{قٍلٌ اللَّهٍمَّ مّالٌكّ المٍلًكٌ تٍؤًتٌي المٍلًكّ مّن تّشّاءٍ..} فإنَّك شمسٌ والمُلُوكُ كَوَاكبٌ إذا طَلَعَت لم يبدُ منهُنَّ كوكبُ (1) العُظماء يكتبون التاريخ بدمائهم، ويتوِّجون الملاحم بأسمائهم: على قدرِ أهل العزمِ تأتِي العزائِم وتأتِي على قدرِ الكِرَامِ المكَارِمُ وتعظُمُ في عينِ الصغير صِغارُها وتصغُرُ في عين العظيمِ العَظَائمُ وقفتَ وما في الموتِ شكٌ لواقِفِ كأنَّك في جَفْنِ الرَّدَى وهوَ نائِمُ تمُرُّ بِكَ الأبطَالُ كلمَى هزيمَة ووجهُك وضَّاحٌ وثغرُك باسِمُ(2) عبدالعزيز بن عبدالرحمن صقر جزيرة العرب، ومعيد مجد من ذهب، وقِبلة الأشعار والخُطب، أعادَ سِيرة المجد كما كانت، بعزيمة وقف لها الدهر فما لانَت، وصارَعَها الخطب فما هانت، أخرج بالسيف وساوس الظالمين، وصارت قصة كفاحه أُعجوبة في العالمين، وآيةً للسَّائلين. هُو الجدُّ حتى تفضُلَ العينُ أختهَا وحتى يكُونَ اليومُ لليومِ سيِّدا(3) عبدالعزيز لم يحز المجد بِقُرعَةٍ، ولم يَنَل المجد بخدعة، وإنما حازَ الملك بتوحيد يهزّ الجبال، وبسيف بَتَّار تهابه الرجال، نال المجد بوثبة عصاميّة، تحت راية إسلامية، ووصل إلى سُدّة الحكم بهمّة كأنها الدهر إذا هاج، والبحر إذا ماج، وصوّتت له السيوف والرّماح حتى شيّعته الأرواح. أحقُّهُم بالحُكم من عشقَ العُلى وبِالأمنِ من هَانت عليهِ الشدَائِدُ(4) عبدالعزيز أثبت للعالم ان الهِمّة الوثّابة، أقوى من الدبَّابة، وأن العزائم الرائعات، أشدّ من المدرّعات. وَفَدتَ إلى الصحراءِ فاللهُ أكبرُ بِكَ المجدُ والتاريخُ يُطوى ويُنشَرُ جزِيرَتُنا في مُقلَتَيكَ وَدِيعَةٌ وهَذِي رِمَال الزَّيتِ مِسكٌ وعنبرُ(5) أشرق عبدالعزيز من الصحراء، ومعه شريعة غرّاء، موحّد يردّد :{قٍلً هٍوّ اللهٍ أّحّدِ }، في شجاعة أسد، في إصرار وجَلَد، له من العون مدد، ومن النصر عدد. عبدالعزيز لم يكن بلشفياً أحمر، يكفر ولا يشكر، ينادي بالبرجوازية، بل كان حنيفاً مسلماً، وقائداً ملهماً. ولم يكن زعيماً يدعو للنازيّة، ويبشِّر بالليبرالية، بل كان إماماً عادلاً، وحاكماً فاضلاً، له في التاريخ جولة، ومع الدهر صولة، حتى أقام دولة. ولم يكن عبدالعزيز حزبياً، وعلى جماجم الأبرياء يتسلق، بل وحّد ربّ العِباد براية الوحدانية، ووحّد البلاد بالرسالة الإيمانية. إذا كانَ نِهرو مُنقذاً فهو أهوَجُ وإن كان تِيتُو قائداً فَهُو مُدبِرُ ولينينُ سَفّاك وهِتلر طائِشٌ وصولاتُ نابِليونَ موتٌ مُقَطَّرُ وهذا حَنِيفٌ مُسلمٌ ثابتُ الخُطا صلاةٌ تُؤَدَّى أو كِتابٌ يُفسَّرُ(6) وَفَدَ ماركس بمشروع الإلحاد، تحت مُسمَّى الشيوعية والاتّحاد، فقتل الرجال، وابتزّ الأموال، وفعل الأهوال، وأطلّ هتلر بتفضيل الألمان، على بني الإنسان، وانتهى أمره إلى الهَوَان، وباء بالخُسران، وأشرقَ عبدالعزيز بمشروع الوحدة، تحت شعار الله وحده: {أّفّمّنً أّسَّسّ بٍنًيّانّهٍ عّلّى" تّقًوّى" مٌنّ اللّهٌ وّرٌضًوّانُ خّيًرِ أّم مَّنً أّسَّسّ بٍنًيّانّهٍ عّلّى" شّفّا جٍرٍفُ هّارُ فّانًهّارّ بٌهٌ فٌي نّارٌ جّهّنَّمّ وّاللَّهٍ لا يّهًدٌي القّوًمّ الظَّالٌمٌينّ } وولدت معه مملكة قويّة، ودولة فتيّة، دستورها من السماء، وتعاليمها من غار حراء، ووثيقتها شريعة سمحاء. ليس المُلك عند عبدالعزيز مظاهر خدّاعة، ودعاية لمّاعة، وليست أُمنيته ثكنة من المباني، ولا سرب من الغواني، ولا طائفة من المعزوفات والأغاني، ولكن المُلك عنده ثبات وهِمّة، وتوحيد أُمّة، والوصول بها إلى القمّة. والمُلك عنده جمع القلوب في عِناق، وتأليف الشَّمل في اتّفاق، وقطع دابِر الافتراق. عبدُالعزيزِ الذي ذَلَّت لِسَطوَتِهِ شُوس الجَبَابر مِنْ عُجْم ومن عَرَبِ لَمَّا أَتَى المجدُ صاحَ المجدَ في طَرَبِ المجدُ للسيف ليسَ المجدُ للكُتُبِ (7) والمُلكُ لم يُهد لعبدالعزيز على طبق من ذهب، بل بعزمات كأنها الشُّهب، وبِهِمّة كاللَّهب، لم يشقِ الأمّة بمشروع وحدوي اشتراكي شيوعي؛ بل أسعدها بدستور توحيدي محمّدي شرعي، ولم يؤسس دولته على شِعارات وهتافات ومظاهرات ودعايات؛ بل أسّسها على آيات بيِّنات، وحِكم وعِظات، وسجايا صالحات. أسس أفلاطون جمهورية في الأذهان، لم تصل للعَيان إلى الآن، ودعا ديمقراط اليوناني إلى حكومة على الأوراق، لم تظهر في الآفاق، وبشّر ماركس بدولة شركية اشتراكية، فإذا هي عَناء وشقاء وفناء ودماء ولعنة حمراء. وأسّس عبدالعزيز آل سعود، مملكة في العالم المشهود، ردّد ذِكرها الوجود، وحمل علمها الجنود. فمملكة عبدالعزيز لا شرقية ولا غريبة، بل إسلامية محمديَّة. فَإمَّا حيَاةٌ يَنْظُمُ الوَحيُ سيرهَا وإلا فموتٌ لا يسُرُّ الأعادِيا رَضِينا بِكَ اللهم ربّاً وخالِقَا وبالمُصطَفَى المعصُوم نُوراً وهادياً(8) رفض عبدالعزيز الرأسمالية لأنها مُلكيّة الفرد، حتى يصبح للمال كالعبد، ولو وقعت الأُمة في المشقّة والجهد، ورفض عبدالعزيز الشيوعية، لأن شِعارها اللعين الكفر بإياك نعبد وإياك نستعين، الذي نادى به لينين وستالين، صرخوا في العالم بأن «لا إله والحياة مادة» مع مساواة الطبقة المترفة بالكادحة الكادّة. واختار عبدالعزيز دولةً إسلامية، تقوم على الشريعة، وتؤمن بالبيعة، فجمع عبدالعزيز بين الإعجاز، والإنجاز،إعجاز ماثِل في الوحي المقدس، وإنجاز قام في حضارة تؤسّس. وأخذ عبدالعزيز من القديم الرسالة، والأصالة والعدالة، وأخذ من الجديد ما يخدم الإنسان، ولا يخدش الإيمان. وحمل عبدالعزيز المصحف والسيف، لغرس الإيمان ورفع الحيف، مصحف يحمل الهداية، وسيف يقطع دابِر الغواية. فدولة عبدالعزيز دولة ليس بها بلاشفة، ولا أساقفه، لأن البلشفي يعبد الوجود، ويكفر بالمعبود، ففكرته تقوم على الجمود والجحود، والأُسقفي يريد أن يُدخل العالم إلى الكنيسة، وأن يُعيد البشر إلى الحياة التعيسة. فَلَم يَكُ حزبيّاً يُحارب ربَّهُ ولا بلشفيّاً بالرسالة يكفَرُ ولكن على الإسلام مدَّ ِشراعَهُ وفي قَاربِ الُمختار يرسو ويبحرُ(9) باب المجد لا يقرع بقصائد مُحبّرة، ولا بأقلام معطّرة، ولا بخُطب مُسطّرة. إنما يقرع باب المجد بسيوف بتّارة، وهِمَم هدّارة، و عزائم فوّارة، ليحيا من حي على بيِّنة من الخلود، والسؤدد والسّعود، ويهلك من هلك