من المقرر عند العلماء وطلبة العلم والوراقة ان هناك كتباً تعد من الأمهات التي لا يمكن الاستغناء عنها فتتلقاها الأوساط العلمية بالقبول وتكثر حولها الشروحات والتحشيات والتعليقات ويستمر الاهتمام بها عبر العصور فتعدد الطبعات والتحقيقات.. ومن هذه الأمهات كتاب «منتهى الإرادات» لابن النجاح الفتوحي «ت 972ه» الذي أصبح عمدة في الفقه الحنبلي منذ تأليفه الى اليوم، وقد تعددت شروحه ومختصراته.. ومن أهم شروحه شرح المؤلف نفسه في كتاب «معونة أولي النهى بدقائق المنتهى» الذي قام بتحقيقه معالي الدكتور عبد الملك بن دهيش في اثني عشر جزءاً وطبع عدة طبعات.. ومن أهم مختصراته كتاب «دليل الطالب لنيل المطالب» لمؤلفه الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي «ت1033» الذي قيل فيه: يا من يوروم لفقهه في الدين نيل مطالب اقرأ لشرح المنتهى واحفظ دليل الطالب ومن أهم شروح هذا المختصر كتاب «منار السبيل في شرح الدليل» للشيخ ابراهيم بن ضويان «ت 1353ه» وهو شرح متوسط مستوفى، رجع فيه الشارح الى موارد مؤلفي المنتهى والدليل، يصفه الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء سابقا بأنه «قرن كل مسألة بدليلها وتعليلها حيث حشد الشارح في كتابه ما ينوف على ثلاثة آلاف دليل ما بين حديث نبوي وأثر صحابي وتابعي، مع وضوح العبارة وسهولة الاشارة والتنبيه على القول الصحيح في أهم المسائل الخلافية». ومما يدل على أهمية كتاب «منار السبيل» وعظيم نفعه ان الشيخ محمد ناصر الدين الالباني قام بتخريج الأحاديث الواردة في منار السبيل في كتابه «ارواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل» الذي طبع في ثمانية مجلدات مما أعلى القيمة العلمية لهذا الكتاب. كتاب «منار السبيل» تميز بأسلوبه السهل الممتنع الذي يفهمه العامة وينهل منه الخاصة ولذا اصبح من المراجع الفقهية المهمة للعلماء والقضاة والطلاب وغيرهم ومن ثم طبع عدة طبعات وقام عدد من المشتغلين في التحقيق بتحقيقه الا ان هذه التحقيقات لا تخلو من النقص والتحريف والاخطاء الطباعية بل وصل الأمر الى التصرف - أحيانا - في المتن وفي الشرح خلافا لما تقتضيه الامانة العلمية. وكان من المفرح والمفيد للمتخصصين وطلاب العلم ان قام الشيخ «ابو قتيبة نظر محمد الفاريابي» بتحقيق الكتاب تحقيقا حرص فيه على اتمام مبانيه بتعقب مخطوطاته ومطبوعاته تتبعا ومقارنة وتحليلا وتصحيحا مع توثيق النقول وتخريج الاحاديث والآثار في مواضعها، ولاسيما ما لم يخرجه الشيخ الألباني في ارواء الغليل، بهدف ان يكون أقرب لمراد المؤلف والاستفادة منه. والشيخ ابو قتيبة ذو باع طويل في مجال تحقيق كتب التراث والغوص في مختلف المظان بحثا عن كنوزها المخبوءة لذا فان الطبعة الخامسة من تحقيقه هذا الكتاب التي قامت بنشرها دار طيبة بالرياض هذا العام 1423ه في ثلاثة مجلدات شغلت 1390 صفحة لبست حلة زاهية من الاخراج الفني الجميل من حيث لون الورق الذي لا يتعب النظر ومن حيث جودة التجليد التي تساعد على سلامة الكتاب لكثرة رجوع طالب العلم الى هذا الكتاب واصطحابه له في دروسه