لم أكن أبداً مؤمناً بالحب من النظرة الأولى، وإن كان السؤال أيضاً هل أؤمن بالحب ابتداءً، أقول لم أكن أؤمن بالحب من النظرة الأولى حتى حدثت لي قصة عاصفة عشت فصولها في الأيام القليلة الماضية. سأحاول في السطور القادمة أن أسجل شيئاً منها. كان لقاؤنا الأول لقاء وجهين، فجأة تاه المكان وتوارى الزمن وانفرطت الوجوه وكف الكلام عن الكلام.. لم يبق أمامي إلا ذلك الوجه الاستثنائي، براءة تتجاوز كل مفاهيم البراءة.. وردة تتقمص دور إنسان.. نغمة هاربة من لحن مايزال في مخيلة مبدعه.. ماذا يصنع المرء حين يجد امرأة يتحدى وجهها الكلمات.. وجه هو أقرب إلى صورة إلى حلم منه إلى حقيقة.. كيف يصف إنسان عاقل - أو إنسان كان عاقلاً - ضوء الشمعة.. وعطر الوردة.. وقطرة ندى تتهاوى بكسل على ورقة خضراء..، هكذا فجأة توقف الشتاء وحضر الربيع.. هكذا أصبح للحياة معنى.. وللورد منافس.. وللحن الجميل مبررات.. هكذا تردد الشعر في الغياب واللاغياب «رأيتك والجمع مابيننا فلم أرَ غيرك عبر المدى.. شفاه كما يتحدى الربيع وجفن كما تتعرى المدى».. ونظرتْ إليَّ وابتسمتْ.. لم يكن من الوارد - ولا الممكن - أن أعرف كيف أواجه ذلك الموقف.. إنه لحظة، ولكنه ليس مجرد لحظة،.. عاصفة تقتلع بجرأة كوخ بحّار فقير.. بعد ان تواطأت مع الموج على إهلاك قاربه.. ولكن المدهش أن البحار كان يبتسم بسعادة.. لم يقل شيئاً لكن عيناه كانتا تقولان لها اقتلعيني أنا أيضاً..، ثم بهدوء بالغ وثقة واثقة تحركت باتجاهي.. زلزال يشق الأرض تحتي فيهرب الجميع إلى حيث يمكن ان يهربوا.. وأبقى أنا وحيداً.. «آه لو حبكِ يبلعني مثل الإعصار».. اعرف أني لا أملك إلا أن انتظر قدري.. وخطرت في ذهني خاطرة: ماذا لو تجاوزتني وقصدتْ أحداً ورائي.. شعرتُ بأني منديل مهمل يُلقى من الدور العاشر إلى.. «مساء الخير» قالت الكلمة ومدتْ يداً ناعمة - حتى خشيتُ عليها من يدي- ومستْ يدي ببرود حارق.. ماذا بوسع إنسان عادي مثلي أن يصنع أمام هذا الاجتياح غير المبرر، كان انهمار القصف المركز من عينيها الواسعتين على عينيّ كافياً للتفكير الجدّي في إعلان الاستسلام قبل التفكير في إعلان الحرب، كنتُ أحوج ما أكون في تلك اللحظة إلى ذلك الشاعر الذي أقلته ذات مساء طائش ظاناً أنه لم يعد لوجوده مبرر، أدركتُ الآن فقط أن قصور قدراته الشعرية لم يكن خاضعاً لمحدودية إمكانياته وإنما لغياب المعلم الجيد، وكانت عيناها أعظم مدرسة للشعر في العالم كله.. «مساء الخير» -قلتها أنا- من أعمق أعماق روحي، ابتسامة فرح في حي مسكون بالأحزان، جملة مفيدة - في الحب لا في اللغة -، شعرتُ بأن أحداً يتذكرني بعد قرون النسيان... «أنا ليلى».. إنها ليلى.. جاءت بعد كل تلك العهود لتحيي فيَّ آلاف العشاق، ولتبرئ جحافل الجروح والذكريات، «ومن أنت»، من أنا.. أنا تاريخ الألم، وجغرافيا الدمع، وأدب الحزن، وقواعد الانكسار، وعلوم السهر، وحساب الأيام البائسة،... أنا المحكوم عليه - قبل ابتسامتك الهائلة - بالسهر منفرداً، والتفكير منفرداً، والنوم منفرداً، والحلم منفرداً... ومجالسة الناس منفرداً. وسهرتُ معها، وتكلمتُ معها، وتكلمتُ... ثم تكلمتُ...