لشعر حسن عبدالله القرشي نكهة خاصة، وعلى الرغم من انه ينتمي إلى جيل الرومانسيين الأوَل من شعراء المملكة العربية السعودية فقد ظل يواكب الحركة الشعرية العربية الحديثة، ولعل فيما ذهب إليه الدكتور عبدالله المعيقل من انه على الرغم من كون تجربة القرشي في شعر التفعيلة لا تشكل سوى الجزء الأقل في إنتاجه الشعري فإنه يبدو اكثر تميزاً في هذه التجربة عن شعره العمودي، وذلك لأن صوته في موضوعات الشعر المألوفة كالغزل تنافسه أصوات عديدة في الشعر العربي بينما يظل شعره في قصيدة التفعيلة ذا وقع خاص، على ان اللافت في شعر حسن عبدالله القرشي النزعات الوجدانية العميقة التي نلمحها في بواكير قصائده متجذرة في منابع شعره، ولعل قصيدته «ترنيمة قلب» وهي من تراثه المبكر اكبر دليل على ذلك حيث يشكِّل معجمه فيها من حقول دلالية راسخة في قاموس الرومانسيين العرب الكبار إذ يجمع فيها بين شفافية العبارة المكتنزة بطاقة وجدانية هائلة ذات ظلال نفسية وارفة. ومرد ذلك إلى ظروف نشأة الشاعر الذي يشير إلى انه فتح عينيه على عالم الشعر ذلك العالم السحري في شوق فارط ونشوة مبهورة كما يقول، وكان حماسه الشديد يتمثل في قوله: أريد ان اتكلم في المهد، اريد ان اقدم إنتاجا ناضجا مشحونا بالحيوية ولقطات الفن المبتكرة.. اريد ان اكون شاعراً يُشار إليه بالبنان. وكان كغيره من الرومانسيين الحالمين «يتيه خياله في أودية الغربة ويسدد بصره في المجهول شُحذت عاطفته بوفاة والده الشاب وهو في سن مبكرة لمّا يصلب عوده بعد، لذلك نجده يرثي والده متحدثاً عما خلفه بأعماقه من جرح وما فجره في قلبه من ينابيع الشجن. ولم تكن رومانسية القرشي عاطفة مسطّحة أو وجداناً ضحلاً بل كان يتكئ على ثقافة غزيرة تراثية المنبع عصرية الأفق تضرب بحذافيرها لتلامس مذخور الجاحظ وكنوز الشعر العربي القديم في الأغاني والكامل ودواوين القدامى والمحدثين من الشعراء إلى الدرجة التي يقول فيها «أحسب ان مكتبتي حاليا ولا اقصد المبالغة لا ينقصها أي ديوان شعري قديم او حديث، ويقول: لقد حفظت الكثير من شعر شعراء المعلقات المعروفين ثم كثيراً من قصائد الشعراء العرب في عصريه الأموي والعباسي وأعجبت بالموسيقى الشعرية التي تترقرق في شعر البحتري.. وتركز اعجابي في الشاعر الخالد ابي الطيب المتنبي وحفظت معظم ديوانه، واعجبت بشعر تلميذه المخلص لمدرسته «الشريف الرضي» ويشير إلى انه درس لشعراء العصور المتأخرة كالأبيوردي والتعاويذي والصوفيين كالوردي وابن الفارض والبوصيري، ويتحدثون عن قراءاته في شعر شعراء النهضة والشعرر المهجري ومواكبته لمؤلفات العقاد والمازني والزيات، واطلاعه على تراث علي محمود طه واحمد رامي وناجي وهم من المع الشعراء الرومانسيين العرب ويتحدث عن اعجابه بمحمود حسن اسماعيل وصداقته له وبأبي القاسم الشابي ولم يكن ينقصه الاطلاع على بعض ما ترجم من روائع الأدب الغربي لاوسكار وايلد وتوماس هاردي وبرنارد شو واليوت وسانت بيف وفولتين ورامبو وبودلير وفيكتور هوجو ولامرتين وجان جاك روسو وسارتر وتولستوي ودوستوفيسكي وجوركي واقبال وطاغور والفردوسي والخيام. من هنا كانت