يكتب الدكتور عبدالسلام العجيلي في كتابه ذكريات أيام السياسة الجزء الأول «من يقلب صفحات الاعلام من قاموس المنجد في طبعات السنين الأخيرة منه يجد فيه تعريفاً موجزاً لسيرتي بهذه الصورة: «العجيلي، عبدالسلام (1917م) قاص وروائي سوري ولد في الرقة وعاش فيها يمارس الطب وخدمة مجتمعه.. أسس عصبة (الساخرين) الأدبية عام 1948م. من كتبه أشياء شخصية سبعون دقيقة حكايات- فارس مدينة القنطرة- قلوب على الأسلاك». «لا يحق لي الاعتراض على ما أثبت في هذا التعريف عن ولادتي في عام 1917م بدلاً من أنها في عام 1918م فقد ورد الرقم الأول في واحدة من شهادات ميلادي الكثيرة التي تحدثت في مناسبات متعددة عما دعا إلى تغييرها. ولكن الذي جلب نظر بعض من قرأوا هذا التعريف اهماله ذكر ماهو مهم في نظر الآخرين غيري، وهو أنني مارست السياسة فكنت مرة نائباً ومرة وزيراً واهتمامه بكوني أسست جمعية اسمها عصبة الساخرين». وعصبة الساخرين التي يتحدث عنها العجيلي تألفت من اثني عشر كاتباً ولم يكن لها برنامج عمل أو كيان قانوني مسجل في الدوائر الرسمية لكن النتاج الأدبي كان ينشر في ثلاث من دوريات تلك الأيام وهي الدنيا - عطر الجنة - النقاد. وفي هذه الحكايات الثلاث التي تنفرد الجزيرة بنشرها يعود بنا العجيلي إلى سخرية من نوع خاص كان شاهداً على وقائعها التي حدثت في الثلاثينات من القرن الماضي لتؤكد لنا ما قاله عنه رفيق دربه الراحل الشاعر نزار قباني «أروع بدوي عرفته الحضارة، وأروع حضري عرفته البداوة». فإلى ما يرويه لنا البدوي الجليل والحضري القديم بتجرد عن الخيال وانحياز للواقع. ثلاث حكايات من بلدتي ثلاث حكايات واقعية. بمعنى أنها حدثت حقا وليست قصصا من التي اتفنن في تأليفها، والتي يقل نصيب الواقع فيها أو يكثر، إلا أن الخيال يظل مكونها الأول. قد أكون اخطأت في تعيين الأرقام المذكورة في هذه الحكايات، أو أني لم أكن دقيقا في ايراد تفاصيلها، غير أن وقائعها الأساسية صحيحة لا يتسرب إليها باطل. وقد كنت رويت واحدة من هذه الحكايات الثلاث منذ عدد من السنين خلت، في حفل غداء اقيم في باريس حضره معلمي القديم في مدرسة التجهيز بحلب البروفيسور جان غولمييه فقال لي: لماذا لا تكتب هذه الحكاية؟ إنها تستحق أن تروى!.. وها أنا أروي تلك الحكاية مكتوبة، وأروي معها مثيليتين لها ترتبطان بها بمكان الوقوع، وربما بالمعنى والمغزى. أكتبها واهديها إلى ذكرى معلمي ذاك، المسيو غولمييه، كما كان اسمه يدور على ألسننا في مدرستنا في حلب، في نهاية الثلاثينيات من القرن الفائت. الحكاية الأولى تبدو لي صورة دكان عمي عبدالله الآن كأنها ماثلة أمام عيني. دكان في سوق الرقة القديم، الوحيد والضيق، في آخر العشرينيات. بابه يمتد إلى الجنوب ويمتد داخله طويلا وضيقا إلى الشمال، وتقسمه قسمين دكة خشبية يجلس عمي وراءها على كرسي بمسندين لذراعيه، وخلف ظهره إلى اليمين تجثم «القاصة». القاصة هي الخزانة الحديدية الضخمة، المصبوغة بالأخضر، التي يحتفظ عمي بمفتاحها معلقا مع ساعته بسلسلة يدس نهايتها في الجيب الداخلي لمعطفه