقوة هائلة من حقدها الدفين.. أبكي وامامي فقاعات الصابون تخترق أنفى.. أختنق.. أنفر منها ثم لا ألبث الا وتلك الفقاعات تنهال على وجهي فتبلل ملابسي.. حاولت الهرب ولكن الى أين.. وعندما اتمدد بجسدي النحيل على الارض اتأمل القمر، أرى فيه وجه امي التي تركت عشها وارض الوطن فلم تشعر بألمي أو بتلك الكدمات التي اتألم منها كل مساء. كف أبي تلامس جسدي. أقف امامه. أخفي بعض القطرات المنسكبة على ذكريات مضت بكل ما فيها من محطات ألم.. ضياع.. خوف.. بكاء.. تستوقفني كل مساء بلا وعي أو إدراك.. أبي ينصحني بالنوم.. والابتعاد قليلاً عن الانغماس بين هذه الاوراق.. أبتسم، أقبِّل كفه. أرى في عينيه بياضاً جديداً.. يعيد لي ملامح ذلك الوجه الملائكي.. ينظر لي بطرف عينه وهو يحمل بداخله العديد من الكلمات تسقط على أوراقي قطرات تتبخر. تملأ فضاء غرفتي بزهور بيضاء.. أغرسها في اهدابي لترتوي بعذوبة من حنان الأب والأم.. ومدى حاجتنا الماسة إليهما.. أبي نصف موجود في حياتي وأمي نصف آخر غاب في دروب الحياة وزوجة أبي هي الاخرى عبرت طريقاً آخر بعد ان اخفت اولادها عن عيني والدي وهما المحببان الى نفسه. ما أقسى تلك القلوب التي امتصت بياض الروح وسقت الآخرين سموم الالم والضياع. ما بين النافذة وملامحي قمر مضيء.. نسائم عذبة.. بياض شفيف يخترق نبضاتي، يشع في أوردة الذكريات.. شيءٌ من النسيان يرفرف حول القمر.. اوراق بيضاء تغذي اناملي بطعم الامل ويمد ذاتي بشفافية النبض الذي يختفي في حصن منيع بين قلب وأوردة.. هذا هو القمر ذاته عندما كنت في محطة التاسعة من عمري والآن اطل من نافذة اخرى من قطار يتحرك بلا توقف بعد مضي ما يقرب من احدى عشرة سنة. كل شيءٍ مضى ولا يزال النبض الشفيق في صومعته ينفذ من كوة صغيرة استمد من ضوئه زاداً نتقوى به لمواصلة قطار الحياة..