هنأ الزميل د. خلف جراد رئيس تحرير الزميلة جريدة تشرين السورية القيادة والشعب السعودي بمناسبة اليوم الوطني للمملكة وقال في حوار أجرته معه «الجزيرة». إننا على ثقة بأن التضامن العربي يشكل سلاح أمتنا الأفضل في معاركها وتطرق د. جراد إلى العلاقة النموذجية التي تربط بين المملكة وسوريا وأنها أعمق من القضايا الشكلية والاتصالات الدبلوماسية... إلى نص الحوار: * دمشق - عبدالكريم عفنان: * على اعتبار انكم واحد من المحللّين السياسيين، الذين يُعَتّد بآرائهم وتحليلاتهم السياسية عربياً.. كيف تقيم علاقة العربيّة السعودية بسوريّة على مختلف الأصعدة؟ - ترتبط الجمهورية العربية السورية والمملكة العربية السعودية بوشائج وروابط تاريخية - قومية - دينية وثقافية واجتماعية عميقة.. تعود أساساً إلى الهجرات العربية المتتالية، التي قدمت إلى بلاد الشام منذ فترات زمنية قديمة من شبه الجزيرة العربية، لتستقر على سواحل البحر المتوسط وتنشىء المدن والتجمعات الحضارية الرائعة. من شبه الجزيرة العربية جاء العرب الكنعانيون والفينيقيون والعموريون والآراميون.. ثم القبائل التي سبقت الدعوة الإسلامية من عدنانية وقحطانية.. قيسية ويمانية فانصهرت في بوتقة حضارية عظيمة عميقة الجذور والامتدادات والتفرعات.. فكان التواصل بين الحجاز والشام طبيعياً والوشائج كثيفة والإخاء لا حدود ولا موانع تقف في وجهه، وجاءت رسالة الإسلام ومعها طلائع الفتح لتتعانق مع الأشقاء في النسب والدم والقرابة في بلاد الشام، وفتحت سورية بمدنها وحواضرها وقبائلها وقلاعها وأبوابها الحصينة ذراعيها وأحضانها وقلبها ووجدانها وعقلها لدين الوحدانية وشهادة أن لا إله إلا الله، وشكلت هذه البلاد لا حقاً (في العهد الأموي) قوة الانطلاق نحو فتوحات عربية - إسلامية شملت آسيا وأفريقية وجزءاً من أوروبا.. لترفع راية «الله أكبر» وتبني حضارة جوهرها التوحيد والعدل والمساواة بين الأعراق والأجناس كافة. لكنّ الشعوبية لعبت دوراً خطيراً في تفتيت تلك القوة الحضارية العالمية، وعندما هيمنت (في العهد العباسي والمملوكي) في المراحل التاريخية المتأخرة العناصر الأجنبية الغربية، الحاقدة على الإسلام والعرب، مستغلة عوامل الضعف الداخلية بدأ الانهيار وبدأت مظاهر الفرقة والتراجع تنمو وتتضخم كالأورام الخبيثة في الجسد المريض، إلى أن وقع العرب وكيانهم تحت سيطرة العثمانيين لأربعة قرون، ثم الاستعمار الغربي (الفرنسي والبريطاني بالدرجة الأولى).. الذي فتت الولايات العربية عبر «اتفاقية سايكس - بيكو» إلى قطع وكيانات هشة.. لم يُتح لها الحصول على استقلالها إلا بعد تضحيات كبيرة وعظيمة.. وهكذا فإن سورية التي حصلت على استقلالها في عام 1946م عادت لتتواصل مجدداً مع شقيقاتها في مشرق الوطن العربي ومغربه، وكانت العربية السعودية في مقدمة البلدان العربية التي ارتبطت بعلاقات دبلوماسية وثقافية وتجارية مع سورية جمعهما التاريخ المشترك والإخاء والمشاعر الواحدة ضد الأجنبي والآمال بغدٍ عربي يعيد للأمة أمجادها ولحضارة العرب زهاءها