1/2 ذلكم حديث مقتضب عن تحولات النقد القديم، وهي تحولات فرضتها المتغيرات العلمية والاجتماعية المحلية، وانتجتها الإرادة المستقلة، وأضفت عليها جهود المفسرين اللغويين وشرّاح الدواوين المهتمين بالفن واللفظ ما اكتشفته محاولاتهم المذهبية المتعصبة، أو تخصصاتهم النحوية والصرفية والبلاغية المعمقة، اضافة إلى تعالق البعض بما أفاء الله به على المسلمين من فيوض الحضارات، وبخاصة ما يتعلق بالنقد عند اليونان. وإذا كانت هناك ردة فعل غير عنيفة ازاء تحولات النقد على ضوء ما جاء في «كتاب الشعر» و«الخطابة» لأرسطو، فإن هنا ما يماثلها في مستهل العصر الحديث. فعندما بدت بوادر «حملة نابليون» علمياً وأدبياً ومسرحياً، أحست طائفة من الأدباء بالتحدي، فنهضوا لاستعادة التراث، وتكريس معارفه. تمثّل ذلك في مجال النقد بكتاب «الوسيلة الأدبية» للمرصفي، وفي مجال الشعر عند «البارودي» في ابداعه ومختاراته. وإذا كان «حسين المرصفي 1890م» و«حمزة فتح الله ت 1918م» يمثلان بدايات الاحيائيين في مجال النقد، فإن «المويلحي 1930» و«سيد علي المرصفي ت 1931م» يشكلان استمرارية الهم الاحيائي، ولكنه هم لم ينج من دخن النقد الأوربي والأمريكي الذي استوى على سوقه عند «مدرسة الديوان» و«جماعة أبوللو»، وكان تواصل كل الأطراف مع «المهجرين» مؤذناً بتحولات جذرية في الحركة النقدية، يضاف إلى جهود المدرستين جهود فردية ليست بأقل أثراً، ف«طه حسين» لم يكن منتميا لاحدى المدرستين، ومثلة «أحمد ضيف» و«محمد مندور» و«روحي الخالدي»، والثلاثة الأُول يمثلون «اللانسونية» في نزوعها التاريخي القائم على الأخذ بالروح العلمية والمزج بين الذوق والمعرفة، وإن جنح «مندور» إلى الواقعية الاشتراكية، واضعاً أسس النقد الماركسي، فيما جنح «الخالدي» إلى المنهج المقارن. والذين تلقفوا تحولات النقد الماركسي زامنهم آخرون تلقفوا فيوض النقد الانجليزي، الذي عبر إلى المشرق العربي من خلال استيعاب النقاد المعاصرين لأطروحات «صمويل كولردج ت 1834» و«زورث ت 1850» و«هازلت ت 1830» و«بيرسي شيلي ت 1822» وعند هؤلاء تغير مفهوم الشعر ووظيفته وعناصره ولغته وخياله وشكل القصيدة. وكل هذه الرؤى تشكِّل بدايات للتحولات الجذرية المقبولة إلى حدّ «ما» لأنها تؤسس للنقد الحديث. 2/2 ورواد النقد المعاصر ومؤسسوه يختلفون عن جيل الانطلاق، إذ يتفاوتون في استبطانهم للتراث وتمكنهم من المستجد، فالمؤسسون استقبلوا فيوض الطوارئ، وهم متضلعون من التراث، فيما لم تستخف الرواد، بوارق التجديد، ولكنها أضافت إلى معارفهم معارف، فكانوا الأقدر على وعي الطوارئ، وفهم مناحيه، والأمكن في التأسيس لحركة نقدية متفاعلة. أما الذين استخفهم المستجد، واستزلتهم مغرياته فهم الذين استقبلوا فيوضه، وهم فارغون من التراث، وأولئك لم يقدروا على فهمه، ولا على استثماره. وأمام فيوض المستجدات ظهرت ثلاث فئات: المشايعون. والهاربون. والمتفاعلون. ولكل موقف دركاته ودرجاته، فمن «المشايعين» من هو على شيء من التراث، وعلى شيء من الاقتدار، غير