، حدثتها عن عشرات الفلاسفة الذين سكنوا عقلي، وعشرات الشعراء الذين أبحروا في دمي، وعشرات النجوم اللاتي استوطنت عينيّ، وعشرات الأحلام التي استعمرت أيامي، وعشرات الكتب التي بللتها بعرق القراءة ودمع الإحساس، وعشرات التجارب التي لم تخلف مع الفشل موعداً أبداً، وعشرات الذين غدروا بي لأني لا استحق وفاءهم، وعشرات الذين تجاهلوني لأني أقل من أن أهمهم، وعشرات الذين ملوا من الاستماع إليّ،... وعشرات النساء اللاتي أحببتهن وتزوجتهن وأنجبن لي أولاداً كثيرين.. دون ان يعلمن عني شيئاً. وسهرتْ معي، وتكلمتْ معي، وتكلمتْ... ثم تكلمتْ...، حدثتني عن الخواتم، والأقراط، والشموع، والورود، والقصائد، والألحان، والابتسامات، حدثتني عن أزيائها الحريرية، ومعاطفها الشتوية، وأوراقها الزرق، ومراياها، وأغنياتها، وأخبرتني أنها -مثلي - تحب شروق الشمس، وتشعر بأن البحر يحبها، وان الليل صديقها، وان النهار يحترمها. وأخذتني من يدي، التي لم تعد مذ تلك اللحظة مجرد يدٍ، وعرفتني على بيتها وحديقتها وغرفتها.. ثم أخذتني إلى قلبها من الداخل، وعرضتْ عليّ ابتسامتها عن قرب، وتعرّفتْ على عينيّ عن قرب أكثر... * * * لم أكن أظن أن الوردة يمكنها أن تكرر عطرها، ولا أن تعيد الموجة نفسها، ولا أن تكون اللهفة الأولى لهفة أولى دائماً، لكنني تحققت من كل ذلك عندما التقينا ثانية بعد أيام قليلة... جاءت هذه المرة تمشي في فستانها الأزرق الطويل، جاءت كأن السماء أرسلت بعضا من زرقتها إلى الأرض... كان الوقت عصر الأربعاء، آه ما أجمل عصر الأربعاء. كانت الشمس تحث خطاها في شوق إلى البحر، وكان البحر يتراقص موجاً بانتظار الشمس...... «كيف حالك» إنه مثل حال البحر أيتها الشمس، ومثل حال الأرض يابعض السماء، انه حال استقبال المطر بعد قرون الجفاف، وانبعاث النور في روح لم تعرف ان للظلمة بدائل، ابتسمتْ.. فقط ابتسمتْ.... فتفجّرتُ إلى قبائل تحترف ممارسة الفرح رقصاً، وإلى أسراب من الحمام تغني مثلما يغني الحمام، وإلى سماء تتباهى بقوس قزح الذي يشكل ابتسامتها العريضة، إلى نهار لاينتهي نوراً، وقافلة من الورد لاتنتهي عطراً، إلى بساط من الأطفال يمتد إلى نهاية نهايات المدى. قالت هذه المرة كلاماً أكثر مما قالت في المرة الأولى، وأجمل، وأمسكتْ يدي بيدها، وقالت: «أتدري، إني أحبك»... فسرت في أضلعي انتفاضة رعدية الصوت، وبرقتْ عيناي حتى رأيتهما أمامي، وسقطت آلاف الوجوه التي أرتديها ولم يتبق إلا وجهي الأخير، وقلبي الأخير، وتكومتُ خلفه كعجوز يوشك البرد أن يأخذ روحه، أو ككومة أخشاب يعاندُ بها البدو ظلمة الليل وبرده... كيف؟ ولماذا؟ وأين؟ ومتى؟... شلال من الأسئلة المتعبة المقلقة الغبية انهمر على رأس عقلي المعتاد على اختراع مبررات الرحيل، واكتشاف أنني مازلت أملك مواهب لم تكتشف، وقدرات لم يتوصل إليها الآخرون... المعتاد على إعادة سك المسكنات الموروثة التي تبدأ ب (الأمل، التفاؤل، الصبر، الشجاعة، الحكمة، الثبات، القناعة، ابتسامة الهزيمة، مواجهة الإخفاق، الإيمان، الكفاح، الغد الأجمل، شرف المحاولة،...) ولاتنتهي. اعتدتُ في كل سوابقي أن أفشل، وتعلمتُ أن أتجرع فشلي، ولم أكن أعرف أن الأصعب هو أن أتعلم النجاح بعد عمر من الفشل... اعتدت أن أرجع إلى جدراني لأقول: «إن الآخرين لايريدونني»، وان انهار على فراشي، ليحتضن انكساري بدفئه، واغسله بدموعي، اعتدتُ على السهر مع قصائد البؤس، وأغاني التعاسة... اعتدتُ أن أصادق الكتب لأدفن فيها نفسي... فماذا سأقول اليوم لجدراني.. كيف سأتعامل مع فراشي، وأي قصيدة وأي أغنية بوسعها أن تسهر معي هذه الليلة... كيف سأصادق جسدها وأدفن نفسي فيه. * * * كانت الساعات الموسيقية والأيام الملونة، تمر بطيئة جميلة، تمر ولا تمر، كنتُ أعيش لأول مرة حالة حب، كدت أعيش لأول مرة تجربة صدق.. مرحلة اكتشاف ونوبة حلم.. وأتعرف على حياة خارج الحياة، وأيام تعيش بعيداً عن الأيام... كنت أعيش.. أعيش لأول مرة. كنتُ أخشى من هطول قلقي المفزع، ومن فيضان رغباتي المتناقضة، ومن هبوب عواصف حزني... «لماذا عندما نحب نشعر بالحزن؟»، قالت السؤال ونظرتْ في عينيّ... ارتبكت عيناي على نحو غير مسبوق، تساقطتْ رموشي، وتفكك حاجباي، وسقطت شفتي السفلية حتى ارتطمت بالأرض، ثم سقط فمي كله، ثم انهار أنفي، ولم يبق من وجهي سوى علامة استفهام كبيرة.... كنا - هي وأنا- نكثر من الأسئلة الجميلة... الغبية، ونفيض على بعضنا من التحليلات اللذيذة.. التافهة، ونتواعد على الحب الأبدي... «الأبدي»، الأكذوبة العظمى التي تتجاهل بكل مايملك الغباء من غرور جبروت التغيير، التي تتجاهل أن ليس فينا شيء أبدي، لا الحب ولا الكره، ولا الوفاء ولا الخيانة ولا الصدق ولا الكذب. ليس من هؤلاء إنسان واحد، ولكنها تحت جلد كل واحد من الناس. مارستُ هجران كل معارفي من الناس والأشياء هجرة من لاينوي العودة ولايريدها، فقال لي المهجورون أنكما ستعتادان الحب، وهل أسوأ من تعوُّد الحب... ثم أطلقوا الشائعة الشريرة - المتوالدة مع كل علاقة سعادة - أنها ستهجرني ولن يكون بوسعها التعايش مع تقلبات أجوائي، وتناقض مشاعري، ورحلتي اليومية بين صيف الفرح وشتاء الحزن... ثم فاضت أحقادهم ليقولوا حتى إن لم تهجرني فإنني سأملُّ منها.. أنا؟ أنا أملُّ منها؟؟