وعزتها وتألقها، وخاض البلدان معارك مشتركة في وجه الصهيونية والأحلاف المشبوهة، ووقفت العربية السعودية بقوة إلى جانب شقيقتها سورية في مواجهتها للعدوان الصهيوني المتواصل منذ إقامة الكيان الغاصب في عام 1948م. ونستطيع القول إنَّ العلاقة بين هذين البلدين الشقيقين تُعد أنموذجاً رائعاً في التضامن والدعم المتبادل والتعاون الايجابي.. وهي عوامل تمثل روح الإخاء وضمانة كبيرة لتواصل الأهل في السراء والضراء، وإنّ الدعم الذي قدمته العربية السعودية لسورية إثر عدوان حزيران 1967م وحرب تشرين التحريرية عام 1973م بالمال والعدة والعتاد والأرواح ليبرهن بصورة قاطعة على معنى التضامن وحقيقة الإخاء وعمق الترابط تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً. وإذا ما أراد المرء أن يتحدث بعمق ودقة وموضوعية عن العلاقات التي تربط العربية السعودية بشقيقتها سورية، فإنه يحتاج إلى مئات الصفحات، التي تؤكد أن روابط البلدين والشعبين أعمق من القضايا الشكلية أو الاتصالات الدبلوماسية الاعتيادية أو البروتوكولية، وإن آلاف السوريين والسعوديين الذين يرتبطون بعلاقات المصاهرة والقرابة والمعيشة المشتركة ليسوا سوى الدليل القاطع والبرهان الحاسم على أنّ التاريخ حي، وأن اليوم يشكل الاستمرار الطبيعي للأمس القريب أو البعيد.. وأن تضامن الأخوة في البلدين في المجالات والميادين السياسية والإعلامية ومواقفهما المشتركة وتعاونهما الاقتصادي والثقافي والعلمي، هو الضمانة الأكيدة لقوة العرب في وجه المؤامرات والهجمة الشرسة التي تتعرض لها الأمة من جانب الصهيونية والقوى الداعمة والمساندة لها تحت ذرائع وأضاليل وتلفيقات مختلفة. * تتعرض المملكة العربية السعودية وعبر تقارير تسربها المخابرات الأمريكية وتنفيها الإدارة الأمريكية تتهم فيها السعودية باتهامات توزعها الإدارة الأمريكية على كل من يخالف إرادتها.. برأيك ماذا تريد هذه الحملة الأمريكية الموجهة ضد العربية السعودية؟ - وفق التقارير الاخبارية الكثيرة وتبعاً لجملة من التحليلات السياسية الموثوقة، واستناداً إلى مقارنات عدة وقراءات معمقة لتلك الحملة، فإن أبرز أهدافها يتمثل في ترهيب كل الأنظمة والشعوب التي تقف في وجه الصهيونية وعدوان «اسرائيل» المستمر ضد الشعب العربي الفلسطيني، ومنع أي دعم للانتفاضة الباسلة، أو التضامن الفعال مع سورية ولبنانوالعراق والشعب الفلسطيني، وإنّ تلك الحملة تأتي تحت ضغط اللوبي الصهيوني المسيطر على كثير من مراكز القرار في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ناهيك عن سيطرته على وسائل الاعلام الأمريكية كافة وعلى أبرز مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية الأمريكية، التي تلعب دوراً مؤثراً في توجيه السياسات واقتراح «سيناريوهات» المواقف والقرارات. وهي عناصر فعالة في الضغط على الإدارة الأمريكية، إضافة إلى أنصارها من اليمين والقوى المحافظة المؤيدة للكيان الصهيوني داخل الكونغرس و«إيباك» والإدارة الأمريكية ذاتها. إنّ الحملة الشرسة التي تتعرض