أن هذه الطائفة فضّلت المشايعة على التفاعل، وتجنت على الموروث. ومنهم من هو خالي الوفاض من التراث، وليس بقادر على استيعاب المستجد، وهذه الفئة تصدق عليها مقولة الناقد الفرنسي «تيبوديه» «النقد الحركي» المعتمد على الجدل العنيف الذي يقوده شباب ينطوون على رؤى غير أصيلة، فيها فجاجة وافتعال. وآخرون تلقوا فيوض المذاهب الغربية بلغاتها، وبعض هؤلاء أغرقوا في الاستغراب والتجني على التراث، وليس من شك أن طائفة منهم قدمت رؤية سليمة عما أخذت به من المذاهب الجديدة، ووفرت مناهج وآليات مفيدة، ولفتت الأنظار إلى قضايا مهمة، ولكنها أمعنت في الاغتراب. وبعض تحولات «المشايعين» استغرابية، لا تستجيب للذوائق، ولا تنهض بالحوائج، وغالب منجزها غربي جاء بلسان عربي ذي عوج وغير مبين، حتى لقد نفى بعض المستشرقين اهتمامه بالأدب العربي الحديث، لكونه أشبه بالبضاعة التي رُدت لأصحابها، لأن ما تكتبه هذه النوعية نقل مترجم. ويبلغ الاستغراب حده بالمشايعين الذين يعتمدون على المترجمات، ممن لا يحسنون اللغات، ولا يقرؤون النظريات بلغاتها الأصلية، وهم نقاد الصحافة. أما «الهاربون» إلى التراث، المحتمون به، المنقبون في بطونه عن البدائل، فهم الراحلون إليه في أزمنته، وليسوا الراحلين به إلى أزمنتهم، وهؤلاء يصادمون سنة الحياة القائمة على التحول المستمر، وهم بهروبهم الوجل لا يحسنون خدمة التراث، ولا يجيدون التفاعل مع المستجد، و«المشايعون» و«الهاربون» يسيئون ولا يحسنون، ولأن معطيات العصر مؤثرة ونافذة فإن رفضها سيجعل من المتأبي منتمياً إلى عالم قديم، واقعاً تحت تأثير عالم حديث، وفي هذا الوضع تستشري ظاهرة التمزق، وتلك سمة تمنع الافادة والاستفادة. وأما «المتفاعلون» فكالغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، وقد بدت بوادرهم في الأربعينيات والخمسينيات عند من وقفوا على مستجد الغرب، واستوعبوه، من أمثال «زكي مبارك» و«محمد غنيمي هلال»، بوصفهم مؤسسين للتطبيق والتنظير، وعلى أثرهم جاء «عز الدين اسماعيل» و«محمد عبدالمطلب» وآخرون ممن وفروا شيئاً من التوازن، وإن جنح بعضهم إلى الاغراق في الاستغراب، ولكنه اغراق المقتدر. وكل هذه المستويات لها وعليها، وتحولاتها ليست خالصة الاستجابة، ولكنها متفاوتة في الأهمية والمشروعية. ومع حضور هذه الفئات الثلاث وإلحاحها في تكريس الوجود، فإننا وفي ظل واقعنا أحوج ما نكون إلى الاستشراف والتلقي، وليس من حقنا التخلي عما نمتلك من تراث عريق وعميق وصالح للاسترجاع والتفعيل. كما أنه ليس من مصلحتنا أن نزور عما تفيض به الحضارات من حولنا. والراصدون بوعي يدركون أن هناك فرقاً شاسعاً بين التفاعل الواعي مع المستجد والاستسلام الطوعي المستخذي له، والذين يخلطون بين المفاهيم، إما أن يكونوا أغبياء أو متغابين. واشكالية المفهوم كنافق اليرابيع لكل من أعوزته الحجة وألجمه الدليل، ومع أن اختلاف المفاهيم قضية أزلية، إلا أن التعويل عليها لشرعنة التناقض مخل بالأهلية. 