، هل يعقل هذا... هل يمكن ان يملَّ شلال الشعر الأسود، أو أن تملَّ أنهار العسل المتدفقة من العينين، المحروسة بجيش من الكحل، أو حدائق الورد المعلقة على الخدين، أو الأسطورة المتنكرة على هيئة فم.. هل يعقل أن يملَّ وجه يحمل كل تلك العجائب. صرختُ هزة لأشجار أحلامهم: لا أنا لن أمل منها.. فانتفضت الخفافيش في هجمة جديدة لتقول إني سأملَّ الحب، هذه الحالة الرائعة، التي تكمن روعتها في أن تكون عابرة واستثنائية، كسحابة الصيف التي أسمع بها ولمَ أرها.. إن مشكلة من يحيا حالة الحب أنه لايبحث عن امرأة تحبه.. الحب تجربة جميلة وغنية وعظيمة ولكنها تتحول مع الأيام إلى تجربة باردة ومرفوضة، ولمَ العجب، فالأوراق الخضر تغدو بعد أيام صفراء، والقصيدة الجميلة لايمكن أن تكون كذلك عندما تفقد نهايتها، النهاية رغم قسوتها جزء مهم من كل شيء-وتواصلت كلماتهم البلهاء- ماقيمة الحياة دون موت و..... لا أنا لم أملَّ من الحب.. بل مللت مني، مللت سعادتي التي لم اعتد عليها، مللت نجاحي الذي لم أتعرف إليه من قبل... وربما اشتقت إلى فشلي أو إلى دموعي وانكساري وجدراني وفراشي وكتبي، والقصائد البائسة، والأغاني التعسة، وإحساس المظلوم الحالم بالعدالة... «مابكَ» أطلقتْ عليّ السؤال، ولأول مرة فتحتُ صدري لتلقيه ولم أتترس بالإجابات، التي كنت اخترعها، في الأيام الأولى.. «لقد مللتَ»، حاولتُ بكل ماأوتيتُ من لغة أن أدفع ذلك الهجوم، ولكنها واصلت «إذن لماذا لم تعد عيناك تبرقان لرؤيتي، كما في أيامنا الأولى».. أيامنا الأولى، وتناثر الملح في كل أرجائي، وبصقتُ العبارة، آه يا أيامنا الأولى.. إن بإمكاني أن أهديها الحدائق والسحب، وان اخترع الورود والشموس، وان أطوقها بالحمام وهديل الحمام... ولكن ليس بوسعي أن اخترع إحساساً إنسانياً واحداً.. للأسف.... أو لحسن الحظ. * * * ظللنا طيلة تلك الليلة لأول مرة نتابع التلفزيون، متجاهلين زياراتنا المتبادلة، حتى أن مذيع التلفزيون أخبرنا أنها الليلة الأبرد في تاريخ يوليو.. ومع انتصاف الليل بدأت عيناها تذوبان في وجهها، وانعقدت شفتاها وعلقت عليهما لوحة «ممنوع المرور»... وفي الساعة الثانية صباحاً دمرتْ الجسر، فوجدتُ نفسي منطلقاً في البحر، ودوار البحر يعصف بي، ولم أجد بدّاً من النوم.. عرفت بعد ذلك أن تلك الليلة كانت ماطرة جداً في اليابسة. أفقتُ في الصباح التالي لاكتشف أن الشمس قد استقالت من وظيفتها، وان الورد قرر ان يتوقف عن تقديم هداياه دون مقابل، وان الألحان أعلنت اعتصاما مفتوحا، والشموع أصيبت بالتجمد، والسحاب سيوقف تصدير المطر.. وان القمر أخذ أول رحلة إلى باريس... رحلتْ.. رحلتْ.. ثلاثة أحرف تستعين بتاء التأنيث، لتنهي القصة. يا للنهاية، ويا للقصة، ويا للحب، ويا للمرأة... أخرجتُ مطرقةً وطرقتُ بها على رأسي، فلم يُجْدِ ذلك.. ثم استدعيت جيشاً من المسامير استخدمته في تعليق نفسي في سقف الغرفة، وصرتُ أرى المنظر واضحاً، أرى السرير الذي يعقد حاجبيه ويسألني عن القمر الذي رحل، والكرسي الذي يصرخ طالباً فك أغلاله ومنحه تأشيرة إلى باريس، وخزانة الملابس التي تشهق كلما استعادت منظر الرحيل.. فتكاثرت سحب الحزن في عينيّ حتى وجدت نفسي أهوي إلى حيث لاأدري، فقد اخترقتُ السرير، وتجاوزتُ الكرسي والخزانة، وظللتُ أسقط.. أسقط.. أسقط.... حتى وجدتني منسكباً فوق هذه الورقة، أتساءل: هل هناك حب من النظرة الأولى، بل وهل هناك حب؟؟؟ * الرياض أمين معلوف سمرقند أمين معلوف هو أشهر كاتب عربي يؤلف رواياته باللغة الفرنسية، وهو الكاتب العربي الثاني الذي نال جائزة جونكور في الأدب بعد الكاتب المغربي الطاهر بن جولون. وأهمية كتابات أمين معلوف انه راح في رواياته الأولى يتوغل في التاريخ الإسلامي ويقدم للقارئ العالمي صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي، ومن بين هذه الروايات هناك «ليون الأفريقي» المنشورة عام 1987 ثم «سمرقند» المنشورة عام 1992 والتي نال عنها جائزة جونكور كما ان له روايات أخرى مثل «حدائق النور». ورواية «ليون الأفريقي» تدور حول أشهر رحالة عربي إلى أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي أما رواية سمرقند فهي حول الشاعر المسلم المعروف عمر بن الخيام الذي عاش في أوزبكستان وهو الذي عاش بين عامي 1048 و1131 ميلاديا في هذه المنطقة. انه شاعر عاش بين مرحلتي التساؤل والإيمان وكتب الشعر الماجن ثم اختار التصوف الإسلامي كسبيل وحيد للهداية. والرواية التي كتبها معلوف تدور بين عصرنا الحاضر والقرن الثاني عشر، ففي بداية القرن العشرين يعثر بحار مسلم يدعى «عمر» على مذكرات عمر الخيام وسط أنقاض الباخرة «تايتانيك» أما الجزء الغالب من الرواية فيدور حول الصداقة التي ربطت بين الخيام وصديقه حسن الوزان. ففي هذا العصر دار صراع بين نظام الحاكم وبين حسن الوزان، صراع أدى إلى تدمير الامبراطورية السلجوقية، امبراطورية ملك شاه، التي كانت تمتد عبر آلاف الأميال من الصين شرقا، وحتى حدود البحر المتوسط غرباً. وحسن الوزان الذي تولى حكم سمرقند في عصر عمر الخيام حسب الرواية التي كتبها أمين معلوف رجل دولة من الطراز الأول ومفكر سياسي انه رجل حكم امبراطورية ودون نظراته في الحكم كان مصلحا وفي بعض الأحيان ذاجبروت، وقد صنعت هذه الأشياء من حسن الوزان ثائراً من خلال مفهوم ديني.وهذا الرجل الذي صنع لمدينة سمرقند قد تحول من ثائر إلى حاكم فتنازع معه الخيام بدوره لكنه لم يشأ ان ينظر إلى عرش الحكم. والكاتب لم يتوقف عند الحياة الخاصة للشاعر عمر الخيام بقدر ما تحدث عن الثائر في وجه الظلم لذا فان الكاتب يقول لم أحاول عمدا ان أقحم الحاضر في أحداث الماضي طبعا لم يغب عن بالي ان هناك تشابها وتلاقيا بين الماضي والحاضر لكنني في روايتي لأحداث التاريخ الاسلامي حاولت ان أفهم الشخصيات التي وراءها من الداخل وقد وجدت تشابها متعدد الجوانب بين ضحايا نظام حسن الوزان وبين ضحايا نظام شاه ايران. محمود قاسم *** جون لوكاريه John