الطويل. في تلك الايام كانت العادة في بلدتي أن تكون بيوتها مفتوحة للطارئين عليها والقادمين إليها من أنحاء باديتها المترامية الاطراف، ومفتوحة في كل وقت وكل مناسبة. فلم تكن البلدة في ذلك الزمن تعرف الفنادق والمطاعم لاستقبال الغرباء عنها. وسواء كان القادم صديقا أو شريكا في الزراعة وتربية الماشية، أو كان انسانا لا تربطه بأحد من أهل البلدة رابطة، فإنه قادر على أن يجد له فيها دارا يقصدها فيبيت فيها ويشارك أهلها طعامهم يوما أو أياما إلى أن ينتهي من الغرض الذي جاء به إليها. وبيت عمي واحد من تلك البيوت ونزلاؤه الذين يترددون عليها مثل نزلائها، بينهم الصديق وصاحب الحاجة والطارئ المجهول الموطن والنسبة. بين هؤلاء المترددين على بيت عمي عبدالله كان رجل رأيته أكثر من مرة يبيت في الدار ليلته ويجالس عمي في الدكان نهاره. كان يقدم إلى البلدة بين الحين والحين، في فترات متباعدة، من قريته التي تقع في منطقة تل أبيض على الحدود التركية المبعدة نحواً من مائة كيلو متر، ويقيم بيننا أياما قبل أن يعود إلى تلك القرية. هذا الرجل، وأنا أسميه هنا محمد الحمود، هو بطل حكايتي الأولى، إن كان دوره فيها يجيز لنا تسميته بالبطل. وفي ذات صباح، وعلمت هذا مع من علمه من أفراد اسرتنا بعد يومين من ذلك الصباح، لحق بعمي ضيفه محمد الحمود إلى الدكان. كان قد خرج إلى بعض شأنه في السوق مبكرا قبل مضيفه. أقول إن محمد الحمود لحق بعمي إلى دكانه، وكان يبدو عليه الاضطراب والجزع، وبادره بالقول: يا أبا نجم، ضاعت مني صرة الدراهم! سأله عمي: ضاعت؟ أين أضعتها؟ قال الرجل في شبه تردد: في الدار، داركم.. نمت وهي في جيبي، وفي الصباح لم أجدها! وجم عمي عبدالله لسماع هذه الكلمات، ويحق له الوجوم. فما يقوله الضيف يعني أنه تعرض إلى سرقة في الدار التي هو نزيلها. سأله: أمتأكد أنت من أن الصرة كانت في جيبك قبل أن تنام، ثم أنك لم تجدها عند ما أفقت؟ قال محمد الحمود: متأكد مثل تأكدي من رؤيتك الآن أمامي.. سكت عمي دقائق غير قليلة وهو يسمع هذا التأكيد من ضيفه. ليس ما يقوله معقولا. ولكن الرجل فقد ماله، وهو مصر على أنه فقد منه بهذه الصورة. مشاعر كثيرة راحت تتضارب في نفس عمي وفي فكره في تلك الدقائق. لم يخطر له أن يجادل هذا الرجل في أقواله. إنه يعرفه منذ زمن طويل، وإن تكن معرفته لا تتعدى استضافته إياه حين يقدم إلى البلدة من قريته. سأله: كم كانت صرتك الضائعة تحوي من مال؟ هل تذكر؟ قال الرجل: نعم. قال عمي: كم؟ قال محمد الحمود: كان في الصرة ثلاث ليرات ذهب وتسع مجيديات فضة وأربع فتّيّات أو خمس.. هذه الحكاية جرت أيام صباي. كانت العملة المتداولة آنذاك هي العملة المعدنية من ذهب وفضة. الليرة هي العثمانية الذهبية، والمجيديات قطع فضية تعود إلى أيام الاتراك في بلادنا، وكل خمسة منها تعادل ليرة ذهبية. أما الفتّيّات، ويسميها الناس في المدن الكبيرة براغيت، فكل عشر منها تعادل مجيديا واحدا. ما صنعه عمي بعد ما سمع جواب ضيفه هو أن مد يده إلى الجيب الداخلي في معطفه الطويل واخرج مفتاح القاصة القابعة