3/2 وإذا كنا نؤمن بمبدأ اختلاف المفاهيم، فإننا في الوقت نفسه لا نذهب مع الذين لا يضعون حداً لهذا الاختلاف. فمصطلح «الحداثة» مثلاً يراه البعض تجديداً فنياً، فيما يراه آخرون حيدة فكرية، هذا اختلاف حول فهم المقتضى يتسع له المصطلح من خلال مدلوله الوضعي، غير أن هناك مدلولاً اصطلاحياً تجاوز المدلول الوضعي، وأعطى مفهوماً تواضعياً. والحداثة بهذا التواضع مرفوضة، فيما هي مقبولة في تصورها من خلال الدلالة الوضعية، ولو أن المختلفين فضوا النزاع المفهوم، بحيث يباشر كل واحد تحديد مفهوم المصطلح عنده، لما وقعوا في الاختلاف، ولما امتد اختلافهم إلى التشكيك في الفكر والانتماء. على أن مجرد القول بالتجديد وحده لا يكفي، متى كانت الوثائق منسجمة مع حداثة الفكر. وقولنا عن مصطلح «الحداثة» مجرد مثل نظر به، للتدليل على الخلاف الممكن تلافيه. واستعراض التحولات النقدية في القرون الأولى يمكن استيعابها، إذ هي تحولات بطيئة واستجابية، فالمشهد يتفاعل من داخله وبأيدي نقاده الذين تحركهم الحاجة، وتوجههم البراعة الذاتية، أما مشاهد النقد الحديث فمختلفة جداً، لأنها في الغالب مسيرة لا مخيرة، ومحكومة لا مستقلة، وسريعة لا متأنية، ونقادها متلقون لا منتجون. كما أن المشهد النقدي عربياً واقليمياً لا يتوفر على ثقة بالنفس، والمتابع لحاضره يدرك أن واقعه غير مستقر، وغير عربي، فأجسام ذويه في المشرق، وأدمغتهم في المغرب، وجمهور الدارسين في الغرب يعودون برسائله إلينا، ولا يبلغون رسائلنا إليه، فهم عون له على الأمة لا عون لها عليه، على الرغم من قدرة الموروث، وتوفره على آليات ومذاهب قابلة للاستيعاب والتحول الطوعي، ولن يكون ما يحققه دون ما أنجزته التبعية المستحكمة المرتبطة بتحولات قسرية ليست من عند أنفسنا. ولن نحقق فاعلية متميزة حتى نسترجع ما للتراث من حقوق مهدورة، إذ لم يكن عقيماً ولا سكونياً ولا منغلقاً، ولو أحسنا الدمج بين الآليات والمناهج لكنا متوفرين على حركة نقدية لغوية وفنية لا تنازع، وإذ يملك التراث النقدي القدرة على التفاعل والاستيعاب فإن من الجنايات الاستغناء عنه. وما نتطلع إليه لا يحول دون استقبال المستجد، والتفاعل معه، وصبغه بالصبغة العربية التي تحد من الهيمنة. ولو عدنا إلى قراءة تراثنا لاستطعنا اكتشاف كوامنه، ولكن طائفة من المنفعلين لا الفاعلين ولت الأدبار مستقبلة فيوض الآخر. ولو أنهم حين استقبلوا المناهج اللغوية الغربية حانت منهم التفاتة إلى «نظرية اللغة في النقد العربي»، واستعادوا فيوض القول عن «نظرية النظم» لكان بالإمكان تأسيس نظرية نقدية لغوية لا تنازع. إن نقدنا الحديث غربي بلا ذات، كوصف «ريكور» الدارس «لشتراوس» بأنه «كانتيٌّ بلات ذات» والاشكالية التي لم يدرك خطورتها الأكثرون تعالقاً مع المستجد جهلهم أو تجاهلهم ارتباط المنهج بفكر الحضارة المنتجة، ودعوى تفريغ المناهج من محتواها تعذير وتبرير مردود. ومما يزيد الاشكالية تعقيداً «تسييس» الأدب و«أدلجته» و«التزامه الفكري»، وهذه الصيرورة مع ما تنطوي عليه من مزالق تقلل من فنية الفن. والمنهج النقدي