العلمية وتنقلاته، يضاف الى ذلك رخص سعر هذه الطبعة مقارنة بطبعات اخرى للكتاب وكتب اخرى مشابهة له في حجمه ومواصفاته. ومع الحلة الزاهية التي لبستها الطبعة الخامسة من تحقيق الشيخ ابي قتيبة لكتاب منار السبيل فقد تميزت هذه الطبعة باشارة المحقق - وفقه الله - في المقدمة الى نسختين نسخهما المؤلف - الشيخ الضويان - بخطه، الاولى عام 1321ه والثانية عام 1322ه واعتمد على النسخة الاولى المنسوخة عام 1321ه التي توصل اليها بعد بحث طويل. كما قام المحقق بتتبع موارد المؤلف في كتابه وذلك عن طريق مراجعة جميع المصادر التي نقل منها المؤلف مباشرة لتوثيق النص من مصدره الأصل، كما قابل المتن وهو كتاب الدليل بالنسخة المطبوعة بتحقيق سلطان العيد، كما قام بإكمال تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الشرح وهو في باب تخريج الأحاديث وعلومها ضليع متخصص، فلا عجب اذا اعتمدت بعض الطبعات على تخريجاته سواء نسبتها له أو لم تنسبها، كما استفاد المحقق في تعليقاته من كتاب حاشية اللبدي على نيل المآرب وهو حاشية لواحد من شروح كتاب الدليل، واضاف في الهوامش تعليقات مهمة من اختيارات شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم مستمدا ذلك من كتبهم ومن كتاب الروض المربع لابن قاسم. وتميز تحقيق الشيخ ابي قتيبة بعزو الآيات الكريمة وتخريج الأحاديث الشريفة والآثار والتعريف ببعض الاعلام غير المشهورين وبالأماكن وببعض المصادر مع شرح الكلمات الغريبة والمصطلحات الفقهية وصناعة عناوين رئيسة لما تركه المصنف غفلا بدون عنوان ليستبين مضمون الفصل ويسهل الرجوع لمسائله، كما صنع عناوين جانبية لبعض الفقرات المهمة داخل الفصل ووضع عمله هذا بين معكوفين تمييزا عن كلام المصنف، وظهرت الامانة العلمية في الكتاب باشارة المحقق الى الكتب التي استفاد منها عند تحقيقه، وبثنائه على اصحابها وبدعائه لهم، كما تميز التحقيق بقلة الاستطرادات واقتصر في بدايته على ترجمة للمؤلف ابن ضويان كتبها الدكتور عبد الله صالح الضويان، وعلى عرض صور اربع صفحات ثلاث من مخطوطتي الكتاب والرابعة وصية الشيخ ابن ضويان مما يدل على حرص المحقق على عدم اثقال الكتاب بالحواشي والمقدمات التي تشتت ذهن طالب العلم وتزيد كلفة الكتاب عليه، ويظهر لي ان هذا هو السبب في عدم صنع المحقق فهارس للآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة والآثار، والأعلام، والأماكن والبلدان، وموارد المؤلف، والفوائد المنتقاة، وغير ذلك مما يسهل استفادة طالب العلم من محتوى الكتاب. والكتاب وان كان عملا بشريا لم يخل من الأخطاء الطباعية ونحوها ولعل أوضحها الاشارة في الصفحة الثالثة في مقدمة الشيخ ابن عقيل الى ان تاريخ وفاة ابن النجار هو سنة 983ه فيما اشير في هامش الصفحة ذاتها الى ان تاريخ وفاته كان سنة 972ه وهو الصواب الا ان هذه الاخطاء اليسيرة لا تمنع ان تكون هذه الطبعة المحققة لكتاب «منار السبيل» من افضل الطبعات دقة وفوائد علمية واخراجا فنيا جذابا ونفعا لطلاب العلم. فجزى الله المحقق خيرا على جهوده المباركة ونفع الله بعلمه وعمله.