وراء ظهره، إلى يمينه، ففتحها واخرج منها قبضة من النقود بين ذهبية وفضية. عد من تلك القبضة ثلاث ليرات ذهبية وتسعة مجيديات فضية وخمس فتيات، ووضع هذه القطع في كف محمد الحمود وهو يقول له: هذه دراهمك التي اضعتها.. ويرضى الله عليك، لا تذكر ما جرى لأحد! انبسطت اسارير الرجل بعد طول عبوس كان مسيطرا عليه، ووضع القطع المعدنية في جيبه دون أن ينطق بكلمة توشي بالتردد أو التساؤل أو تعبر عن الشكر، ثم خطا إلى باب الدكان فجلس على واحد من الكرسيين المتقابلين في جانبي ذلك الباب، كما هي عادته كل يوم. أما عمي عبدالله فقد اغلق باب قاصته وأعاد مفتاحها إلى جيبه وجاء فجلس على الكرسي المقابل، يدير حبات سبحته الكهرمان بين اصابعه وهو يتطلع إلى السوق والمارة أمامه دون أن ينطق بكلمة كذلك. كان هذا كما قلت في أيام صباي، أعني منذ زمن بعيد. أخلاق الناس وطباعهم واساليب عيشهم في تلك الأيام كانت على غير ما هي عليه اليوم، في العالم كله وفي بلدتنا مثل بقية أنحاء العالم. كان دلال البلدة، واسمه حسين الهبش، يتولى المناداة على المبيعات في مزاد السوق لمن يريد ان يشتري، ويرفع صوته في البحث عن المفقودات، ويتجول في السوق معلنا تعليمات الحكومة التي يتوجب تعميمها بسرعة على أهل البلدة. وبينما كان عمي عبدالله وضيفه محمد الحمود في مجلسهما على الكرسيين في مدخل الدكان اقبل حسين الهبش من مدخل السوق يسبقه صوته الملعلع. حينما قرب من دكان عمي سمعه هذا يصيح مناديا: يا من ضاع له ضائع يعرّف على ضائعه ليأخذه إذا كان له.. يا من ضاعت له صرة فيها دراهم يعطي صفاتها ويأخذها! ناداه عمي قائلاً: تعال يا حسين .. أية صرة هذه التي تنادي عليها؟ أين وجدتها؟ قال الدلال: ليس أنا من وجدها.. وجدها ابن حلال، لا يريد أن يعرف أحد اسمه، أمس العصر، بعد أن اغلقت الدكاكين أبوابها، وهو يبحث اليوم عن صاحبها ليردها إليه.. هل فقدت أنت شيئاً يا أبا نجم؟ الصرة وجدت أمس وأعطانيها ابن الحلال اليوم.. هنا التفت عمي إلى محمد الحمود وسأله: ما لون صرتك المفقودة يا محمد؟ لجلج الرجل بالكلام قبل أن يجيب بقوله: زرقاء وفيها خطوط حمر. قال حسين الهبش مخاطبا عمي: وهي كذلك يا أبا نجم. ثم التفت إلى محمد الحمود وقال له: إذا كانت لك فما مقدار ما فيها من دراهم؟ سكت الرجل، إلا ان عمي عبدالله أجاب عنه قائلا: هات الصرة يا حسين.. فيها ثلاث ليرات ذهبية وتسعة مجيديات واربع فتّيات أو خمس! أخرج حسين الهبش من عبه صرة من قماش أزرق مخطط بخطوط حمر متقاطعة، معقودة على النقود. فك عمي العقدة وراح يعد ما فيها بصوت عال: ثلاث ليرات.. تسعة مجيديات .. ثلاث فتيات.. بقي لي في ذمتك يا محمد الحمود فتّيتان، فقد اعطيتك خمس فتّيات. قم من هنا ولا تدخل داري بعد اليوم! قام الرجل وهرول غير ملتفت وراءه، بينما دخل عمي الدكان ففتح القاصة. القى في جوفها نقود الصرة بعد أن وضع في يد حسين الهبش ثلاثة مجيديات، ثم عاد إلى مجلسه بعد أن أغلق قاصته وبعد أن القى خرقة الصرة الملونة في صندوق من الورق كان في زاوية الدكان. الحكاية الثانية