خصَّصت الباحثة الكريمة، ميّ الخليفة، الباب الثالث من كتابها للحديث عن بيرسي كوكس، الذي قال عنه كرزون: «الأبولو الصامت»، وجعلت هذا القول أول عناوين هذا الباب، وقد كتبت عن مولده، ونشأته،وبداية عمله الدبلوماسي إلى أن أصبح مقيماً سياسياً وقنصلاً عاماً في بوشهر عام 1904م. ومع أنه ذهب للعمل فترة قصيرة في لندن، ثم في الهند، إلا أنه عاد مقيماً سياسياً في الخليج ودخل إلى البصرة عام 1915 حيث عُيِّن مفوَّضاً مدنياً في العراق، وتولَّى مناصب أخرى فيما بعد إلى أن تقاعد عام 1923م. ولقد فصَّلت الباحثة الكريمة ما جرى بين كوكس وسلطان عمان بما في ذلك علاقة فرنسا بالسلطنة العمانية، لتنتقل بعد هذا إلى ما قام به من إجراءات في البحرين، وتورد المراسلات التي تمَّت بين أطراف متعددة خاصة بواقع هذا الوطن الكريم وشؤونه المختلفة. ثم تكلمت عن الملك عبدالعزيز، فقالت: ص 357»: «في سنة 1906م بعد مقتل ابن رشيد المنافس الأول لابن سعود وسيطرة الأخير الكاملة على الجزيرة العربية يتحرك المقيم السياسي «البريطاني» في بوشهر، ويقدِّم على حكومة الهند عدة بدائل للعلاقة المطلوبة مع سيد الجزيرة العربية». ومن المعلوم أن مقتل الأمير عبدالعزيز بن رشيد في معركة روضة مهنا، سنة 1324ه/1906م لم يؤد إلى سيطرة الملك عبدالعزيز على كل منطقة نجد؛ إذ بقي إقليم جبل شمَّر خارج حكمه حتى سنة 1340ه، ناهيك عن أن تكون قد تمت له السيطرة الكاملة على الجزيرة العربية. ولقد تكلَّمت الباحثة الكريمة عن محاولات الملك عبدالعزيز إقامة علاقات مع بريطانيا؛ ابتداء من عام 1904م، وعدم استجابتها لتلك المحاولات الأولى مراعاة للعثمانيين الذين كانوا مستولين على منطقة الأحساءوالقطيف. وبعد أن تحدَّثت عن أوضاع المنطقة؛ وبخاصة بلاد فارس، عادت إلى الكلام عن علاقة كوكس بالملك عبدالعزيز، فقالت «ص396»: «يبدو أن سباق الحصول على أجزاء من تركة الرجل المريض أصاب ابن سعود أيضاً، لذا نجده ينتصر على إمارة آل رشيد ويسترجع حائل في مايو 1913م، ومن هناك يواصل إلى الهفوف ويسيطر على القطيف والعقير تاركاً أمامه الحاميات التركية على ساحل الخليج. ورغم محاولة الأتراك استعادة المناطق المفقودة بقيت سيطرة ابن سعود ثابتة في الأحساء وساحل الجزيرة الشرقي معارضاً بذلك الاتفاق الأنجلو تركي الذي يعطي الأتراك صلاحية كاملة في منطقة الأحساء». ومن المعلوم أن الملك عبدالعزيز انتزع منطقة الأحساءوالقطيف من العثمانيين عام 1331ه/1913م قبل أن تتم الاتفاقية بينهم وبين بريطانيا. وبذلك لم يكن للعثمانيين حق توقيع أي اتفاقية بشأن المنطقة بعد أن خرجت عن حكمهم، وقد درس هذا الموضوع دراسة جيدة كلٌ من الدكتور خالد السعدون في كتابه «العلاقات بين نجد والكويت»، والباحث الأمريكي ترولر في كتابه الذي ترجمة عنوانه «مولد المملكة العربية السعودية» وإذا كان الملك عبدالعزيز قد انتزع منطقة الأحساءوالقطيف من العثمانيين عام 1331ه فإنه لم يقض على إمارة آل رشيد ويسترجع بلدة حائل إلا عام 1340ه؛ أي بعد تسع سنوات من انتزاعه الأحساءوالقطيف. ولقد تحدَّثت الباحثة الكريمة عن مؤتمر العقير والظروف التي أحاطت بانعقاده ونتائجه. وقد اعتمدت في كثير مما كتبته عن نتائج ذلك المؤتمر على ما ذكره ديسكون؛ وبخاصة ما يتعلق بالحدود السعودية الكويتية. ولو رجعت إلى الكتابين المذكورين سابقاً، وإلى ما ذكرته هي نفسها عن نفوذ الإمام فيصل بن تركي عند زيارة بيلي له عام 1282ه، وما ذكره البريطاني في رحلته عن مدى نفوذ أمير الكويت حينذاك لأدركت أنه من الأفضل علمياً عدم أخذ رواية ديكسون على علاَّتها، ولقد ذكرت هي «ص431» أن ديكسون خلال عمله مقيماً سياسياً في البحرين خلَّف وراءه عوامل انقسام وبذور فتنة بين أهلها. وكان هؤلاء قد تظاهروا ضده، وطالبوا شيخ البحرين برحيله، ورجل قالت عنه، هنا، ما قالت أظن من المستحسن