الحديث مواكب لمهمات الأدب ورسالته في الحياة، ولأن الفلسفة الطاغية مادية بحتة، وهي جذر لكل المذاهب والمناهج فإن ذلك مؤذن بارتباط التحولات النقدية بالجذوز الفلسفية، والمشايعون «للبنيوية» على سبيل المثال لا يعرفون جذورها الفلسفية، وتخطيها من الفلسفة إلى اللغة، ومن اللغة إلى علم الاجتماع، ومنه إلى النقد، وشيوعها في كل العلوم لا يُخلصها من دخن الفلسفة المادية التي أنشئت لتكريس مقاصدها، وبعض مدعيها أخفقوا في الفهم وخذلهم الاجراء. 4/2 وعلى ضوء ذلك يظل المنهج النقدي مرتبطاً بطبيعة الفكر المنتج، ولكل منهج نظرية، وتحولات «نظرية الأدب» لا يمكن أن تكون في العصر الحديث كما هي في القرون الأولى، ذلك أنها في عصور الازدهار عربية إسلامية خالصة، وهي في العصر الحديث غربية النظرية والمنهج، ولما يكن التحول طبيعياً في ظل الاستعارة غير الواعية والجلب غير الحصيف. والمخل بأهلية التحولات النقدية ارتباطها بالخطاب السياسي الإعلامي، فالمد الماركسي إعلامي، ولما تتجذر مبادئه الفلسفية في الذهنية العامة، والمد الشيوعي الذي احتنك ذرية النقد الأدبي طرح الحتمية التاريخية. والمنهج التاريخي المتداول ذو انتماءات متباينة. لقد استهل النقد الحديث مشروعه في الدرس التاريخي، وتصور التاريخية لا يبعد النجعة، فالتراث يلم بالتاريخية التي قد لا تتسع للتكوينية ولا للحتمية، والاشتغال بمنتج النص يشكِّل تحولاً نسبياً، فالتراث حفل بشيء من ذلك، وجاءت على النقيض «نظرية المنهج الشكلي». الذي مرَّ بتحولات وتنقلات «قارية» و«لغوية» و«فكرية»، يستحيل تقصيها، ولكنها مرّت بحالات من الوضوح والاستقرار النسبي، استطاع معها المتابعون أن يتعرفوا على ظواهرها. والمشهد النقدي الحديث تتردد فيه مصطلحات وشخصيات وكتب، تشكِّل مذاهب ونظريات ومناهج وآليات، وتمثل أقصى حد لحمَّى التحول، نسمع ب«سوسير» و«لوي هلمسيلف» و«جاكبسون» و«نعوم تشومسكي» و«لاكان» و«بروب» و«تودوروف» و«دريدا» و«رولان بارت» و«سارتر» و«بيير مورو» و«جاستون باشلار» و«سانت بيف» و«بروست»، و«ماثيو آرنولد» و«ريتشاردز» و«أليوت» و«أدموند ولسون» و«أوستن» و«ويليك». ونسمع بنظريات وتحولات وبعديات وما ورائيات ومترادفات مصطلحية «بنيوية» «حداثة» «ما بعد الحداثة» «ما بعد البنيوية» «السنية» «نصوصية» «تكوينية» «تحويلية» «تفكيكية» «تشريحية» «تقويضية» «شكلانية» «أسلوبية» «شعرية» «نسقية» «سياقية» و«سيمولوجية»، ولعل كتباً كثيرة كانت الأكثر حضوراً وتداولاً، مثل كتب «سارتر» وبخاصة «ما الأدب» و«درجة الصفر في الكتابة» ل«بارت» و« ما هو الفن» ل«تولستوي» و«مبادئ النقد الأدبي» لريتشاردز و«قلعة آكسل» لأدموند ولسون. ولعل «جاكوبسون» الأقدر على بلورة مفهوم «الشعرية» و«الأدبية» فهو القائل:« إن موضوع علم الأدب ليس الآداب، وإنما هو أدبيته» ويعني العناصر التي تجعل من عمل «ما» عملاً أدبياً. وبهذا بدأت التحولات اللسانية بوصفها علماً يهتم بالشعرية. وعن تحولات النقد الغربي خلال القرن العشرين جاء «جان إيف