حكاية عمي عبدالله وضيفه محمد الحمود حدثت، كما قلت آنفا، في صغري. كنت آنذاك تلميذا في المدرسة الابتدائية، لم أنل شهادتها بعد. ومرت الأيام وانتقلت في الدراسة إلى مراحل أعلى وتخرجت طبيبا من جامعة دمشق، وتقدمت بعد تخرجي إلى الانتخابات النيابية، في صيف عام 1947، لأكون أحد ممثلي بلدتي في مجلس النواب السوري. بلدتنا، كما هو معروف، كانت ولا تزال منطقة عشائرية واسعة، والكثرة فيها والغلبة للقبائل التي تحيط بها لا لسكان البلدة الحضريين. وأنا ابن اسرة حضرية من اسر البلدة ولذا فإني، من وجهة النظر الانتخابية، كنت في موقف ضعف أمام خصومي في معركة الانتخابات التي تقدمت لخوضها. اولئك الخصوم كانوا ينتمون إلى عشائر كثيرة العدد في أفرادها، اضافة إلى أنهم لهم سوابقهم في احتلال المقاعد النيابية ولهم صلاتهم برجال الحكم والأوساط ذات النفوذ. ومع ذلك فإن صفاتي الشخصية كانت تميزني بما يجعلني مؤهلا للنجاح أنا وافراد القائمة التي كنت المقدم فيها. ومن حسن الحظ أن الروح السائدة بين الناس في منطقتنا ظلت وتظل بعيدة عن التشدد في التعامل وعن العنف في المنافسة. قبل معركة الانتخابات كانت صلاتي بالجبهة التي كنت أخوض المعركة ضدها صلات مودة جيدة، وستعود هذه الصلات إلى الصفاء والطيبة بلا شك بعد المعركة أيا كانت النتائج في هذه.. إلا أن الخصومة في المعركة نفسها خصومة حادة وجادة، إذ يسعى كل منا إلى ادراك الفوز فيها بكل ما يملك من قوة وما بين يديه من وسيلة. وحل موعد الاقتراح وراح الناخبون يتواردون على صناديق المراكز الانتخابية في منطقتنا المرامية الأبعاد. كان عليّ أن أتفقد سير الأمور في تلك المراكز، في البلدة نفسها وفي القرى القريبة والبعيدة، وأن اثبت وجودي بصورة خاصة في المراكز التي يتغلب فيها أنصار خصومنا على أنصارنا في العدد. من ناحيتي كنت أخوض تلك المعركة بروح رياضية، فكنت ادخل إلى كل مركز محييا العاملين فيه على الصندوق وممثلي المرشحين على اختلاف انمتاءاتهم بتودد، وعلى شفتي دوما ابتسامتي الواسعة. أما عن خصومي، بين ممثلين للمرشحين وناخبين، فقد كان استقبالهم لي كالمنتظر فاترا في اغلب الاحيان، ولكنه ما كان على كل حال يبلغ درجة العداء. وإن كان إقدامي على زيارة بعض المراكز التي تعتبر معاقل منيعة للجبهة المضادة يثير غمغمات تساؤل عن هذا التحدي من جانبي في بعض الأحيان. في واحد من هذه المعاقل المنيعة للخصوم، في قرية اسمها كديران، وجدت أن المشرف على عمليات التصويت كان الشيخ علي. الشيخ علي كان أبرز رؤساء القبائل المناهضة لي نفوذا، وهو الرأس المدبر للقائمة المضادة التي يتزعم مرشحيها أخوه الكبير. هو إذن خصمي اللدود. هذا من الناحية الانتخابية، ولكن الشيخ علي نفسه قبل نشوب المعركة كان لي رفيقا دائما ويربطني به رباط وداد وثيق. ما كان ممكنا أن يغيب هذا عن بالي وأنا أراه في صدر بيت الشعر الذي كان الاقتراع يجري فيه، والناخبون يتواردون ليلقوا أوراقهم في صندوق الانتخاب بكثرة وحماس. حييت رفيق الامس وخصم اليوم بيدي من بعيد وجلست مع مرافقيّ في مكان