شهدت العمارة العربية المعاصرة مع مطلع الثمانينيات من القرن العشرين نشاطاً معمارياً فكرياً وعملياً ملحوظاً كان نتيجة لفترة ما بين الحرب العالمية الثانية حتى أواخر السبعينيات، وكان أبرز ما تميزت به هذه الفترة هو ظهور العديد من اعلام العمارة العربية المعاصرة الذين تركوا منذئذ بصماتهم الواضحة على طول ارجاء الوطن العربي الممتد. ولعل ما يربط هؤلاء المعماريين رغم اختلاف مواقعهم الجغرافية هو منهجهم المتمثل بالتزام مدرسة فكرية قوامها التوفيق بين الاصالة والمعاصرة، وتبني التراث كاطار يحاولون من خلاله التجديد وبعث الحياة في القيم الموروثة من الماضي والتي تتزاحم والعديد من تداخلات (الآخر) التي تسللت عبر مجموعة من العوامل منها الاستعمار والاستشراق. وحري بنا بداية ان نلقي نظرة عجلى على ما كانت عليه العمارة العربية منذ مطلع القرن وقبل ظهور هذه الفئة من المعماريين. فماذا كانت ابرز مميزات العمارة العربية مع مطلع القرن العشرين، وما هي المراحل التي مرت بها؟ مرت العمارة العربية مع مطلع القرن العشرين بالمراحل التالية التي صاغت معالمها وهي: اولا، مرحلة الاحلال وادخال النمط البديل: وهذه المرحلة كانت نتيجة قرارات سياسية بالدرجة الاولى، وظهرت بوضوح في مدن شمال افريقيا بخاصة والتي كانت تتميز بغنى مخزونها التراثي المعماري كالقاهرة وفاس ومكناس وتونس وغيرها. وقد عانت هذه المدن منذ بداية هذه المرحلة والتي تختلف من مدينة لاخرى حسب تاريخها السياسي من دخول انماط منافسة إلى جانب الموروث التراثي المعماري. ففي حالة القاهرة فقد تم ادخال نمط تخطيطي غربي اولا من قبل الخديوي اسماعيل - والذي كان معجبا بنمط تخطيط باريس - وذلك من خلال (البوليفاردز) أو الشوارع المتسعة التي تلتقي في ميدان واحد في نهاياتها. أما المرحلة الثانية التي مرت بها العمارة العربية في القرن العشرين فهي: مرحلة العولمة وظهور النموذج الذي يمكن تطبيقه في اي مكان وزمان. وهذه المرحلة بدأت بعد الحرب العالمية الثانية وتميزت العمارة في هذه الفترة باستعمال مواد انشائية كانت نتيجة للتطورالصناعي في الغرب واكتشاف الخرسانة المسلحة كمادة انشائية يمكن تحضير خلطتها في أي مكان ودون انتمائها لهوية ثقافية أو حضارية بعينها دون أخرى، ولذا فقد عكست العمارة في هذه الفترة قدرات المادة الانشائية الجديدة، فظهرت الفتحات الافقية وسادت ناطحات السحاب من المباني العمودية وغيرها من مظاهر هذا النظام العمراني الجديد. أما المرحلة الثالثة وهي موضوعنا هنا فهي مرحلة النهضة المعمارية الفكرية المعاصرة: وقد بدأت مع منتصف السبعينيات مع ظهور تيار من المعماريين الذين أسهموا في العمارة العربية والفكر المعماري بشكل فاعل، وأداروا دفة الخطاب المعماري العربي إلى وجهة جديدة، وقد تزامنت هذه الفترة مع الانفتاح الفكري ضمن قطاع التعليم المعماري مع العديد من رواد العمارة المحليين والعالميين سواء على مستوى النظرية أم على مستوى التطبيق. ولعل أبرز العوامل التي أثرت في تسارع تبلور هذه المرحلة الثالثة كان اكتشاف النفط في دول الخليج العربي والذي أحدث تغييرات مهمة اجتماعية وثقافية وفيزيائية حسية انعكست جميعا على الفكر والعمل المعماري، فعلى مستوى التغييرات الاجتماعية احدثت ثورة النفط تغييرات جمة في الطبقات الاجتماعية في الوطن العربي بعامة وادت إلى ظهور طبقات