تادييه» ليجملها في كتابه «النقد الأدبي في القرن العشرين» حيث تناول: الشكلانية الروسية. النقد الألماني. نقد «الوعي» و«الخيال». النقد التحليلي النفسي. سوسيولوجية الأدب. اللسانيات السيمبائية «علم العلامات». الشعرية. النقد التكويني. وتحت كل عنوان تحولات كثيرة، لا مجال للاشارة إليها، لأنها تشبه البحر اللجي، ولو أشرنا فقط إلى غنوصية «التفكيكية» لطالت علينا الشقة. والتحول إلى «التفكيكية» كما هي عند «دريدا» ركون إلى الاعتقاد بوجود مدلول متعال، خارج حدود اللغة، وذلك اغراق في العدمية، وقد اتهمت «التفكيكية» بالتدمير والاستفزاز، حتى لقد قال «ملر»: «إن العدمية لقب للتفكيك» فيما يرى غيره أنها قراءة حميمية للنصوص، وتلك حلقة في سلسلة أنماط «قراءة النص» التي يلهث وراءها من حمل المعرفة ومن لم يحملها. 5/2 والتحولات التي طالت المشهد النقدي، قد لا يكون لها أدنى أثر في العملية الابداعية، ومن سلبيات الحركة النقدية تفاوت سرعتها مع الحركة الابداعية، فالتحول النقدي سريع الايقاع، أما التحول الابداعي فبطيء الايقاع، وكما تنفصل المثالية المتعالية عن الواقعية المتدنية، ثم لا يكون أدنى حد من التفاعل، تنفصل تحولات النقد السريعة عن استجابات الابداع، ثم لا يكون تفاعل ولا استفادة. والمتابع الحصيف يستبين الفجوة بين التنظير والتطبيق النقديين، ومحاولة تجسير الفجوة يوقع بعض النقاد في التمحل والادعاء، بحيث يحمِّلون النصوص ما لا تحتمل. والأسوأ من ذلك تطبق آليات النقد الحديث ومناهجه على الشعر العربي القديم، بحيث يكره النقاد النصوص الجاهلية أو العباسية على أن تتسع لدلالات أو تتجلى ببناء أو بشكل يحقق مفاهيم مصطلحية جديدة، وذلك إكراه يكشف عن تمحل لا مكان له، كما فعل «كمال أبو ديب» مع الشعر الجاهلي، وكما قرأ غيره نصوصاً ابداعية قديمة بأنماط قرائية حديثة، تبدت فيها العجائب وفات المندفعين ان شرط القراءة قابلية النص. وفي اطار التحولات الأيديولوجية التعسفية نظر نقاد «المنهج التاريخي» وفق الرؤية «الماركسية» الرؤية «اللانسونية» إلى «الحتمية التاريخية» في العملية الابداعية، ومن ثم امتدت رؤيتهم إلى الحركة النقدية، فالحياة البشرية عندهم مراحل متوالية مرتبطة بالمادة، وهذا اقصاء للمثاليات والغيبيات والفكر الديني في تشكل الابداع، والجبرية التاريخية فرضت تحولات، وطرحت رهانات وأقرت نتائج مسبقة، والنقاد الماركسيون العرب ك«العالم» و«مروه» مارسوا التحولات وفق الرؤية الماركسية، فهم يرون حتمية التطور التاريخي نحو الماركسية. لقد واكب المنهج التاريخي الماركسي منهج آخر تمثّل «بالوجودية» هذه النظرية تربط الابداع بالواقع، وتنظر إلى تحولاته، وقد ركز الوجوديون على محورين: «الحرية» و«المسؤولية». ومن هذين المحورين نفذ الفساد في أرض الأدب: إبداعاً ونقداً، وبدت التحولات غير المسؤولة، فمحور «المسؤولية» لا يعني «المسؤولية» الغيرية، بل يعني المسؤولية «الذاتية» فأنت بوصفك الفردي مسؤول عن نفسك، إذاً أنت المشرع لها، لا سلطة سابقة ولا