لها المملكة العربية السعودية هي جزءٌ من حملة عامة ضد العرب والإسلام تحت مسميات وحجج ملفقة، بدءاً من أكذوبة «الارهاب» العربي - الإسلامي، مروراً بلائحة «الدول المارقة» وصولاً إلى محاولة تحطيم الموقف العربي الرافض لضرب العراق وتفكيك وحدته الوطنية، ومبدأ تغيير الأنظمة التي لاتروق للإدارة الأمريكية.. الأمر الذي يدفع القوى الصهيونية وأنصارها لمحاولة الابتزاز وارهاب العرب من أجل الاستفراد بهم دولة دولة، تهميداً لتحطيمهم جميعاً وإزالتهم من خارطة الحضارة الإنسانية لصالح الصهيونية و«اسرائيل» ومن يدرو في فلكهما، وانَّ التهديدات والضغوط والاستفزازات الموجههة ضد المملكة العربية السعودية وسورية ومصر والعراقولبنان وفلسطين تؤكد أن الخطر يهدد العرب جميعاً، وأن الصهيونية لن تقبل بأي تضامن أو تعاون أو تنسيق عربي، لأنها تدرك جيداً أهمية ذلك وخطورته على ألاعيب الصهيونية ومخططاتها التخريبية واطماعها في الثروات العربية وموقع العرب الاستراتيجي المتميز، وعليه فإنَّ أساليب «التوسل» لأمريكا و«اسرائيل» أو «التسول» الذليل، ومحاولات «الخلاص الفردي» غير مجدية، بل انها تزيد الضعف ضعفاً وتدفع المواطن العربي الى اليأس والضياع.. والمستفيد من ذلك العدو وحده، فلا خلاص لأي دولة عربية إلا بتضامنها مع شقيقاتها الأخرى، ولا فرق عند الصهاينة والقوى المساندة لهم بين عربي وعربي.. والرّد الأجدى هو توحيد المواقف والكلمة والإرادة والسلوك. * جميعنا يعرف أنَّ المملكة العربية السعودية هي الدولة الأكثر رفضاً لمسائل التطبيع مع الكيان الصهيوني حفاظاً على الأمة وصوناً لكرامتها.. هل برأيكم تستطيع العربية السعودية الصمود وسط الهوان العربي الذي يحاصر الإرادات العربية الرافضة لهذا التخاذل المر؟ - التطبيع مع العدو الصهيوني تنادي به فئة أو حفنة هزيلة العدد والفاعلية والتأثير، وقد فشلت المحاولات البائسة واليائسة التي قام بها خونة الأمة فتصدى لهم الشعب العربي بقوة رائعة وإرادة عظيمة وحسم لا مثيل له، سواء شعبنا في مصر الكنانة أو في الأردن أو لبنان. وفي البلدان العربية كافة، فباءت المحاولات التطبيعية بالفشل الذريع، وتنادت الأمة بأجمعها لترفض وتتصدى وتفضح لعبة «الشرق الأوسط الجديد»، التي روج لها شيمون بيريز ومراكز الدراسات والأبحاث الصهيونية وعدد من الضائعين، المتخاذلين.. الباحثين عن الشهرة الزائفة وشهادات التقدير الصهيونية و«جوائز» الخيانة والهوان. إن موضوع رفض التطبيع يشكل مؤشراً قوياً على شخصية الأمة وعناصر تماسكها ودفاعها الشامل عن مقومات وجودها التاريخي والثقافي والحضاري في وجه مخططات الصهيونية، الهادفة لتفكيك عناصر الهوية القومية وتدمير مقومات صمودها ومقاومتها.. ودفعها للضياع والتناحر والاستعانة بالعدو على القريب.. وهكذا فإن العربية السعودية التي ترفض التطبيع مع العدو الصهيوني تتضامن مع جماهير الأمة، تتضامن مع هويتها ودينها وثقافتها وحاضرها ووجودها ومستقبل أبنائها، وإنني لا أوافق على الرأي القائل إن الأمة تتسم بالهوان والتخاذل