اجتماعية لم يعهدها المجتمع العربي ارتبط ظهورها بالعمالة النفطية وانجذاب العديد من العرب من الدول غير النفطية للعمل في الدول المنتجة للنفط. وهذا بدوره انعكس على النواحي الاقتصادية للعمارة في مواطنهم ايجابيا. يضاف إلى ذلك فان ثورة النفط كان لا بد من ان يواكبها نهضة عمرانية مما ادى إلى ضرورة ارسال البعثات العلمية للدراسة وكذلك من الاستعانة بخبرات المعماريين من الدول المجاورة، كل هذه العوامل ادت إلى تنامي تيار من المفكرين المعماريين حيث استجدت مواضيع معمارية اثارت اطروحات تستدعي مراجعة مفاهيم معمارية وأنماط من المباني لم تعهدها العمارة العربية التقليدية من قبل والتي كانت نتاجا للتطور الصناعي، وهذا أدى إلى تبلور فئة من المعماريين الذين يعتبروا رواد هذه المرحلة. وأما الوجه العمراني الذي تميزت به العمارة في هذه الفترة، فإنها تمتاز في مرحلة ما بعد الثمانينيات بانها تراوح بين مزيج غريب ما بين المراحل الثلاث جميعا. فإن طالعت اية مدينة عربية رئيسة كالقاهرة أو الرياض أو الكويت أو تونس أو عمان بالاردن أو القدس أو بيروت أو غيرها فانك ترى اخلاطا متنافرة من المباني على مستوى العمارة وأنماطا متباينة على مستوى التخطيط، إذ أن كلا من هذه المدن وغيرها تحتوي على قلب تاريخي أو تراثي من حيث التخطيط وأيضا من حيث النمط المعماري والذي ينتمي لما قبل المرحلة الاولى، وكذلك على مبانٍ وأنماط تخطيطية (مستوردة) تعود للمرحلة الاولى حيث تم تبني نماذج وأنماط (احلال بديلة) من قبل السياسيين وصانعي القرار كما ذكر أعلاه،. أما النموذج الآخر فينتمي للفترة الثانية ويمتد فيشمل الفترة الثالثة أيضا حيث يحتوي على نماذج عالمية من الأبنية وأنماط التخطيط العمراني التابعة لنظريات التخطيط الحديثة. أما النموذج الآخر المستحدث والذي ينتمي للمرحلة الثالثة ابان ظهور الفئة من رواد المعماريين يضيف مسحة من الارباك والتنوع للخليط الموجود اصلا حيث يراوح بين النموذج التراثي من جهة وبين النموذج العالمي من جهة أخرى. وهكذا اصبحت المدن العربية مع مطلع الثمانينيات وكأنها مهرجانا معماريا متباينا لانماط المباني غير المتجانسة أما طابعا أو كمحتوى ومضمون فكري ثقافي. وعلى الرغم من المحاولات التي يقوم بها أبرز رواد العمارة العربية المعاصرة في الاجتهاد والاسهام بشكل ايجابي في البيئة المبنية على طول ارجاء الوطن العربي سواء من خلال المباني أو من خلال مشاريع التطوير الحضري، الا ان هذه المحاولات لم تضف الكثير للموجود حسيا بل لعلها قد اضافت إلى الفكر المعماري أكثر من اسهامها في المحتوى الفيزيائي الحسي. ومن ناحية اخرى فقد اضافت الكثير على المستوى الفردي الشخصي لهؤلاء المعماريين من المردود الاقتصادي والصيت الشخصي. وايا ما كان الناتج فان العمارة العربية المعاصرة ما بعد الثمانينيات ما تزال في طور عدم استقرار وما تزال في حوار ما بين الماضي وما بين معطيات الحاضر في اطار الموروث العمراني من جميع المراحل السابقة، فماذا سيكون عليه حال العمارة العربية المعاصرة مع مطلع هذا القرن ومع ما يستجد من معطيات القرن الذي بدأ وبخاصة مع بداية تبلور تيار الجيل الجديد الذي يشكل ما يمكن ان نطلق عليه (تيار التعليم المعماري المعاصر) والذي يشكل زخما وافرا، فماذا سيكون اسهامه وكيف تكون مداخلته؟ (*) دكتوراة نظرية العمارة/جامعة لندن