له صفة النهر حينما يتدفَّق وليس بنهر، وله صفة النجم حينما يتألَّق وليس بنجم، وله صفة الغصن حينما يتأنَّق وليس بغصن، وله صفة البحر حينما يتعمَّق وليس ببحر، كائن عجيب حقاً، كالطائر إذا حلَّق وليس بطائر وكالفجر إذا أشرف وليس بفجر، وكالجذع إذا أعذق وليس بجذع، وكالمطر إذا أغدق وليس بمطر. كائن عجيب حقاً، واهن الجسم نحيل العود ولكنه يهزُّ إذا تحرَّك أعتى الرجال، ويغيِّر - بإرادة الله - الأحوال، ويطرق بقوة كل مجال. يحسن الإقامة إذا أقام، ويحسن إذا رحل الترحال، تخفق على حركته الرشيقة القلوب، وتطرب لألحان صريره الآذان، بليغ وليس له لسان شامخ وليس له بنيان، يحرِّك الكوامن ويثير الأشجان. كائن عجيب حقاً.. إذا هدأ كان مثالاً للهدوء، وإذا هدر كان رمزاً للهدير، ومع ذلك فهو ليس بجامد برغم جموده، وليس بمتحرِّك برغم حركته، تراه ساكناً ليس به حراك، فإذا وُجِّه ثغره إلى ساحته المفضَّلة انطلق من قيود سكونه، وأطلق الأعاجيب من جنونه وفنونه،وأعجب وطرب، وأثار وأغضب. كائن عجيب حقاً.. ولو لم يكن عجيباً لما أقسم به المولى عز وجل فقال:{ن وّالًقّلّمٌ وّمّا يّسًطٍرٍونّ 1} [القلم: 1]. وهذا القلم الذي أقسم به المولى هو الرمز الأعلى، والمخلوق الأعجب على حسب ما ورد من وصفه في السنَّة المطهَّرة. هو سيِّد الأقلام التي، ذكرها الله تعالى بالإشارة إليها في سورة أخرى فقال:{اقًرّأً وّرّبٍَكّ الأّكًرّمٍ 3الذٌي عّلَّمّ بٌالًقّلّمٌ 4عّلَّمّ الإنسّانّ مّا لّمً يّعًلّمً 5} [العلق: 5] روى ابن أبي حاتم عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: دعاني أبي حين حضره الموت فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال رب وما أكتب؟ قال: أكتب المقدَّر، وما هو كائن إلى الأبد». أوَليس القلم بعد هذا كلِّه كائناً عجيباً؟ أوَليس جديراً بأن تعرف الأنامل حينما تضمُّه ماذا تضم، وأن يعرف الكاتب حين يرحل به على الأوراق بماذا يرحل؟؟ أوَ ليس القلم جديراً بأن نحترم دَفْقَهُ الجميل فما ُنجريه إلا بخير، ولا نسطِّر به إلا كلَّ حسنٍ من اللفظ وجميل من المعنى، وسليمٍ من الفكر؟ بهذا الكائن العجيب أقابلكم - أيها الأحبَّة القراء - في هذه المساحة الخضراء، من جريدة «الجزيرة» الغراء، كلَّ يومٍ - بإذن الله - من السبت إلى الأربعاء. إنه دفق القلم، بكلِّ ما له من فنونٍ وجنون، وبكلِّ ما فيه من حركة وسكون، وبكلِّ ما تحمله ريشته الأنيقة الرشيقة من سحابٍ هتون، أزفُّه إليكم محمَّلاً بمشاعر المودَّة، معطَّراً بشذا الكلمة الطيِّبة، مضيئاً بإشراقة الفكرة النبيلة، والثقافة الأصيلة.. هل أستطيع ذلك؟ سأحاول، وسأبذل الجهد ولن أقف مُغْلَق الذهن أمام نقدكم البنَّاء، وتوجيهكم الصادق، ونصيحتكم الخالصة. أرجو أن يتحوَّل دَفْقُ هذا القلم إلى نهر رقراق يجري مني إليكم، أو منكم إليَّ لنحوِّل ضفتيه إلى رياضٍ غنَّاء - بإذن الله تعالى -. إشارة: عقول المفكرين وأقدارهم معلَّقة بأسنةِ أقلامهم.