بدلاً من الصراع دعوة للتمازج الحضاري. ليس ثمة اتفاق بين هذين المصطلحين الحضارة والثقافة ولكن فيما يبدو لي أن الثقافة هي عبارة عن فكرة تنقلها وتتوسع بها هذه الحضارة.. والحضارة هي كذلك الوسيلة والأداة التي تنشر وتنقل هذه الثقافة وهي الثوب واللباس الذي ترتديه وتتزين به هذه الفكرة.. الثقافة. إذاً كل حضارة تنطلق من ثقافة وفكره بل إن هذه الثقافة هي التي تدفع وتسير هذه الحضارة وهي كذلك الوقود المحرك لهذه الوسائل «الحضارة» الغذاء الروحي لهذه الحضارة.. ولو عدنا إلى الماضي واستعرضنا الحضارات السالفة لوجدنا أن كل حضارة تنطلق وتسيَّر من قبل مشروع فكري وثقافي يكون هو بمثابة البذرة وتكون الحضارة هي الأرض المخصبة لهذه البذرة.. والعجيب والأمر الدقيق في هذين المصطلحين أنه لا بد من التوازن بينهما فإن ضعفت الفكرة وعجزت عن مد هذا الاتساع الحضاري وتغذيته بالروح ومدِّه بالدماء تعثرت المسيرة واختلت الثقافة وسقطت الحضارة.. فأحياناً تتضخم الحضارة وتبتعد عن الفكرة فيكون هناك أزمة ومعضلة وأحياناً أخرى تتضخم الفكرة وتعجز عن ايصالها وحملها الحضارة فتقف عند مرحلة الأزمة.. فالتوازن الحضاري مطلوب بين الوسيلة والبذرة التي هي الفكرة.. حتى لا يكون هناك اختلال ويتقدم المشروع وتشع الفكرة وتستقر الأمور ويتحقق الهدف هذا في المحتوى ومفهوم المصطلحين وهذا ليس الهدف الذي من أجله سقنا الكلمات علي خطوط هذا المقال.. ما نريد قوله هو أن الحضارة الغربية تقترب من الاختلال ومقبلة على السقوط لأنها الآن تفتقد للتوازن الحضاري فالمشروع الرأسمالي والفكرة التي يتحرك من خلالها الغرب تصل الآن إلى طريق مسدود وتعيش مرحلة الأزمة وقد يتعذر الخروج من هذه الأزمة لأن رجالها وفلاسفتها ومفكريها يقربونها إلى المرحلة الأخيرة وينتظرون لحظة التفجر فكما هو معروف أن المشروع الرأسمالي بدايته طفرة وأوسطه ركود وآخره كساد وفي الأخير مرحلة التفجر هكذا يقول ماركس وهذا ما نعيشه ونشاهده الآن.. كيف أن العالم تحول إلى بضاعة ومصدر اثراء للشركات المتربعة على عروش اقتصاد العالم وللتجار الصهاينة المسيطرين على ثروات الأرض والعالم.. العالم في العصر الرأسمالي تحول إلى سوق للبيع والعرض والشراء أصبحت الحياة فيه يابسة ناشفة نهمة همها البيع وحلمها وهدفها الكسب والثراء صحيح ان هناك حضارة.. وهناك تقدم ثقافي ورقي علمي ولكن الآلة الغربية تعمل دون توقف والمصنع الغربي ينتج ويصنع بلا قيود وبلا حدود.. عالم منبهر بما ينتج مشدوه لما وصل إليه من تقدم.. وهذه الحضارة وذلك العالم يتحركان ويكدحان بلا هدف منهجمهم وحياتهم يسيّرها العلم ويشرع لها العقل.. المشروع الغربي مشروع علمي صناعي بعيد كل البعد عن الجانب الروحي المعنوي الانساني حضارة الغرب ليست حضارة انسانية تنشر القيم وتعلم الأخلاق تبث الخير وتمنع الفساد والشر.. هي حضارة تنطلق من المسلمات الآتية: مسلمة ديكارت:« نجعل