في قلب جزيرة العرب وفي عالية نجد تتربُّع منطقة «القصيم».. في هذه المنطقة دارت رحى أكثر أيَّام العرب.. وبين رباها ووهادها وجبالها ورمالها ووديانها شهد العرب أحسن مرابعهم وأيام فلواتهم وخلواتهم... ما بين معالمها أشهر مسارح العرب فها هي «طخفة» و«منى وغَوْلها» و«قطن» و«رامتان» و«إبان» و«خزاز».. الذي عليه أوقدت نار من خلالها دارت رحى حرب «داحس والغبراء». منطقة القصيم وعاليتها مرعى في الربيع ولا أطيب.. حيث تكتسي تلك الرُّبى حول الجبال وفوق كثبان الرِّمال والبطاح الذهبية حللاً خضراء زاهية.. من نبت الربيع الأخضر فها هي الزهور الحمراء والصفراء والبيضاء التي تفوح منها الروائح العطرية الزاهية التي تهيم فيها قطعان الأغنام والإبل.. وللمع البوارق وتراكم السحاب فيها منظر بديع أخُّاذ نظراً لأن مساحتها مفتوحة ويرى فيها البرق من بعيد كما رآه «امرؤ القيس» ووصفه ذلك الوصف الرائع في معلقته.. حيث إن لهطول الأمطار وجريانها في الوديان والشُعاب بعالية القصيم حالة نادرة من الروعة والمنظر الخلاب من خلال «التُلاع» ذات البطحاء «الزُّمُّرُديَّه» والرمال الذهبية والوديان التي تشبه ترع الأنهار مثل «وادي الرمَّه». وبعد هطول هذه الأمطار بعدّة أيَّام تتحول الرياض والفيافي إلى حلل خضراء زاهية تصدح فيها البلابل وتشدو الطيور في سماء صافية ورمال متلألئة.. في منطقة القصيم تقريباً كل المعالم التي ذكرت في المعلقات العشر في كل معلَّقة نصيب من هذه المعالم.. فقد ذكر امرؤ القيس «العذيب وضارج» وقطن.. هذا الجبل الأحمر الأخَّاذ البديع المنظر.. وذكر عمرو بن كلثوم «خزاز» الذي لايزال معروفاً إلى اليوم بين الرس ودخنة.. وذكر عنترة بن شدَّاد «الجواء».. وذكر زهير بن أبي سُلمى «وادي الرس» و«جُرثم». وذكر لبيد بن ربيعة «مِنى» التي تعرف ب«منية» وذكر غولها ورجامها.. وهاد وأكام لاتزال معروفة حتى يومنا هذا.. كل من يمر بها يُردد ما ردُّده أصحاب المعلَّقات قبل أكثر من 1500 عام. واليوم أستعرض ما ورد في معلقة «امرئ القيس».. من معالم «القصيم» ومرابعه.. كيف رأى «امرؤ القيس» لمع البرق فوق قطن.. وهو بين «العذيبِ وضارج»؟ «.. معلَّقة امرئ القيس» تعتبر معلقة امرئ القيس هي الأولى في المعلَّقات وهي أشهرها.. وامرؤ القيس هو: امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي. كان أبوه يلُّقب بآكل المرار.. وقد دفن في وادي العاقلي.. وهو وادي النساء حالياً والواقع بين الرس والبدائع بالقرب من (الحجناوي). يقول مطلع معلُّقة امرئ القيس: قِفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل بسقْطِ اللِّوي بين الدَّخول فحوْملِ وقد اختلف الرواة كثيراً والبلدانيين في موقع «الدَّخول وحومل».. فمنهم من رأى بأنها جبلان.. ومنهم من رأى بأنها كثبان رمال. ولكن ورد في معجم البلدان (2/325) ما يلي: «الدَّخول وحوْمل: موضعان ما بيْن إمَّرة وأسود العين». كما ورد في ذلك في شرح المعلَّقات العشر للدكتور صلاح الدين الهوَّاري والدكتور ياسين الأيَّوبي، وإمَّرة هي منزل من منازل طريق حاج البصرة واقعة إلى الجنوب من جبل متالع (إمَّرة) وهي على يمين المتجه إلى الشبيكية غرباً من الطريق المتجه من طريق الرس دخنة. أما أسود العين فهو أحد منعشيات طريق حاج البصرة وقد حدده الأستاذ عبدالله بن محمد الشائع بأنه واقع إلى الغرب من نفود عريق الدسم «اللَّوي قديماً» الذي يقع إلى الغرب من «ضريَّة» بحوالي 25كم وضريَّة تقع في شمال غرب القصيم. وقال أبو عبدالله الحسين بن أحمد الزوزني في شرح المعلَّقات وفي معرض شرحه لمعلَّقة امرئ القيس: «السِّقط: منقطع الرمل حيث يستدق من طرفه. اللِّوى: رمل يعوج ويلتوي، الدخول وحومل: موضعان. وهذه الأوصاف تنطبق تماماً على نهاية رمال عريق الدَّسم «اللِّوى» قديماً حيث إن نهايته الواقعة إلى الجنوب الغربي من ضريَّة هي «السقط» وفيها اعوجاج على شكل نصف دائرة وتمر بالمسافة ما بين إمَّرة وأسود العين حسب ماورد في تحديد الدخول وحوْمل في معجم البلدان. وفي معلَّقة امرئ القيس وصف رائع للمطر والسحاب وانهمار المطر والبرق ووصفه ووصف تراكم السَّحاب وآثار المطر وما خلّفه من جرفه للأتربة والحيوانات البرِّية. ففيها صور متحركة (البرق المطر سيلان المطر على الأرض).. فكأنَّك ترى صورة ملَّونة لما كان الوضع عليه في القصيم قبل أكثر من 1500 عام. انظروا إلى هذه الأبيات: أصاحِ ترى بْرقاً أريكَ وميضَهُ كلمعْ اليدين في حبِّي مُكلَّلِ يُضيء سناهُ أو مصابيحُ راهبٍ أمال السَّليطَ بالذُّبال المفتُّلِ قَعدْتُ لَهُ وصُحْبتي بينَ ضارجٍ وبَين العذُيْبَ بَعْدَ ما تتأمَّلي على قطنٍ بالشَّيْم أيْمنَ صَوْبهِ وأيْسَرُه على السِّتار فيذٌبُلِ فأضحى يسحَّ الماءَ حْولَ كُتَيفةٍ يكبُّ على الأذقانِ دوْح الكنَهْبلِ ومرَّ على القنانِ من نفيانِهِ فأنْزَل منه العُصْمَ من كُلِّ منْزلِ وتيَّماءَ لم يترْك بها جِذعَ نَخَلةٍ ولا أوطُما إلا مشيدا يجنْدَلِ كأن ثبيرا في عرانينِ وبْله كبيرٌ أُناسٍ في بجادٍ مُزمَّلِ. كأن ذرا رأس المجُيمرِ غدْوةً من السَّيْل والأغثاء ثلكة مِغزلٍ وألقى بصحّراء الغبيطِ بَعاعه نُزُول اليمانيِّ ذي العياب المحمَّلِ كأنَّ مكَاكي الجواء غديَّة صبحنَ سُلافاً من رحيق مُفلْفَلِ كأن السِّباعَ فيه غرقني عشيَّة بأرجائه القصُوى أبابيشَّ عُنْصُلِ هذه صورة رائعة لوصف المطر كأنك تراها في وقتنا الحالي.. وهذا المقطع من القصيدة أراح البلدانيين في تحديد المواقع التي وردت فيها لأنه ربط وصفه للمواقع بالمسافة التي يرى فيها البرق وحدَّد موضعه الذي يتراءى فيه (وميض البرق).. ومعروف أن أمطار القصيم ونجد عامَّة تأتي سحائبُها من جهة الغرب أو