على بيّنة بأمانيه المضلّلة، ووساوسه المعطّلة، وعبدالعزيز أسهرَ بالكفاح ليله، وأسرَجَ بالعَزم خيله، ففتح له المُلكُ بابه، ورفع له المجد حجابَه. فلا تحسب المجد دُفا وقينةً فما المجدُ إلا السيف والفتكةُ البكرُ وتضريَبُ أعناق الملوك وأن تُرى لك الهَبَوات السُّودُ والعَسكرُ المجْرُ وتركُكَ في الدُّنيَا دَوِيّاً كأنَّمَا تدَاولُ سمعَ المرءِ أنملهُ العشْرُ(10) قال محمد إقبال، شاعر الأجيال، في خطاب وجيز، إلى عبدالعزيز: أيّها الملك انصب خيمتك في الصحراء، ولا تستعر أطنابها من الأجنبي؛ فإن استعارة الأطناب من الأجنبي حرام. وقال مصطفى أمين الكاتب المشهور: لو قيل لي اذكر لنا عشرة عظماء في القرن العشرين لجعلت عبدالعزيز بن سعود الأول؛ لأن العالم ينظر إلى الإنجاز المشهود، ولا يعبأ بالدعاوى لمجد مفقود. لو جاء عبدالعزيز بمشروع علماني لزلزلت الجزيرة زلزالها، ولملأت بالغيظ رجالها، ولهزّت بالثأر جبالها؛ لأن الجزيرة سكب من غمام الوحي دستورها، وأشرق من سماء النبوّة نورها، فلا تصغي إلا إلى صوت الإيمان المحمود، وهذا ما فعله عبدالعزيز بن سعود. ولو أن عبدالعزيز قَدِمَ بمشروع أرضي يستمدّ تعاليمه من بيت العنكبوت، لقالت الجزيرة آمنت بالله وكفرت بالطاغوت، لأن الجزيرة فُطِرَت على التوحيد، ورضعت لبن الدين الرشيد، وهذا ماقام به عبدالعزيز بعزمه السديد. فالجزيرة بلاد الأبرار، ليس فيها شِعار الثوّار الأحرار، والرّفاق الشطّار، والملاحدة الكفّار. عبدالعزيز أعلن أن دولته إسلامية سُنية، شرعية سلفية، لأن المبدأ الحق ما كان من نكاح، والمذهب الدخيل ما كان من سفاح، ومن أتى إلى الجزيرة بدين غير الإسلام، فكأنه أدخل في الكعبة الأصنام، ووضع في المِحراب الأزلام، وأباحَ من على المنارة الحرام، إن الذين يبنون دولاً آثمة ليكون أول إعلان لهم أنهم يكفرون بالله العظيم، وكأنه لا يصل إلى مجد الدنيا إلا من طريق الجحيم، هؤلاء استحقّوا لعنة الله ومقت التاريخ، ولُطخَت أسماؤهم برجس التوبيخ. في هذا الوسط الآسن، وفي هذا التيه الفاتن، جاء عبدالعزيز بدولة، تحترم القبلة، وتقدّس الملّة: {الذٌينّ إن مَّكَّنَّاهٍمً فٌي الأّرًضٌ أّقّامٍوا الصَّلاةّ وّآتّوٍا الزَّكّاةّ وّأّمّرٍوا بٌالًمّعًرٍوفٌ وّنّهّوًا عّنٌ المٍنكّرٌ وّلٌلَّهٌ عّاقٌبّةٍ الأٍمٍورٌ } . سمعنا الرفاق الحمر، والضباط الصّفر، ينادون بالكُفر، وكأنها لا تُبنى الحضارة، حتى تُهدم المنارة، ولن تُنال القوة، حتى تُجحد النبوّة، فقاتلَ الله الغباء، فإنه وبَاء، وويل للعقول الممسوخة، والأفكار المسلوخة، من ذلّة في الدنيا ساحقة، ومن لعنة في الآخرة ماحِقة. اللهم انصر من نصر دينك، وامنحه تمكينك، حتى تُعبَد وحدك، إنك لا تخذل جندك، ولا تخزي عبدك، لك الُملك ولله الحمد، ولك السّؤدد والمجد، لا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ. الحواشي (1) النابغة الذبياني. (2) المتنبي. (3) المتنبي. (4) المتنبي. (5) عائض القرني. (6) عائض القرني. (7) ابن عثيمين الشاعر. (8) محمد بن حسين الزبيدي. (9) عائض القرني.