Le Caree الطبالة الصغيرة جون لوكاريه كاتب بريطاني معاصر يعتبر من أشهر كتاب روايات التجسس في العالم، وأغلب رواياته تحولت إلى أفلام ومسلسلات تلفزيونية، كما أنها تحقق أرقام مبيعات عالية للغاية، إذاً، فنحن أمام كاتب مقروء في لغات عديدة منها اللغة العربية، ومن بين رواياته «الجاسوس الذي أتى من الصقيع»، و«المنزل الروسي»، و«جاسوس نقي»، وغيرها. وهذه الروايات تدور حول دور الاستخبارات في بلاد عديدة، وعندما قامت إسرائيل بغزو لبنان في أوائل الثمانينيات سافر الكاتب إلى جنوبلبنان، والتقى بالعديد من أبناء الشعب الفلسطيني ليعرف الهوية الفلسطينية عن قرب، كما سافر إلى الأرض الفلسطينيةالمحتلة، وعاد إلى بلاده ليكتب أول رواية تجسس عن فلسطين، والصراع العربي الإسرائيلي، وفي هذه الرواية بدأت صورة الفلسطينيين في التغير كثيراً عنها في الأدب العالمي المكتوب قبلها، خاصة الروايات الواسعة الانتشار. تدور الأحداث حول اثنين من الأشقاء ينضمان إلى منظمة فتح، ويعملان على ان يضجا مضاجع الإسرائيليين خاصة في العواصم الأوروبية، وعليه فإن الاستخبارات الإسرائيلية «الموساد» تقوم بتجنيد ممثلة بريطانية شابة تدعى تشارلي من أجل ان توقع بأحد الشقيقين كي تتم معرفة مكان أخيه. ويتم تدريب الفتاة على أداء مهمتها وتتعرف على المناضل خليل، الذي تسعى الموساد لاصطياده وتقترب منه فتراه مسلماً طيباً، أمامه قضية مهمة في حياته هي قضية وطنه المغتصب، وتتوغل أكثر في حياته، ومن أجل ان يثبت لها صدق مشاعره فإنه يرسلها إلى أسرته التي تقيم في المعسكرات الفلسطينية في عين الحلوة. وبالفعل فإن تشارلي تسافر إلى المعسكر، وتقابل أهل الشاب، وترتبط بشقيقته فاطمة بصداقة، وترى كيف يعيش الفلسطينيون في ظروف شديدة القسوة في المعسكر، انهم قوم مسالمون بلا أرض، أو وطن يعيشون على الكفاف في أقسى الظروف التي عرفها البشر. يصف الكاتب رحلته إلى نفس المعسكر، وكيف أقام العرب هناك حياتهم، وذلك من خلال مشاهدات تشارلي التي صادقت الأطفال في المعسكر، ورأت في أعينهم نفس العيون البريئة التي يمتلكها خليل، وراحت تردد في داخلها: سوف يولد آلاف من خليل في المستقبل. وتلاحظ تشارلي مدى تقديس الفلسطينيين لعقائدهم سواء كانوا من المسلمين أو المسيحيين، وعندما تغادر المعسكر عائدة إلى اليونان، حيث ينتظرها خليل، تكتشف انها كانت في منتهى القسوة حين سمحت لنفسها ان تتجسس على قوم أحبوها، وكانوا في منتهى الكرم معها، رغم ظروفهم القاسية، وتكتشف انها أحبت خليل. وتحكي الرواية ان الاستخبارات العسكرية كانوا في أثرها، وانهم تتبعوها إلى المنزل الذي يسكن فيه خليل، فيقتلونه أمام عينيها، ويقدمون لها مكافأتها التي ترفضها، ولا تتوقف عن البكاء لما سببته للشاب الفلسطيني، لكنها ما تلبث ان تتذكر الأطفال الذين قابلتهم في المعسكر الفلسطيني، وتردد «إذا كانوا