الشمال الغربي فلابَّد أنه جلس إلى الغرب تماماً من جبل «قطنْ» المعروف ومنها هنا حدِّد موقعي العذيب وضارج حيث إن ضارج هو «الشقَّة» وقد جلس امرؤ القيس مع صاحبه في موقع حدده الشيخ محمد بن ناصر العبودي بأنه بمطار القصيم الإقليمي حالياً وهو يشاهد وميض البرق فخمَّن أنه على قطن أي يمين هذا السحاب الذي يرى وميض برقه ولواعجه وأيسره على جبل الستار «الريرض» حالياً وهو جبل ما بين دخنة والشبيكية ومن هنا يكون عرض هذا السحاب الذي رآه امرؤ القيس حوالي 50 كم والمسافة التي تفصل ما بين جلوس امرئ القيس وقطن حوالي 130كم وهي مسافة معقولة لرؤية السحاب والبرق من بعيد.. لقد جلس امرؤ القيس يشبِّه البرق الذي رآه يتلألأ أمامه كالمصابيح بتحرُّك اليدين.. ونحن في وقتنا الحالي إذا أراد الشخص منَّا وصف وميض البرق المتواصل المضيء يُحرِّك يديه يُقرِّبهما ويُبعدهما فلعلُّ هذا ما أراده امرؤ القيس في وصفه.. ثم وصف آثار هذا المطر وانسحاحه وسيلانه وغثائه في ضحى الغد وفي العشيُّة.. ومعروف أن الأمطار التي تقع على المنطقة الواقعة بين قطن وجبل «الستار» تتجه شمالاً من خلال بعض الأودية والشفايا مثل وادي «مُبهل» الذي يصبُّ في وادي الرمَّة. لقد ذكر امرؤ القيس في معلقته هذه الكثير من المواضع المعروفة في القصيم مثل قطن، السًّتار، العذيب، ضارج، كٌتيفة، القنان، المجُيْمِرِ. قطن: هذا الجبل الأحمر المعروف الذي يعرف عند الناس ب«خيمة قطن».. جبل يشبه الخيمة يقع إلى الغرب من بريدة بحوالي 170كم ويراه المقبل على عقلة الصُّقور من الشرق إلى يمينه.. يراه من بعيد برعانه وشخانيبه وقمِمه الحمراء. قال الشيخ محمد بن ناصر العبودي في معجم بلاد القصيم (5/2064): (قِطَنْ: تنطق العامَّة به بكسر القاف وفتح الطاء ثم النون، أما في القديم فإن قافه مفتوحة. جبل أحمر شديد الحمرة حتى إن بعض الأعراب يسمُّونه الجبل الجديد لأنه يبدو للناظر أحمر كأنما خرج من معمل). وثقال أبوحنيفة: قََطَنٌ: جبل في نجد في بلاد بني أسد، على يمينك إذا فارقت الحجاز وأنت صادرٌ من النُّقرة. وقال ابن إسحاق: قَطَنٌ: ماء من مياه بن أسد بنجد، بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلمَّ أبا سلمة بن عبدالأسد في سريَّة. وكان بقطن يوم من أشهر أيام العرب.. وقد ذكره ابن عبدربّه الأندلسي في العقد الفريد ج6 ص 21 فقال: وقفت بنوعبس بقطن وأقبل حصين بن ضمضم، فلقي تيجان أحد بني مخزوم بن مالك فقتله بأبيه ضمضم، وكان عنترة بن شدَّاد قتله بذي المرُيقب فأشارت بنوعبس، فقالوا: لا نصالحكم مابلُّ البحر صوفة، وقد غدرتم بنا غير مرَّة، وتناهض القوم عبس وذبيان فالتقوا بقطن وتقاتلوا بقطن، وتقاتلوا فقتل يومئذ عمرو بن الأسلع عيينة، ثم اصطلحوا وتعاقدوا إلا بني ثعلبة بن سعد بن ذيبان فلم يرضوا إلا بالدِّية. وقطن مشهور بأنه منتزه