أنفسنا أسياد الطبيعة ومالكيها» أي أن تكون هناك سيطرة آلية على الطبيعة مجردة من أي غاية. مسلمة «هوب» الذي حدد العلاقات بين البشر « الانسان ذئب يهاجم أخاه الانسان» وهذه المسلمة نعيشها الآن في السوق وكيف تكوّن المصلحة المادية العلاقات بين البشر.. مسلمة «مارلو»: الذي ألَّه العقل: «أيها الانسان كن إلهاً بعقلك وسيد العناصر كلها».. هكذا تسير وتتحرك الحضارة الغربية رفض لكل قيمة ونهم بالوسيلة وبعد عن كل غاية.. العالم في ظل هذه الحضارة تقدم وتحضّر «وتعولم» ولكنه في نفس الوقت «ترأسمل» فالوسائل الحضارية التي نستمتع بها ونعيشها اليوم ودخلت إلى أعماق منازلنا وأصبحت جزءاً ضرورياً من أثاث منازلنا أفسدتها هذه الفكرة الشرسة والتي لا تعرف الرحمة «الرأسمالية» هذا الوحش المفترس الذي يغرز مخالبه في جسمنا وينهش في جسدنا. الحضارة الغربية بفكرها وفلسفتها وتقنيتها تعيش مرحلة الأزمة وتفتقد للتوازن الروحي والمادي كما يقول سادتها وعلماؤها وهي الآن تقف عند الطريق المسدود هناك شرخ وصدع كبير في جدار هذه الحضارة.. هناك الكثير من التصدع والشقوق في البناية الحضارية الغربية.. هناك هوّة وفجوة كبيرة يعجز العقل البشري الغربي أن يردمها ويسدها.. حروب طاحنة ودماء تجري وتسيل وأجساد وأشلاء ممزقة في كل مكان.. أمراض وفقر وقحط وجوع وأسلحة دمار تعصف وتدمر أمماً وشعوباً.. أزمات متتالية ومتلاحقة هي من افرازات هذا الاختلال الحضاري الغربي.. يجمع رواد وكبار حضارة «وثقافة اللامعنى» على بروز مأزق حضاري جاء نتيجة أن انسان الحيرة والقلق.. انسان لا يشبع في استهلاكه ويبحث عن الرفاهية بأمور يفتعلها ويصطنعها ولذلك أجاد «هايدكر» عميد فلاسفة القرن العشرين في وصف هذا حين قال: «إنه عصر يبدو كقصر شامخ في منظر كئيب، يعاين سادته من الأرق، والقلق ويقاسي خدامه من المرض والجهل والجوع». هذا التأليه «العقلي» والتفجر المعلوماتي والصناعي جاء نتيجة الضغط والاضطهاد «الكنسي»ان جاز التعبير الذي طارد العلماء والفلاسفة الغربيين في كل مكان بفهم وتعسف خاطئ وهو ان الدين يحارب ويمنع العقل.. فهذا الكبت جعل العقل الغربي بعد التحرر من قبضة الكنيسة يندفع في كل اتجاه لا يلوي علي شيء ولا يريد العودة مرة أخرى إلى سيطرة الكنيسة.. وما كان لهذا العقل القدرة علي التفلت من قبضة قديسي الكنائس لولا تأثر القديس «توما الأكويني بفلسفة ابن رشد وهي أن الوحي لا ينفي العقل لأن العقل في خدمة الوحي.. هذه الوصفة المبسطة جعلت الكنيسة تراجع أوراقها وتنظر في نفسها وتبسط الطريق لتحرر العقل.. وساعد قربها من الفلسفة والموروث الثقافي الإسلامي الأندلسي على التفهم والتعمق بهذا الموروث والمنهل المشع الذي لا ينضب.. ونحن لا نغفل دور الثقافات الأخرى وتأثيرها على هذه الحضارة الأوروبية مثل اللاتينية والاغريقية ولكنها أفادتها في اطار وفي جانب واحد وعتمتها في أطر وجوانب أخرى أما بالنسبة