تثير الاسطورة لدينا وبعد تلقيها على هيئة خطاب وارد جملة من الاعتبارات، والدلالات التي تقترن بالمغزى الذي جاء متوجاً لذروة المقولة على لسان الحكاء.. ذلك الذي ينقل الحكاية من عمق الثراء الفاتن للمفردة الشعبية لحظة ان تصور همة العظيم، وتهالك الوضيع في إطار استرشادي من العقل حتى تتحول هذه البنى اللفظية أحياناً إلى اسطورة توازي حجم هذه الهالة التي تتركها لحظة التلقي لأي نبأ خارق، أو خارج عن سياق مشروعية الكتابة أو القول في أمر أي حكاية تأتي مطرزة بعنديات القائل وبرضى وقبول المتلقي الذي يأنس في تتويج جيد الحكاية بعقد الممكن والجائز حتى وان تأسطرت ولفها الخيال بضبابية فاتنة. وتحتاج الحكاية إلى تراكم وقتي، وقدرات عقلية لكي تتحول إلى بناء اسطوري، فقد يكون هذا التنامي موفقاً في اختزان هذه المقولة المتكاملة في عقلية الحاكي لينقلها وفق حالة خاصة إلى من سواه، فيكون هذا التحول في النقل فرصة سانحة على سكب عندياته في ذهن المتلقي من جديد لتصبح دورة القول والتلقي فرصة مناسبة للبوح بما لدى القائل من قدرات حكائية قد تتجاوز حدود الرؤية الواقعية لتصبح حالة من أسطرة ما لا يمكن أسطرته في الذهن. وأقرب هذه الحالات واقعاً هي تلك الحالة التي تستمد فيها القصة القصيرة، والرواية وجودها من تراكمات قول الحكاء.. ذلك الذي لا يبخل دائماً على القارئ بما لديه من عنديات تكتنزها الذاكرة. ففن القصة والرواية يعطي أحياناً مصداقية قوية لهالة من الأسطرة التي تتلبس بعض الحكايات المنقولة على ألسنة الرواة فالمصداقية تأخذ بعدها العقلي القريب إلى الذات لتوائم بين رغبة القارئ أو ذرائعيته للوصول إلى المتعة المبتغاة وبين إطالة أمد التأمل المنطقي والذي يفضي إلى استدراج العقل لبحث هذه المقولات من منطلق تفكيكي صارم يجعل النص القصصي أو الروائي على بساط التأمل العقلي وذلك من أجل ان تدخل الحكاية في ثنايا النص وكأنها عالمه الأساسي الذي لا يظهر أي ملمح للضدية الممكنة بين المقولة واللغة بوصف الأولى خطاباً عاطفياً والتالية بناء لفظياً وارداً. وحينما نقرأ العمل السردي بشكل عام نستشعر حضور هذه اللحمة التي تشيع الاعتقاد بأن كل حكاية مستدرجة في ثنايا النص قابلة لأن تكون أسطورة.. فقدرة الكاتب الشديدة على رسم ملامح المستحيل، وجرأته في تدوين الاحالة الشكلية لأصل المقولة يجعل الأمر المروي، أو المنقول الحكائي قريباً من التكامل في صيغته الاسطورية التي قد تصدق أو ترفض من قِبل ذائقة القارئي كل حسب قدرته على التصور والفهم لمغزى هذه المقولات الواردة.. ولعرض الأمثلة على تأسطر الحكاية المألوفة يمكن لنا استحضار تجربة الروائي الليبي إبراهيم الكوني في جل أعماله الروائية ولا سيما الأولى منها «نزيف الحجر» لنجد ان الحكاية لديه تدخل في سياق البحث عن اسطورة ممكنة فتحول الذئب إلى جانٍ مثلاً أو تحول الرجل إلى شبح أو «الودان» إلى حجر أصم هي محاولة من الكاتب ان يستدرج الحكاية إلى مواطنها الاسطورية الكامنة في لعبة المنقولات القولية لتصبح وحشة المثال الهائل للجان المتصور في هيئة «ودان» أليف هو من قبيل استمالة الرعاة إلى مواطن الخطأ لاخراجهم من سلطة المجتمع أو التاريخ ليكون فريسة سهلة للخوف الليلي، ومائدة لحديث السمار عن مآلهم في تلك التخوم الرملية القاحلة.. فإثم الأساطير يأتي من هذه الهالة غير المقبولة لحالة الإنسان والحيوان والجماد لحظة أن يأخذ أي واحد دور الآخر في الظهور على مسرح الحياة في ليالي معتمة أو مقهرة فلا يمكن للعقل ان يتحرك نحو رسم كنه هذه العلاقة بين هذه الكائنات لتأخذ الاسطورة دورها الريادي في بناء الصورة المعبرة والزاهية في ذهنية القارئ للعمل الروائي أو ذلك المتلقي للحكاية الأصلية.. وإلى جانب تجربة الروائي الكوني هناك العديد من التجارب الأخرى.. تلك التي تصب في هذا الاتجاه الذي يستمد وجوده من الاسطورة الحكائية للتأثير على القارئ واستمالته نحو النص بوصفه أداة لنقد الواقع الأليم إلا ان إهالة هذه القداسة على الحكاية واسطرتها يجعل الواقع الفني للعمل السردي أكثر غرابة وأقل وعياً إذا ما حاولنا ان نغيب العقل. ونظهر بقصد أو بغيره قدرات المخيلة على سبر أغوار العلاقة بين النص والقارئ.. لكن الأجدى في هذا السياق هو مزجل العقل بالمخيلة من أجل ان يهرب النص من اعتقال المراقبة العقلية الصارمة وان يكون حضور النص مستنداً على جملة من الشواهد الحكائية المنبعثة من طاقة التخيل لدى الكاتب لحظة كتابته للنص.. والسؤال الذي يرتسم دائماً في ذهنية القارئ لحظة ان يقرأ العمل السردي قصة أو رواية يتجسد في التالي: هل التاريخ معرضاً لأن يكون اسطورة تروى، وتتناقلها ألسن الحكائيين..؟!.. فإذا ما سلمنا بأمر المقولة التي تحولت إلى كتلة حجرية صلدة هل سيصبح نقل التاريخ مجرد غاية في المشقة والأذى ولا سيما إذا ما كان مثقلاً بخفاف الادعاءات والآثام الكثيرة.. ليصبح الواقع التاريخي اسطورة تقبل عليها الاجيال القادمة غير مصدقة ان هذا الأمر كان لحظة إنسانية حساسة أثمرت جملة من الأحداث التي لازالت تتردد حتى اليوم.. إننا أمام إثم الاساطير.. تلك التي لا تكون وفية في نقل حياة الماضي حتى وإن جاءت على لسان الحكاء الحاذق الذي ينهل من معين لغة شجية فاتنة.