للثقافة العربية خصوصيتها التي استمدت جانب منها من خلال تلك الأجناس الأدبية والفنون الثقافية التي عرفتها عبر امتداديتها التاريخية. ولعل من أبرز تلك الفنون، هو فن المناظرات التي دونت لنا أدبيات الثقافة العربية، العديد من أشكالها، والتي تأتي المناظرة الأدبية على رأسها جميعًا. وفي تقديري إن ماعرف في ثقافتنا العربية في العصر الجاهلي ب«المنافرة»، كتلك التي جرت أحداثها بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة، حين تنافرا إلى هرم بن قطبة، لم تكن سوى عمليات إجرائية لترسبات تضخمية ل«الأنا» الإنسانية، ترجمت في ممارسة تناظرية، هدف أبطالها لتحقيق انتصارات شخصية، في سعيهم اللاشعوري لتحقيق الذات، أو فلأكن دقيقًا وأقول لتكريس الوجود السلطوي في قالبه المعنوي على القبيلة و مايجاورها. ويمكن أن أحيل الهدف من وراء هذه المناظرات عمومًا، والأدبية منها على وجه الخصوص؛ للأسباب رئيسة بعينها، منها؛ تقديم النفس للمتلقي والقارئ الهدف، والسعي لانتزاع مكانة في الصف الأدبي، إلى جانب إثبات الذات وتعزيز المكانة والريادة الأدبية في عيون المشتغلين بالصنعة الأدبية والثقافية على عمومها. وكان يُحَقَقْ النصر فيها في الغالب جراء امتلاك المناظر المكر والدهاء اللغوي للإطاحة بالخصم، أو الطرف الآخر المناظر، وليس امتلاك الثقافة الأدبية وأعني بذلك؛ ضروب الأدب وثقافات الحضارات السابقة وألوان الثقافة التاريخية والأدبية الأخرى. ولقد كانت هذه المناظرات تتم غالبًا بحضور مجموعة من الشخصيات الأدبية الرفيعة، وجملة من علية القوم أيضًا. ولعل من أشهرها - أي المناظرات - في ثقافتنا العربية، هي تلك التي دارت رحاها بين الشاعرين المضريين في المربد، وأعني بهما جرير والفرزدق، في فترة ماعرف تاريخيًا بالدولة الأموية. ولعل المفارقة الباعثة على السخرية، أن حالة الاحتراب المتولدة بين جرير والفرزدق، رغم انتمائهما القبلي لقبيلة واحدة هي مضر. وهذا الاحتراب قد تولد جراء عقود من الاختلاف والمناظرات الشعرية المتقدة الأوار، قد استمرت حتى بعد رحيل الفرزدق. إذ تحدثنا أدبيات التاريخ بأن الفرزدق قد نعي لجرير، وهو عند المهاجر بن عبد الله باليمامة فقال: مات الفرزدق بعد ما جدعته ليت الفرزدق كان عاش قليلا فقال له المهاجر لبئس ما قلت تهجو ابن عمك بعد ما مات لو رثيته كان أحسن بك. فأجاب جرير قائلاً: والله إني لأعلم أن بقائي بعده لقليل وإن كان نجمي موافقا لنجمه فلأرثينه. فقال المهاجر: بعد ما قيل لك! لو كنت بكيته ما نسيتك العرب. أيضًا تاريخيًا نلحظ بأن أوج المناظرات – في تقديري – قد تمثلت فيما يمكن أن اسميه بحقبة التسلسل الأسري العباسي، والتي تمثلت، في الخليفة محمد المهدي وولده هارون الرشيد وحفيده الخليفة العباسي عبدالله المأمون. من ذلك ماجرى في مجلس الرشيد بين عبدالملك الأصمعي وأبو الحسن علي الكِسائي، والتي دارت رحاها حول بيت شعري للشاعر النميري، سأل عن مفردة منه الرشيد، وهو قول النميري: قتلوا ابنَ عفّان الخليفة مُحرِمًا ودعا فلم أرَ مثله مخذولا إذ سأل الرشيد – من في مجلسه - عن ما عناه الشاعر بقوله؛ «محرمًا»! فأجاب الكسائي، بأن الشاعر النميري، يشير في بيته الشعري هذا؛ للبس الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، رداءه للإحرام، حين جرت عملية قتله. فيقال بأن الأصمعي قد ضحك بسخرية مقصودة، ورد بأن الشاعر لم يرد ارتداء عثمان رضي الله عنه لإحرامه، وزاد أيضًا بأن الشاعر لم يرد كذلك بلفظة الإحرام، أي دخول عثمان في الأشهر الحُرُمْ. فسأل الكسائي الأصمعي، في ثقةٍ من قوله: إن لم يكن كذلك فما أراد إذا الشاعر. فرد الأصمعي مستشهدًا ببيت من قصيدة للشاعر الجاهلي عَديُّ بن زيد يصف فيها مقتل الإمبراطور الفارسي كسرى، حيث قال الأصمعي مخاطبًا الكسائي، : ما أراد عَديُّ بن زيد بقوله: قتلوا كسرى بليلٍ محرِمًا فتولَّى لم يُمتَّعْ بكفنْ ثم أكمل مخاطبًا الكسائي؛ أإحرام لكسرى؟! أي هل كسرى يحرم لحج أو عمرة؟!. ليسترسل مبينًا، إن كلمة «محرمًا»، التي أرادها الشاعر النميري، في هذا المقام، هي: كلُّ من لم يأت شيئًا يوجب عليه عقوبة فهو محرِم، لايحلُّ منه شيءٌ. أي أن عثمان لم يأت بشيء يُحل دمه. وقوله: قتلوا كسرى محرمًا، يعني حرمة العهد الذي كان له في أعناق أصحابه. إن المناظرة الأدبية باعتبارها فنًا عربي له وجوديته وحالاته الإجرائية، لم يعد له ذلك الزخم الفني وتغيرت كذلك مكانته الإجرائية، إذ قد أسهمت الموجودات الثقافية التي تولدت عن المدنية الحديثة إلى تغيير مكانيته من رواق الخليفة والأسواق التاريخية ومجالس العلم، إلى صفحات الصحف وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي الحاضرة وبقوة مرحليًا. ولمن أراد الاستزادة فيمكنه الرجوع لكتاب ( مجالس العلماء) لأبي القاسم الزَّجّاجي المتوفي سنة 240 هجرية، وأيضًا لكتاب (المناظرات اللغوية والأدبية في الحضارة العربية) تأليف عبد الرحيم الحسناوي، الزاد المعين في ذلك. ** **