للحضارة الإسلامية فهي حلت الاشكال وأنارت وأضاءت الطريق أمام العقل الغربي للتحرك فانبثق هذا العلم.. إذاً الثقافة الغربية استفادت الفائدة الكبيرة من الحضارة والثقافة الإسلامية فالتركة الإسلامية والموروث الثقافي الإسلامي أصبح مصدر اشعاع لهذه الحضارة وكما أسلفنا بأن الثقافة الإسلامية المنتشرة في الأندلس آنذاك استطاعت أن تحل اشكال وأزمات الحضارة الغربية مثلما فعل ابن رشد مع القديس «توما» الأكويني.. وبما أن الغرب شرب من ينابيع الثقافة الإسلامية الصافية وأخذ بذرة من حقولها واستنبتها في تربته فتفلقت البذرة عن هذه الحضارة المبهرة وعن هذا الرقي العلمي والتقني الكبير المتقدم وهذا يقر ويعترف به علماؤهم وفلاسفتهم فلو لا الحضارة الإسلامية لما كان هناك حضارة غربية وهكذا الحياة فكل ثقافة وحضارة تستفيد من الحضارات المحيطة أو السابقة والمتقدمة عليها.. وبما أن الغرب بحضارته الآن يعيش مرحلة الأزمة وخاصة في الجانب الروحاني والحياتي والمعنوي فلماذا لا يكون هناك تمازج بين الحضارتين الإسلامية والغربية الحضارة الإسلامية تقدم مشروعها الحياتي الانساني.. والحضارة الغربية تقدم مشروعها التقني لماذا لا نقدم نحن الإسلاميين هذا المشروع ونطرحه في المحافل الدولية.. لماذا لا نبين للغرب اختلال واقتراب سقوط حضارتهم واغفالها الكبير للجانب الانساني وعدم احترامه.. وندلي بأطروحاتنا وبديلنا الحياتي الانساني.. المشرّع من السماء والمنزّل رحمة للعباد وهو هذا الدين.. هذا المنهج الانساني الذي ينظم حياة الانسان ويحترمها ويرقى بها عن جميع ما يسف ويدنو بها.. هذا النظام الآلهي الذي يجدول حياتهم ويسيّر أمورهم ويضع أمامهم المخطط الروحاني الذي ما ان طبقوه وتمسكوا به لن يضلوا وستمتلئ بالسعادة والراحة والأمان أوطانهم ومجتمعاتهم.. لماذا لا نظهر ونبين للغرب ايجابيات وجمال حضارتنا.. الجانب الديني وهو أساس ومرتكز ثقافتنا وحضارتنا.. لماذا لا نحاول أن نقرب الغرب أكثر لحضارتنا ونقول لهم إذا كانت حضارتكم اهتمت بالشكل والجسم والجسد فإن حضارتنا وديننا لم يعيرا «الجسد» أدنى اهتمام بل حرص الإله على تزكية وتنقية هذه النفس هذا المخلوق المعنوي الذي لا يدركه ولا يستطيع تحسسه ولمسه البشر.. ركز وتعمق ديننا في هذه النفس ووضع الأنظمة والقوانين وأعطى القيم والمبادئ والمفاهيم وحث على الأخلاق والآداب التي ترقى وتسمو بها إلى الأعلى وعدم النزول والنظر إلى الأسفل خاطب الله سبحانه وتعالى هذه النفس في القرآن بخطابات كثيرة {وّنّفًسُ وّمّا سّوَّاهّا(7) فّأّلًهّمّهّا فٍجٍورّهّا وّتّقًوّاهّا (8)} [الشمس: 8] {كٍلٍَ نّفًسُ ذّائٌقّةٍ پًمّوًتٌ ثٍمَّ إلّيًنّا تٍرًجّعٍونّ (57)} [العنكبوت: 57] {يّا أّيَّتٍهّا پنَّفًسٍ پًمٍطًمّئٌنَّةٍ (27)\رًجٌعٌي إلّى" رّبٌَكٌ رّاضٌيّةْ مَّرًضٌيَّةْ (28)} [الفجر: 27] أما الجسم الجسد فلم يخاطبه القرآن إلا بآيات معدودة آية أو