الإدارة، ككل معطيات الحياة، تخضع للأسس العلمية والمتغيرات والمستجدات والظروف المختلفة من اقتصادية واجتماعية وغيرها. والهياكل التنظيمية هي الأذرع التي تتحكم في خيوط العمل وحركته، فلا نجاح للتخطيط الإداري إلا بفاعلية الأذرعة لبلوغ الغايات المرجوة. وتغيير الهياكل التنظيمية أمر يتوافق مع مقتضيات الحراك والتقدم السريع في عالم اليوم، بل إن الجمود والخمول وعدم المواكبة هي من السمات التي تئد العمل الإنتاجي بأنواعه، فلا حياة تستقيم بركود وسط عالم يعج بالحركة والحيوية والتقدم المستمر إلى الأمام. لكن تجربة «سابك» في تغيير الهياكل التنظيمية توخياً لمردود إنتاجي أفضل تعتبر ذات خصوصية تجعل من المهم التوقف عندها، خصوصاً وأن تأثيرها مباشر على قطاع اقتصادي حيوي بقامة «سابك»، كما أنها تمثل تجربة قد تكون قدوة لغيرها من التجارب إذا ما تم تدارسها وتمحيصها وتنقيتها مما قد يعتريها ويشوبها. فالمعروف أن «سابك» قد أصدرت منذ أربع سنوات هيكلاً تنظيمياً اعتمد وحدات العمل الاستراتيجي، ويبدو أن التجربة العملية حادت عن التطبيق الدقيق لما أوصى به الاستشاري مما كبح مسيرة النجاح المأمول وأبطأ من إيقاع خطواتها. وإذا كان التغيير الأخير في الهيكل التنظيمي ل«سابك» بمثابة ترميم لتصدعات التجربة العملية السابقة، فإن المأمول تحقيق نتائج إيجابية مباشرة، وهذا بالطبع لا يتأتى بمجرد إحداث هيكلة جديدة أو باتخاذ قرارات تحقق وفورات مادية بأثمان تُستوفَى من أرصدة أخرى، وبالتالي فإن قدراً عالياً من الشفافية مطلوب في الهيكلة الجديدة بل وفي كل الخطوات التطويرية، وهي بدهية لن تغيب عن ذهنية الإدارة العليا سواء في سابك أو في كل القطاعات الاقتصادية الأخرى. إن التغيير في الأنظمة الإدارية وهياكلها عملية لابد أن تسبقها الدراسات المكثفة، و الاستنارة بالرأي الاستشاري ا لمتخصص، واستشفاف النتائج المتوقعة، واستشراف المردود النفسي على الموظفين وإنتاجيتهم، بل وتتطلب القراءة السليمة للأهداف الاجتماعية العليا ل«الوظيفة» كقيمة إنسانية تتجاوز أغلال ال«كم» المادي، خصوصاً في المجتمعات المتكافلة التي تأنف من التقييم الصارم للفرد بما يحققه فقط من مردود مادي مباشر للمنشآت أو القطاع محل الانتماء. والمأمول في هيكلة «سابك» الجديدة أن توازن بين الرأي الاستشاري العلمي، وفقاً للمنظور الغربي وبين المعطيات المجتمعية والإنسانية السائدة في بلد ذي خصوصية عالية كالمملكة العربية السعودية، فالرأي الاستشاري والعلمي المتخصص، الذي تولاه الاستشاري «بوز آلن هملتون» في الهيكلة الجديدة لابد من مزجه بالطبيعة السعودية الخاصة والأهداف الوطنية والمجتمعية العليا من كل النشاط الإنساني في المملكة، فالمعادلة ليست رقمية بكل جوانبها في مثل مجتمعنا. إن التطبيق العملي للهيكيلة الجديدة في سابك أدى إلى إلغاء العديد من الوظائف التي كان يلح الكثيرون من أبناء سابك في الترقي إليها، بل حدث ترد وظيفي لبعض المسؤولين حيث تم إنزال نواب رئيس حصلوا على منصابهم بعد عشرين عاماً من الكد والجهد إلى درجة أقل في السلم الوظيفي بمسمى «مدير عام» وهناك مديرون عامون أنزلوا إلى مديري إدارات.. وهكذا. كما لوحظ في الهيكل الجديد إفراز أكثر حدة في التعامل «العلمي» الصارم مع وضعية الشركة بإقالة ما يقارب ال80 موظفاً من الشباب السعودي وإحالتهم للتقاعد المبكر، رغم أن هؤلاء من الكفاءات التي أسهمت «سابك» نفسها في إعدادهم والصرف الطائل عليهم تدريباً وتأهيلاً، وهم قادرون على رفد الخطط التوسعية للشركة بقدراتهم وعطائهم ويستطيعون تحقيق مردودات ممتازة للشركة بما توفر لهم من كفاءة وخبرة. إن الهيكلة والتطوير سمات للعمل الإيجابي الطموح الذي لا يعرف الاستكانة، والثقة تظل عالية ومتوفرة فيما اتخذته «سابك» من خطوات تتوخى الأفضل، لكن الثقة متوفرة أيضاً في استكانة الضمير المجتمعي في الخطوات التطويرية، بحيث لا يتم التغاضي عن خصوصيات المجتمع، وبحيث يتم تجاوز التمسك الحاد بالمردود المالي المباشر للعملية الإنتاجية، فتتسع النظرة لتشمل «المفهوم» النهائي للعمل الاقتصادي، و«القيمتين» الاجتماعية والإنسانية للسلوك الإنتاجي، والمردودين النفسي والتحفيزي اللذين يرميان بظلالهما على «الإنسان» الذي يعتبر محوراً للعمل هدفاً ووسيلة.