هذه الثقافة العريضة أساساً لمشروع شاعر وجداني رحب الأفق شاسع العمق، يمكن أن يكون تجسيداً أصيلاً لاتجاه شعري اصيل في الأدب المحلي بعيدا عن الادعاء وفطنة المبالغة ومنزلق التزلف، تتجلى رؤيته في تعريفه للشعر بأنه الإنسان بآفاقه البعيدة ورؤاه واحلامه وفكره وبصيرته ومعطياته بأدق شمولها وابعد آحادها ولعل من المفيد ان نتوقف عند بعض قصائده، فهو وان كان رومانسياً حالماً فإن للمناسبات في شعره نصيباً، شعر والمناسبة شديد الحضور لدى الاحيائيين، وإذا كانت المناسبة ذات طابع غيري عام، والرومانسية ذاتية وجدانية، فإن حسن عبدالله القرشي بحكم تكوينه الثقافي وتجربته الطويلة العميقة كان الأقدر على تطويع المناسبة للهم الخاص، وتحويلها إلى تجربة لاتفتقد حرارة العمق الذاتي الخالص، فقصيدته «أمة العرب افيقي» التي ألقاها في إحدى المهرجانات العربية وأعدت خصيصاً لهذه المناسبة استهلها بما يليق بمنابر المهرجانات من صخب الجهارة وعلو النبرة، ولكن ذلك لم يحجب احاسيسه الشفيفة ونبضه الداخلي فراح يغني لفلسطين، غير اننا رغم ذلك نجده اكثر استجابة لمعطيات اللحظة، إذ ينفصل الموضوع عن الذات فيتأمله الشاعر تأملاً لا يتجاوز تخومه المنطقية رغم امتياحه من معين المعجم الوجداني الخالص، فلا نلمح ذلك المزج بين الذات والموضوع حيث يخلع الشاعر احاسيسه على الطبيعة فيتوحد بها ويجعلها ناطقة باسمه ولا يتماهى في الحدث فيصبح جزءاً منه، بل يظل القارئ قادراً على ان يلمح المساحة الفاصلة بين الذات والموضوع، فالتعددية سيد الموقف والمعالجة تلمس الاطار الخارجي المألوف ولا تسري في نسغ عروقه او تتدفق في شرايينه، فهو حين يخاطب الفدائي الذي ظل مهموماً به في كثير من قصائده، يصفه وصفاً خارجياً في جملة من التقارير التي تعبر عن اعجابه به وتفاعله معه فهو المارد والعملاق والجبار والملك الذي يقتحم الهول والشهيد الحي، صعقة الرعد واصرار الفضاء، ولكنه يظل الموضوع ولا يتحول إلى مكوّن ينتمي إلى ذاتية التجربة وخصوصيتها ولو قارنتها بما قاله عبدالرحيم محمود وإبراهيم طوقان لوجدت ان هناك فارقا جوهرياً يتمثل في ان حسن عبدالله القرشي في معالجته لهذا الموضوع كان يتعامل مع معان وصفات عادية بينما كان الشاعران السابقان يتعاملان مع تفاصيل حركية ومع مشاهد حسية، ففي حين يقول القرشي: الفدائي وما أروعه ذلك المارد عملاق الاباء رفض الذل غدا معجزة البطولات لها اضفى رداء نجد الشاعر عبدالرحيم محمود يقول: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى متقمصاً شخصية الشهيد متماهياً فيه متوحداً معه جاعلاً من سلوكه تجربة خاصة به. كذلك فإن الشاعر إبراهيم طوقان يقول: عبس الخطيب فابتسم وطغى الهول فاقتحم رابط الجاش والنهى ثابت القلب والقدم لم يبال الأذى ولم يثنه طارق الألم.. الخ فهنا يصطنع الشاعر اسلوبا سردياً مشهدياً ليتخلص من عمومية الطرح وتقريريته. ولكن حسن عبدالله القرشي رغم نزوعه إلى التقرير والتعميم يلوذ بغنائية حميمة تفيض فتطغى على التقرير، وذلك حين يتمرد على التقرير باستفهام يهز به يقين الاشياء ويكسر من خلاله جمود الخبر: الشهيد الحي فينا ابداً من يماريه انتقاماً أو ولاء قد امات الموت في وثبته صعقة الرعد واصرار القضاء وهكذا ينغرس غصن اخضرفي حقل الوجدانية الشعرية ينأى عن جفاف التقرير وسكونه. ** اما الصيغ الإنشائية فتتراوح بين النداء والاستفهام والأمر ولكنها تظل محدودة لذا قيست بالصيغ الأخرى، فالمقام مقام تأمل ونظر واستبصار ولا نستطيع ان نغفل، اتكاء الشاعر على الكنايات والصور القريبة، ومن ثم المصادر التي تدل على معان مطلقة، ولكن ذلك لا يقدح في وجدانيته، بل ان المقام يدعو إلى البسط والتوضيح لرؤية القرشي لطبيعة الشاعر وفهمه لوضعه، ولابد ان نلاحظ انه لم يتحدث عن دور الشاعر في استاذية وتقرير، بل عبر عن تجربة الشاعر وعلاقاته وهذا فارق جوهري بين الشاعر الكلاسيكي الذي يقرر ويعلم، والشاعر الرومانسي الذي يعبّر ويبوح. وليس من شك في انه في شعر التفعيلة كان أقرب إلى الوجدانيين ففي قصيدته «غريب بأوطان كل العروبة» يتجلى «الانكسار» في أعمق صورة وفي عمق يتجاوز التعبير المباشر في نجوى ذاتية عميقة وشجية، فالشاعر يحاور ذاته ويناجيها في همس: غارق انت حتى الثمالة تنقر حب العصافير في القيظ مرتهنا للسراب المهين وأهم ملاحظة هي التحول في منهج التشكيل من الالتزام بالسياق المألوف في التعبير لدى المحافظين إلى الانحراف عن هذا السياق وكسر انساقه التعبيرية، فليس ثمة صورة بالمعنى التقليدي والانتقال من الجهر إلى الهمس، ثمة معادل جمالي فني استعاري بدلا من المضمون الذي يصل إلينا في احسن الأحوال عبر الكتابة أو الصورة الجزئية القريبة ثمة أسئلة تثيرها القصيدة وليس هناك معنى جاهز يقدم. غارق في ماذا.. هناك ما يستوقفنا ويثير الدهشة فينا: كيف ينقر الشاعر حب العصافير في القيظ مرتهنا للسراب؟؟، صحيح ان الشاعر لا يلبث ان يستخدم مفتاحاً تعبيرياً كفيلاً بفض مقاليد التعبيرات الاستعارية ممثلا في قوله: أنت الغريب بأوطان كل العروبة، وثمة لازمة تتكرر في المبتدأ والختام تغلق القصيدة على نسق دائري، ولكنها مع ذلك تظل قادرة على البث المتصل إننا نعثر على صيغ تشكيلية جديدة تصوغ الاحساس بالغربة وتصور ازمة الصراع مع الذات والآخر وتتشبث بالصور الكونية والمفردات الرومانسية. ** إن الشاعر الذي بدأ مشواره الشعري عام 1949 متزامنا مع المنعطف التاريخي الحاد «نكبة فلسطين» حيث أصدر ديوانه بسمات ملونة، ظل دؤوباً على تطوير أدائه عبر رحلته الأدبية الممتدة فكان الأمس الضائع «1957» وسوزان «1963» و«ألحان منتحرة» «1964» و«نداء البعاد» 1964 والنغم الأزرق «1961» وبحيرة العطش 1967، ولن يضيع الغد، وفلسطين وكبرياء الجرح 1970 وزحام الأشواق 1972 وعندما تحترق القناديل 1973.. إلخ. وإذا حاولنا استنطاق الدلالة في عناوين الدواوين نجد انها ذات طابع رومانسي تارة ورمزي تارة أخرى «النغم الأزرق» وذات توجه حديث فيه شيء من الغموض «أطياف من رماد القرية» وإذا دل ذلك على شيء فإنما يدل على ثراء التجربة الشعرية وتحولاتها وشمولها. إن حسن عبدالله القرشي يلخص كثيراً من معالم تطور التجربة الشعرية في المملكة ويصلح نموذجاً لدراسة العديد من سماتها.