اراقب منه عملية تصويت اعرف أن حظي منها يكاد يكون معدوما. إلا أن معرفتي هذه لم تمح الابتسامة عن شفتيّ ولا دفعتني إلى أن اقصر زيارتي لهذا المركز المناوئ أو إلى أن ابتعد عن الناخبين فيه، وكانوا بين متجاهل لي أو ناظر إليّ شزرا أو رافع صوته بهتاف يبين خصومته لجبهتنا متباهيا بذلك أمام شيخ عشيرته، الشيخ علي. اطلت جلوسي في زاوية بيت الشعر حيث كنت. لاحظت أن الشيخ علي، بعد تحيتنا الأولى، صرف وجهه عني واتجه إلى ممثليه على صندوق الاقتراع مبادلا اياهم كلمات هامسة قبل أن يعود إلى مجلسه في صدر بيت الشعر. ورأيت أن اولئك الممثلين أخذوا يتناولون من كل ناخب ورقة تصويته فيمرون عليها بأقلامهم بالشطب والاضافة قبل أن يعيدوها إلى صاحبها ليلقيها في الصندوق. كان هذا التصرف جديرا بأن يثير اعتراض ممثلي المرشحين لأنه يخالف مخالفة صريحة نصوص قانون الانتخاب. ولكن ما فائدة اعتراض من هذا القبيل في هذا الجو، وفي مركز كان مؤكدا أن النجاح فيه سيكون لجبهة واحدة، هي الجبهة التي يمثلها الشيخ علي؟ لم أجد داعيا إلى أن اشير إلى ممثلينا باتخاذ خطوة في هذا المجال لا تجدينا نفعا. واكتفيت بأن احتفظ بما رأيته لنفسي تحسبا لتصرف أكثر نفعاً في غير تلك الساعة. وقمت بعد جلستي الطويلة مع مرافقيّ إلى سيارتنا التي كانت تنتظرنا. ومن جديد حييت الشيخ علي بإشارة من يدي دون أن اصافحه أو اكلمه أو اقترب منه. ولست أنكر أن هذا الذي لاحظته واحتفظت به لنفسي، أعني اشارة الشيخ علي بعد تحيتي له وجلوسي في زاوية بيت الشعر، اشارته إلى ممثليه بتصرفهم غير القانوني على أوراق الناخبين من انصاره، وكلهم انصاره، قد أثار فضولي. رحت اتساءل عما كان وراء تلك الاشارة وذلك التصرف. ولم يطل تساؤلي. فحين بلغنا السيارة التي كنا نريد أن نقصد بها مركزا آخر بعد زياتنا مركز كديران، اضطررنا إلى الانتظار بضع دقائق ليلحق بنا أحد مرافقينا الذي تخلف عنا. جاء هذا المرافق فسألته عما أخره، فلم يجب لفوره. ارتسمت على شفتيه ابتسامة غريبة وهو يأخذ مكانه من السيارة ويشير إلى السائق بأن ينطلق. وعندما اصبحنا خارج القرية، على الطريق العام، أعدت عليه السؤال فأجابني قائلا: - تأخرت لأسأل، وجئتك بالخبر. هل تعرف ماذا فعل الشيخ علي عندما دخلت أنت بيت الشعر أمامنا وأشرت إليه بالتحية من بعيد؟ أنا أعلمك. حياك بالإشارة وقام من مكانه إلى الكتّاب، كتّابه، فأمرهم.. أمرهم أن يشطبوا من ورقة كل ناخب يتقدم إلى الصندوق اسم مرشح من مرشحي قائمته ويضعوا مكانه اسمك أنت يا عزيزي. وامرهم، كرمى لك، أن يستمروا في فعل ذلك طول ما أنت حاضر وملازم جلستك في بيت الشعر. لو أنك ظللت إلى غياب الشمس في مكانك لكسبت اصوات كل ناخبي مركز كديران. أي رجل هذا الشيخ علي يا ابن عمي؟! الحكاية الثالثة وتتالت علينا الأيام والسنون، فكبرت بلدتنا، كبرت حقا، إلا أنها ظلت إلى نهاية الخمسينيات، بل حتى الستينيات والسبعينيات، قرية كبيرة. لم ينشأ فيها مثلا فندق لائق ولا حوت مطاعم غير دكاكين القصابين التي تقدم لزبائنها الكباب واللحم المشوي في