لأهالي القصيم.. وخصوصاً في أيَّام الربيع حيث تتفتَّح الأزهار وتغرِّد الأطياروتنتشر نباتات ملتفُّة من مختلف الألوان والأشكال.. فمن زهور حمراء إلى صفراء إلى بيضاء.. كما أنه من أشهر مناطق القصيم في نبات (الكمأ) أو الفقع اللذيذ بمختلف أنواعه (الزُّبيدي) و(الخلاسي).. أمَّا (ضارج) فهو المسمَّى حاليّاً (ضاري) قال الشيخ محمد العبودي في معجم بلاد القصيم (4/1382) ، (ضاري: قرية قديمة العمران واقعة في منطقة الشقة التي تقع إلى الشمال من مدينة بريدة علي بعد 14 كيلاً. وقد دثرت الآن أو كادت وقد أثبت العبودي بما لايدع مجالاً للشك من النصوص القديمة أن ضاري حالياً هي ضارج التي عناها أمرؤ القيس في معلقته.. وقد قرنها بمكان آخر اسمه العذُيب. وقال في نفس الجزء 4 ص 1390 (والصَّواب كل الصَّواب أن العذيب الذي قرن امرؤ القيس ذكره بذكر ضارج هو الماء الذي يسمَّى الان «المعذب» ويقع في غرب الجنوب الواقعة إلى الغرب من مدينة بريدة ولا يبعد عن ضارج إلا بمسافة لا تتجاوز عشرين كيلاً والنقطة التي بينهما هي التي يقع فيها الآن مطار القصيم الاقليمي وهي المنطقة التي تعرف الان بالمليدا الجنوبية». وهذا تحديد دقيق فمن يقف الآن قرب مطار القصيم الإقليمي فإن (قطن) الذي خمَّن امرؤ القيس أن الطرف الأيمن للسحابة التي رأى لمع بوارقها عليه يكون باتجاه الغرب تماماً مقابل لطرف هذا السحاب. إمَّا الستَّار فقد حدده الأستاذ عبدالله بن محمد الشائع في نظرات في معاجم البلدان «الجزء الثالث» بأنه ما يعرف حالياً بجبل «الرُّبوض» وهو بين الشبيكية ودخنة وهذا متطابق مع معلقة امرئ القيس فهو على يسار جبل «قطن» الذي قدَّر امرؤ القيس أن السحاب الممطر عليه بالنسبة للناظر إلى هذين الجبلين من جهة الشرق والمسافة بينهما حوالي 50 كيلاً.. وبالنسبة للناظر لهما من مسافة (120 كيلا) وهو موقع امرئ القيس في المليدا الجنوبية فهو يرى طرفي السَّحابة من بعيد.. أما بالنسبة للقريب منهما أو تحت هذه السَّّحابة فيظن أن هذه السحابة لا نهاية لها من الطرفين ومن الصعب له أن يحدِّد بدايتها ونهايتها. أمَّا كتيفة فقد قال الأستاذ العبودي أيضاً في الجزء5 ص 2124: انه «جبل أسود فيه حمرة ليس بالكبير ويقع في أقصى الحدود الشمالية الغربية لمنطقة القصيم. أما القنات فهو جبل الوشَّم حالياَ. ومن قصيدة امرئ القيس فإن كتيفة والمجيمر لابد أن يقفان في مجرى واد فيه مجرى لسيل عظيم حيث ورد كلمات مثل يسح، وإحاطة غثاء السيل بالمجيمر فلابد أن يقعا في مجرى سيل. قال الأصبهاني: وبأعلى مُبْهل جبل يقال له «المجيمر» وجبل آخر يقال له «كُتْيفة». ومن هذه المعلَّقة الرائعة لامرئ القيس ذات العناصر المتحرِّكة التي تشبه «فلما سينمائيا» للوصف والتحديد نعرف بعض المواقع والمعالم المهمَّة في القصيم.. وأوديتها وكيفية جريان الماء بها.