قد قتلوا خليلاً، فسوف يأتيهم ألف خليل». هذه الرواية مكتوبة قبل الانتفاضة بأربع سنوات على الأقل، وتحولت إلى فيلم أمريكي من بطولة ديان كيتون. *** روبرت هيتشنز Robert Hechens بيللا دونا (ست الحسن) الكاتب البريطاني روبرت هيتشنز هو مؤلف للعديد من الروايات العاطفية، وكان أبطال هذه الروايات يتنقلون من بلد لآخر من أجل ان يعيشوا أجمل لحظات الحب، ومن هذه الأماكن كانت مصر حيث دارت أحداث رواية «بيلا دونا» التي صدرت ترجمتها العربية الكاملة في سلسلة «مطبوعات كتابي» التي كان يصدرها حلمي مراد. وهذه الرواية تدور أحداثها في مصر من خلال رحلة تقوم بها امرأة بريطانية مع زوجها إلى صعيد مصر، تدعى السيدة شيبسون، ويناديها الآخرون باسم ايطالي هو «بيلا دونا» أو «ست الحسن»، وفي مصر تتعرف المرأة على الشاب محمود بارودي، فتولع به حباً، رغم انها متزوجة من رجل عجوز جاء معها إلى مصر، ومع ذلك فلديها الميل ان تخونه مع بارودي. والكاتب يصور الشاب بارودي هنا بشكل سلبي، ولا يعني هذا ان أمثاله غير موجودين في بلادنا، ولكن من المهم ان نرى كيف ينظر الكاتب إلى المسلمين في الروايات، فالشاب المصري ينظر إلى المرأة على انها واحدة من بنات الحريم حتى وان كانت من ثقافة مختلفة، والغريب ان المرأة توافق على ذلك وتخبره انها ستنفصل عن زوجها من أجله. بارودي هذا شاب صعيدي له مفاهيمه الخاصة، فهو يحب النساء الغربيات، وفي مقابل هذه الشخصية السلبية فإن الكاتب يتحدث عن شخصية أخرى ذات وجه مشرق، ففي مقابل بارودي الذي يبيع نفسه للسائحات، فإن هناك ضابطاً شاباً في الجيش المصري تأتيه رسالة من صديق بريطاني يعمل طبيباً يدعى «ماير»، ويطلب منه منع حدوث جريمة، فالمرأة تسعى لقتل زوجها عن طريق انهاكه طبياً، ولأن الزوج العجوز يعالج عند «ماير»، فإن الضابط المصري الشاب واسمه مصطفى، يحاول ابعاد الوغد بارودي عن المرأة البريطانية. ومصطفى هذا شاب متدين لا يقرب المنكر، ويكره الحرام، ويؤدي الشعائر الدينية، ويحب وطنه، ويرى ان أمثال بارودي هذا يسيئون للدين، وللوطن، كما انه يتمتع بروحانية الشرق، كما يقول الكاتب، هذه الروحانية التي لا تمنعه من حب الحياة. ولذا، فإن مصطفى يساعد صديقه الطبيب البريطاني في انقاذ الزوج العجوز من موت مؤكد، وعندما يضمن ان الرجل صار في منطقة الأمان، فإنه يتجه إلى الزوجة من أجل اعادتها إلى صوابها، لكن المرأة تظل على غيها إلى ان تكتشف ان بارودي تركها من أجل امرأة شرقية، فتصاب بصدمة. أهمية هذه الرواية انها عمل كلاسيكي مقروء، لا تصور المسلمين كأنهم جميعاً من الملائكة، بل هم مثل كل البشر، فيهم الانتهازي، ومنهم الشخص النبيل، الذي يضع المبادئ أمام عينيه، وهو يمشي قدماً في الحياة. وعيب الرواية بالطبع ان البطل الرئيسي في الرواية هو محمود بارودي، وليس الضابط مصطفى، كما ان المرأة الخائنة قد