واللا إرادة، بل ان الأمة بما تقدمه من شهداء وتضحيات وما تمتلكه من جيل مفعم بالحيوية ورفض التطبيع والانصياع لإرادة الصهيونية وضغوط القوى المعادية وتهديداتهم.. ليست ميتة أو جثة محطمة، ومن يراهن على سقوطها أو هزيمتها أو تفككها وانحلالها سيصاب بالخيبة والخسران، وعلى الزعامات الخائفة أو المترددة أو المستسلمة أن تخلي مواقعها للشعب العربي، الذي استطاع على مدى التاريخ أن يدحر الغزاة والامبراطوريات المعادية، وان يحافظ على هويته وعناصر وجوده وان يبتدع اساليب وتكتيكات كثيرة للمواجهة والمقاومة والصمود. * ما هي الخطط التنسيقية المقترحة لمواجهة الحملة الاعلامية التي تتعرض لها المملكة العربية السعودية ودول المواجهة في المنطقة وفي مقدمتها سورية ولبنان؟ الخطط التنسيقية لمواجهة الحملة الاعلامية المعادية تضعها مؤسسات متخصصة في هذا الميدان، أو هكذا نأمل ونتوقع ونفترض، وهناك محاولات معقولة - جرت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 التي تعرضت لها الولاياتالمتحدةالأمريكية - لمواجهة الحملات الإعلامية الصهيونية والمعادية للعرب والمسلمين في الغرب وفي العالم، ونحن كأمة نملك امكانات بشرية ومعرفية ومادية جيدة يمكنها أن تكون مؤثرة وفاعلة في التصدي للحملات الاعلامية المعادية، إذا ما أحسن توظيفها واستخدامها وإيجاد الوسائل الإعلامية المناسبة لترويجها وتعميمها، ولاشك أن متابعة أكاذيب الاعداء وتلفيقاتهم وأضاليلهم والرد بطريقة عقلانية وموثقة على تلك الأضاليل في وسائل الإعلام الغربية ذاتها قد يشكل بداية العمل المفيد في هذا السياق. إن للعرب أصدقاء في هذا البلد أو ذاك، في هذه المؤسسة الإعلامية أو تلك فلماذا لا نجد الوسائل العملية الملائمة للتواصل معهم، بحيث يتحولون إلى قوة دعم في الغرب؟.. وأيضاً لابد من البحث عن طرق مؤثرة لشد الرأي العام العالمي والعمل الإعلامي المعاكس لتلك الهجمة المعادية. أما الاكتفاء بالندوات واللقاءات والاحتفالات والمهرجانات هنا أو هناك، فإنه لا يجدي نفعاً ولن يدفع الآخرين للبحث عن الحقائق أو للتبرع بالدفاع المجاني عن قضايانا القومية والحضارية العادلة. فلتدعم الأمة أبناءها المغتربين وتتواصل معهم وتستفيد من خبراتهم، ولتشد أزر أصدقائها من الشخصيات الفكرية والإعلامية الأجنبية وتقف إلى جانبهم ليقفوا إلى جانبنا.. وعندئذ ستنفضح الصهيونية ويتحول الإعلام العربي إلى قوة لمواجهة متكافئة مع الأعداء، وليس إلى أداة تسلية أو تزجية للفراغ أو جعجعة صوتية لا تصل أصداؤها أو تأثيراتها إلى أبعد من حدود الوطن العربي. كلمة أخيرة بهذه المناسبة العظيمة أتقدم إلى أهلنا في المملكة العربية السعودية بأجمل التهاني والتبريكات، راجين للمملكة مواصلة مسيرتها التنموية المتميزة، وإننا على ثقة بأن التضامن العربي يشكل سلاح أمتنا الأفضل، في معاركها المختلفة، وأن التحديات مهما كبرت وتعاظمت.. والمؤامرات مهما اتسعت وتشابكت لن تهزم أمة قررت الحفاظ على كرامتها وهويتها والدفاع الموحد عن وجودها وحاضرها ومستقبلها.