اجواء غير مرضية. كان على القادمين الينا، من المدن الكبيرة بصورة خاصة، أن يجدوا لهم مضيفين من أهل البلدة، يستقبلونهم في دورهم عند زيارتهم للبلدة، وهي زيارات قلّ أن تستمر اكثر من يومين أو ثلاثة أيام. من هؤلاء القادمين كان كبار الموظفين الآتين من العاصمة في مهمات تفتيش أو تنظيم، ومنهم قضاة محاكم دير الزور، وهي مركز المحافظة التي كانت تتبعها بلدتنا، يجيئون لإجراء الكشوف والتحقيقات، ومنهم اصحاب صحف يقومون بجولاتهم السنوية على المحافظات. وكان منزلي، أو بالأحرى منزل أهلي حين كنت عازبا اقيم في دار الاسرة، مقصدا لكثير من هؤلاء الضيوف الطارئين. كان منهم اصدقاء لي أو معارف، ومنهم اناس لا تربطني بهم معرفة سابقة ولكنهم يحلون في دارنا أهلا وسهلا حين لا يجدون اسما يعرفونه لواحد من أهل البلدة غير اسمي أنا. في ذات مرة، وبعد ظهر يوم خميس من أحد الاسابيع، قدم إلينا من دير الزور القاضي أنور بك، رئيس محكمة الاستئناف في المحافظة، ليبيت ليلته في بلدتنا ويقوم في الصباح التالي، صباح الجمعة، بإجراء كشف على عقار في البلدة مختلف عليه ويستمع إلى اقوال المتخاصمين فيه وإلى شهادات شهودهم. معرفتي بالقاضي أنور بك كانت ضعيفة. كل ما سمعت عنه كونه، وهو الحلبي الأصل، صديقا لخال لي مقيم في حلب موظفا قديما فيها. وعلى كل حال كانت استضافتنا اياه امرا عاديا سواء ربطتنا به معرفة أو لا. تناولنا بحضور والدي طعام العشاء مساء الخميس معاً وسهرنا مع الضيف ساعة من الليل، ثم تركناه ليستريح ويستفيق في الصباح ليجري كشفه ويستمع إلى المتقاضين، ثم يعود إلى دير الزور بعد ذلك. في الصباح، وبعد أن تناولنا وضيفنا طعام الفطور، انتحى بي والدي ناحية من البيت وقال لي: هل تعرف أي كشف سيجريه أنور بك؟ قلت: لا، لم اسأله.. ماذا يهمنا من ذلك؟ ابتسم أبي وقال: انه الكشف على أرض المفخرة فوق السور.. الارض التي ينازعنا على ملكيتها حسن الشبلي.. هذا ورطة لنا يا ابني. لم افهم قصد والدي في وصفه الأمر بأنه ورطة. كنت اعرف تلك الارض، موضع النزاع بيننا وبين حسن الشبلي. فهي قطعة أرض مهجورة قريبة من المطحنة التي كنا نملكها. كما كنت اعرف سبب تسميتنا لها ارض المفخرة. ففي منتصف العشرينيات، أعني قبل نحو من ثلاثين عاما من تاريخ هذه الحكاية، احتاجت الحكومة إلى احجار آجر من نوع الفخار القديم المبنية بها دور بلدتنا البدائية، لتبني بها مقرات لبعض دوائرها الرسمية. اقدم والدي حينذاك، بعقليته العملية المشهورة عنه، على انشاء موقد تشوى فيه احجاز اللبن فتتحول إلى آجر جديد شبيه بالفخار القديم. انشأ موقد الفخار، ويسميه الناس عندنا مفخرة، على سفح السور الأثري المجاورة له مطحنتنا. وبعد توقف تلك المفخرة عن العمل ظل والدي يدفع الرسوم القانونية على الارض التي اقيمت عليها سنين متوالية منذ ذلك اليوم إلى اليوم، فأصبحنا مالكين لها. إلا أن حسن الشبلي الذي تجاور داره تلك الارض راح، في المدة الاخيرة، يطالب بملكيتها بحجة الجوار ويقيم علينا الدعاوى بذلك. وهذا ما أتى بأنور بك إلى بلدتنا اليوم. سألت أبي: هل أخبرك أنور بك بأنه آت للكشف والتحقيق في هذه القضية؟ قال: لا، ولكني ألقيت نظرة على جلد الاضبارة التي كانت على الطاولة امامه حين قمنا من تناول الفطور فوجدت على غلافها اسم حسن الشبلي واسمي.. اعتقد أنه هو نفسه لا يعرف أني طرف في هذه القضية يا ولدي. وهنا لا بد من الوقوف على أمر يتعلق بعادات تسمية الاشخاص في بلدتنا وما حولها. إلى أمد قريب ما كان الناس في منطقتنا ينتسبون إلى عائلاتهم عند التعريف بأنفسهم. فالابن ينسب إلى ابيه، وقد يستمر فيلحق اسم جده باسم ابيه. والدي مثلا كان الناس يتحدثون عنه أو ينادونه باسم علي المحمد الويس، نسبة إلى ابيه ثم جده. وانا، قبل أن اعرف ككاتب فأوقع ما اكتبه باسمي العائلي، وقبل أن اشارك في حياة بلادنا العامة باسمي العائلي، كنت معروفا في بلدتي بأني عبدالسلام العلي، إذا لم يضف المتحدث عني إلى اسم ابي اسم ابيه وجده فأصبح عبدالسلام العلي الويس! كانت اضبارة الدعوى التي حملها القاضي أنور بك إذن تحمل اسم والدي كما يتردد على الألسنة عندنا: المدعى عليه علي المحمد الويس.. فكيف كان ممكنا لأنور بك أن يعرف أن هذا المقامة عليه الدعوى هو مضيفه علي الويس العجيلي، أبو عبدالسلام العجيلي؟! عدت إلى والدي بالسؤال، فقلت له: ليكن هذا يا أبي، فأي ورطة ترى في الأمر؟ قال: ألست ترى الحرج الذي يقع فيه ضيفنا، واقع انا معه فيه؟ هذا الرجل أكل خبزنا وملحنا وبات ليلته في دارنا، فبأي وجه تراني اقابله بعد هذا، حين اقف امامه اخاصم انسانا واطلب منه أن ينصفني من ادعائه عليّ، ولو كان ادعاؤه باطلا؟! وهو، اعني أنور بك، أليس يضع في حسابه مقالة الناس عنه، إذا انصفني واعطاني حقي، بأنه انحاز إلى جانبي لأنه كان نزيل داري وضيفي ولو لليلة واحدة؟ الصحيح يا ابني أني لن أحضر هذا الكشف، سأتغيب عنه، والعوض على الله. وهذا ما جرى. ذهب انور بك إلى موقع المفخرة يرافقه المختار واثنان من رجال الدرك، وحضر حسن الشبلي إلى الموقع مصطحبا شهودا هيأهم ليقولوا إن الارض ملكه. أو لعله لم يأت بشهود البتة. فما دام خصمه، علي المحمد الويس، لم يدرك بأية بينة ولم يحضر اطلاقا بدون ابداء عذر عن غيابه، فقد اعتبر مستنكفا عن الحاجة في الدعوى وسقطت حجته في التملك. وكفى هذا لتثبت ملكية أرض المفخرة للمدعي بها حسن الشبلي. وهكذا خسرنا أرضا كان حقنا في ملكيتها ثابتا، لأن والدي أبى أن يحرج نفسه ويحرج ضيفه بحضوره اجراءات الكشف، وبإبرازه بياناته واصطحابه شهوده. هذه الحكاية الثالثة هي التي قلت اني قصصتها منذ سنوات في باريس على استاذي البروفيسور جان غولمييه خلال احاديث تبادلناها، ونحن ضيفان على مائدة اصدقاء لنا في العاصمة الفرنسية، عن سورية التي احبها ذلك الاستاذ وحفظ لها اطيب الذكريات. قال لي يومها: لماذا لا تكتب هذه الحكاية الجميلة؟ انها تستحق أن تروى. ولقد فعلت، فرويتها إلى جانب اختيها، محيياً بها ذكرى ذلك الاستاذ المعلم، الغزير في علمه والنبيل في اخلاقه، والذي ترك بهذه وتلك في التكوين الفكري لكل من تتلمذ على يديه آثارا طيبة عصية على النسيان.