آيتين{وّإذّا رّأّيًتّهٍمً تٍعًجٌبٍكّ أّجًسّامٍهٍمً وّإن يّقٍولٍوا تّسًمّعً لٌقّوًلٌهٌمً كّأّنَّهٍمً خٍشٍبِ مٍَسّنَّدّةِ (4)} [المنافقون: 4] {فّأّخًرّجّ لّهٍمً عٌجًلاْ جّسّدْا لَّهٍ خٍوّارِ (88)} [طه: 88]. الحضارة الغربية فشلت فشلاً كبيراً في الجانب المعنوي والنفسي.. لم تستطع هذه الحضارة أن توفر الحياة وتمنح الراحة لأبنائها فلذلك عندما جفت النفوس وخويت وأصبح القلق والاكتئاب ينخرها من الداخل.. حاولت أن تبث الحياة وتهدي الراحة لأبنائها عن طريق هذه الحبوب المهدئة ولكن هيهات {وّمّن يّعًشٍ عّن ذٌكًرٌ پرَّحًمّنٌ نٍقّيٌَضً لّهٍ شّيًطّانْا فّهٍوّ لّهٍ قّرٌينِ (36)} [الزخرف: 36] {وّمّنً أّعًرّضّ عّن ذٌكًرٌي فّإنَّ لّهٍ مّعٌيشّةْ ضّنكْا وّنّحًشٍرٍهٍ يّوًمّ پًقٌيّامّةٌ أّعًمّى" (124)} [طه: 124] {وّمّن يٍرٌدً أّن يٍضٌلَّهٍ يّجًعّلً صّدًرّهٍ ضّيٌَقْا حّرّجْا كّأّّنَّمّا يّصَّعَّدٍ فٌي پسَّمّاءٌ (125)} [الأنعام: 125] كل النظريات النفسية والعلماء النفسيون يقفون مذهولين أمام هذا المخلوق العجيب «النفس» ولم يستطيعوا أن يقدموا أو يؤخروا حولها سوى هذه الحبوب المسكنة المهدئة والعالم النفسي الذي انتج وأخرج نظرية «الانتحار» هو في النهاية انتحر.. وأخيراً فهذه النفس علمها عند خالقها وموجدها الله سبحانه وتعالى وهذا الدين هو حياتها وصحتها وراحتها وهذا القرآن هو أنسها وعلاجها وشفاؤها { قٍلً هٍوّ لٌلَّذٌينّ آمّنٍوا هٍدْى وّشٌفّاءِ (44)} [فصلت: 44] { أّلا بٌذٌكًرٌ پلَّهٌ تّطًمّئٌنٍَ پًقٍلٍوبٍ (28)} [الرعد: 28] { وّشٌفّاءِ لٌَمّا فٌي پصٍَدٍورٌ (57)} [يونس: 57] {وّعّنّتٌ پًوٍجٍوهٍ لٌلًحّيٌَ پًقّيٍَومٌ وّقّدً خّابّ مّنً حّمّلّ ظٍلًمْا (111)} [طه: 111] آيات كثيرة اهتمت بهذه النفس وطرق ووسائل علاجها وصلاحها ولذاتها وسعادتها.. وهذه النفس يسيطر عليها القلق ويغشاها الأرق وتضيق معيشتها إذا ابتعدت عن ذكر الله في الوقت نفسه تسعد وتفرح وتستلذ عندما تقترب من القرآن وتكثر من ذكر الله.. وفي النهاية.. عزيزي المثقف والكاتب وقبل ذلك العالم الرباني لماذا لا تعرض هذا المشروع الرباني في المنتديات واللقاءات والمحافل الدولية.. لماذا لا نجري حواراً مع مثقفي الحضارة الغريبة ونقدم لهم نوضح لهم قيمنا ومبادئنا ونعرفهم بالكثير من أحكامنا الشرعية.. ثم «الرقية الشرعية» لماذا لا نطرحها في اللقاءات ونبيّن لعلماء النفس الغربيين بأنها هي أنجح علاج للنفس البشرية بل هي الأصل وما سواها مهدئات ومسكنات.. أحبائي.. بدلاً من «صراع الحضارات» و« حوار الحضارات» قد يكون الأفضل هو «تمازج الحضارات» فإذا كان الغرب يملك ناصية التقنية والعلم فنحن أهل العلم الرباني وأمة الرسالة المحمدية ونملك وعندنا ثقافة «المعنى» وبين أيدينا كتاب ربنا وسنة نبينا فلماذا لا نرفع أصواتنا ونمد نداءنا ونقول للغرب «المادي» تعالوا فهنا «سر الحياة». خالد عبدالعزيز الحماد