تدقيق ماكتبه وتمحيصه. وفي حديث الباحثة الكريمة عن علاقات بريطانيا بالملك عبدالعزيز قالت «ص409» ما ملخصه: « في الفترة الواقعة بين عام 1913 حتى عام 1916 «عام الاستيلاء على الأحساء» كان عبدالعزيز بن سعود يومها يملك قلب الجزيرة العربية وأطرافها، ولذلك حين أعلنت الحرب العالمية الأولى في أكتوبر 1914م طلب السير بيرسي كوكس من المعتمد السياسي في الكويت الكابتن شكسبير التوجه لمقابلة ابن سعود وشرح موقف بريطانيا لديه... ثم رافقه إلى معركة «الجراب «وصحتها جراب» قرب زلفي «وصحتها الزلفي»، وكان آنذاك مسؤولاً عن حملة البنادق في جيش ابن سعود وقتل في تلك المعركة». ولعلّ مما يلفت النظر أن الباحثة الكريمة وضعت عبارة «عام الاستيلاء على الأحساء» بين قوسين بعد ذكرها عام 1916 مباشرة. والقارئ الذي لا يعرف تاريخ تلك الفترة سيفهم أن الملك عبدالعزيز استولى على الأحساء في ذلك العام، والصحيح أن استعادته الأحساء من العثمانيين قد تم سنة 1913م. وما قالته الباحثة الكريمة من أن شكسبير «كان مسؤولاً في معركة جراب عن حملة البنادق في جيش ابن سعود» قول ليس في المصادر لتلك المعركة ما يؤيده. وكان معظم أفراد الجيش السعودي من حملة البنادق، ولم يكن لشكسبير أي دخل بهم. وتحدَّثت الباحثة الكريمة في الباب الرابع من كتابها عن الميجر ديلي الذي أصبح مقيماً سياسياً في البحرين، أو الحاكم الفعلي لها على حد قولها «ص435». وقد بدأت الحديث عنه باقتباس قول السيدة جرترود بل عنه: «ساعد الميجر ديلي بمعاملته الفظة على إشعال نار الثورة في العراق». وقد اضطر إلى الهرب بالطائرة من مقر إدارته في الديوانية أمام تلك الثورة. فوصل إلى البحرين عام 1921م. ومع وجود بذور الفتنة التي خلَّفها سلفه ديكسون، وصلاحيات قانون المستعمرات، الذي أعطاه سلطة شبه مطلقة، نجح الهارب من العراق في إشعال الفتنة في البحرين. وتجاوزت تدخلاته في جميع شؤونها الحدود بحيث وصلت إلى عزل حاكمها، الشيخ عيسى، عن الحكم، وحديث الباحثة الكريمة عن كل ذلك حديث مستفيض موثَّق. وكان ديلي - ومن وراءه حكومة الهند البريطانية لا يطيق أن يرى معارضاً لسياسته في البحرين، ومن بين من وجه إليهم سهامه أرباب القلم. وكان من هؤلاء حافظ وهبة أو الملا حافظ كما يسمَّى في السجلات البريطانية الذي كان مديراً لمدرسة الهداية الخليفية بين عامي 1920 و1922م. وكان أحد المتهمين بالوطنية ومعاداة الإنجليز. وكان دوره مخالفاً للسياسة البريطانية ودوائرها في الكويتوالبصرةوالبحرين»، واتهمه ديلي بأنه كتب مقالاً في صحيفة الأخبار القاهرية عن تدخلات ذلك المقيم في إدارة البلاد وأمورها الداخلية، فمنعه من العودة إليها. وكان مما يلفت النظر في سياسة ديلي إضافة إلى إشعاله نار الفتنة بين أهل البحرين ما قالته الباحثة الكريمة «ص611» من أنه لم يقتنع بصلاحيتهم للخدمة في الشرطة؛ مدَّعياً افتقادهم لروح الانضباط العسكري. والحقيقة أنه لجأ إلى غيرهم من الأجانب لضمان ولائهم. فعيِّن في بداية الأمر فُرساً، ولما رأى انحيازهم لبني جلدتهم في حادثة السوق حين اشتبكوا مع النجديين وضع بدلاً منهم فرقة من البلوش والهنود. وقد اختتمت الباحثة الكريمة الباب الرابع، الذي تحدَّثت فيه عن الميجر ديلي وأعماله في البحرين، بإيراد صور من الوثائق المتصلة بتلك الأعمال؛ مبتدئة بإيراد بيتين في رثاء الشيخ عيسى، رحمه الله، هما: سأماً أظنك قد ثويت بحفرة تشكو همومك في مكان خالِ أطبقت منك الجفن في إطباقها كيلا ترى عيناك حال أوال ومن تلك الوثائق ثلاث رسائل من الملك عبدالعزيز، رحمه الله إلى المقدّم نوكس بشأن حادثة السوق، أو الاشتباكات بين نجديين وفُرْس. ولا يسع كاتب هذه السطور إلا أن يختتم حديثه عن كتاب الباحثة الكريمة، ميّ الخليفة، بشكرها على ما قامت به من جهد، وتكرار ما سبق أن عبَّر عنه من رجاء بأن يكثر الله من مثيلاتها.