نالت جزاءها في الحياة بأن فقدت كافة ظلالها، أما بارودي فقد استمر في غيه دون عقاب من أي نوع. *** لوي جارديل Louis Gardel قلعة ساجان Fort Sagan الكاتب الفرنسي لوي جارديل مولود في مدينة الجزائر عام 1939، وهو ينتمي إلى ثقافة الأقدام السوداء أي هو من الفرنسيين الذين تربوا في الجزائر وعقب الاستقلال اكتشفوا ان لهم وطناً آخر عليهم الرحيل إليه. بدأ حياته الأدبية برواية «الصيف الصاخب» عام 1973، ثم «سكين الحرارة» عام 1976، وقلعة «ساجان» عام 1980، و«الدور الجميل» عام 1986. وقد ذاعت شهرة الكاتب عقب تحويل روايته «قلعة ساجان» عام 1984 إلى فيلم وهي رواية تدور في الصحراء حول المواجهة الحضارية بين الفرنسيين، والجزائريين، فشارل ساجان هو دون كيشوت الصحراء، تحولت طواحين الهواء، بالنسبة له، إلى سرابات الرمل التي لا تقترب أبداً، يحلم بامتلاك تلك المساحات الواسعة الممتدة أمامه من الرمال التي لا يسكنها أحد فلا يمكن للبصر ان يبلغ مداها. والرواية بمثابة مواجهة بين حضارتين متناقضتين، فساجان يحلم ان يمتلك الصحراء، لكن السلطان محمود يقف له بالمرصاد، انه رجل فقد سلطانه، مثلما حدث لأجداده منذ ان جاء المحتل الفرنسي، وهو لا يسعى للحصول على أرضه بقدر ما يمنع ساجان من امتلاك الرمال، ويردد: «هذه الأرض ملك لله عز وجل، ولن تفيدك في شيء، انها أكبر منك، ومن حدود مداركك». وبالفعل، فإن كلمات السلطان محمود الروحانية ترن في أذن ساجان، ويقرر ان يرسل إلى اخيه، المقيم في باريس، كي يحضر إلى الصحراء، لاقتسام الصحراء فيما بينهما، لكن السلطان المؤمن بالله يضحك، ويردد ان الصحراء ملك لله، وهبها للمؤمنين من أجل التعبد تحتها، وللتأمل في سمائها الصافية، واكتساب المزيد من المشاعر الروحانية. لكن شارل ساجان يحلم ان يبني قلعة، في وسط الصحراء، وان يضع عند أسوار القلعة الحرس من أجل حمايتها، ومن جديد فإن السلطان محمود يبتسم، وتعبر هذه الابتسامة عن دهشة حقيقية من حضارة الامتلاك التي تمثلها فرنسا، ويقول لساجان: لا استطيع ان أمنعك، ان اردت ان تأخذها فهي ليست ملكا لي. ويبدأ ساجان في بناء القلعة التي ينشدها، ويحاول ان يجعلها بالغة القوة، وبعد ان ينتهي من البناء يدعو السلطان محمود، الذي يقول له: ألا ترى انها واسعة للغاية. ويرد ساجان ان القلعة أشبه ببيت أشباح، فلا أحد يود الحضور إلى هنا للعيش فيها، ويتخذ القائد العسكري هذا زوجة فرنسية تأتي للعيش معه، لكنها لا تحتمل هذا الصمت الرهيب، وعندما يأتي السلطان محمود يردد: صدقوني الصحراء تتكلم، لكن ليست اللغة التي ترددونها، انها لغة لا يفهمها سوى من اعتادوا على عبادة الله تحت سمائها. ويشعر ساجان بالهزيمة، ويقرر ان يرحل عن الصحراء وان يترك قلعته، هذه القلعة التي غطتها الرمال بمرور الزمن وتحولت إلى كثبان من الرمال، لعلها تحمل معها القلعة إلى حيث تطير.