قائمة و«الحرية» و«المسؤولية» أمدتا الفكر الحداثي بفساد كبير، لما تزل الأمة المسلمة تتجرع نتائجه، ولا تكاد تسيغها، وهذه الترديات الأخلاقية والفكرية والفنية تتوسل ب«الحرية» و«المسؤولية» وفق الرؤية «الوجودية» التي تقمصها الحداثيون، فأوغلوا في الرذيلة والانقطاع. وبتجاوز اشكالية «الأدلجة» وهيمنة فكر المنتج لا المضيف تقوم اشكالية أخرى، وهي ميل البعض إلى «انسانية الفكر» المفضي إلى اللامنتمي، بحيث كان الطريق القاصد إلى «نوبل». 6/2 والنظرية التاريخية بكل مستوياتها أرهص لها ناقدان كبيران هما: د / طه حسين. د/ محمد مندور. ارتبط الأول ب«تين» فيما ارتبط الثاني ب«لانسون» ولكل واحد منهما رؤيته، ولكن نقاداً تابعين انحرفوا بالتاريخية عن مسارها، وأوغلوا في الماركسية والوجودية، بحيث أخذوا من الأولى إلحادها، ومن الثانية غثائيتها وعبثيتها، وجاءت أعمال ابداعية: شعرية وسردية مشتملة على رؤى تلفيقية متعددة، تكشَّف عوارها فيما بعد عند أساطين الحداثة، وتلك تحولات دركية أخلت بالقيم والثوابت، وانفصلت عن المجتمع المنتمي لحضارة مغايرة ومرجعية مغايرة. وفيما بين هذا وذاك أوغل النقاد في «المعرفة النقدية» تحامياً عن الذوقية والانطباعية، ووقعوا في تخشب المعايير، وعلمية النتائج، مما عطّل لغة الفن. والقول بعلمية النقد والإيغال في المعيارية والكم الاحصائي عرّض المشهد النقدي لمآزق كثيرة: مأزق الحيدة بالفن عن فنيته. ومأزق المعرفية التي قد لا تتوفر للناقد. ومأزق تداخل المنظومات المعرفية الثبوتية بالمنظومات الأدبية والتاريخية التحولية. وهي مآزق تعرض لها النقد العربي ظلماً وعدواناً، فالنقد العربي القديم بفنياته وآلياته النحوية والصرفية واللغوية والبلاغية يمتلك تميّزه عن غيره من العلوم. لقد كنا نعايش تحولات داخل النظرية النقدية، ولكننا بفعل التبعية والمسخ وقعنا في استبدالات وتحولات داخل الظاهرة النقدية، وقد بسطت الحديث عن هذه الظاهرة في سلسلة مقالات عن «النقد الثقافي: البديل أو الرديف» والذي نشرت منه حتى الآن ثلاث عشرة حقلة، ولسنا بحاجة إلى استعادة «التقليعات» المخلة بالأهلية. واشكالية المشاهد تستحكم بتدافع الشباب، وتزاحمهم على المستجدات، والتفاني في نشر الأفكار والرؤى الفجة المفتعلة، ثم افتعال المعارك والجدل العنيف العقيم في آن حول قضايا لم تؤصل، ولم تستقر، وملاذ الثائرين على السوائد: اما علم اللغة الحديث أو علم النفس أو الفلسفة أو علم الاجتماع. ولما تزل المشاهد النقدية تتلقى وابلاً من التحولات المذهبية والفنية، فبعد ان خبت ضجة المناهج التاريخية والاجتماعية والفنية، والماركسية والنفسية والواقعية، تلتها «البنيوية» التي أفضت إلى «بعدياتها»، وتحولاتها: كالأسلوبية، والسيميولوجية، والتفكيكية، والشكلية العضوية، والنقد الأسطوري، والنقد الجمالي، ثم جاءت تحولات في التلقي والقراءة والتأويل. وها نحن اليوم أمام «علم النص» و«النقد الثقافي» و«الكتابة» و«الجنائزيات»، وسنظل وراء البروق الخلَّب، وسرابيات الأدعياء، ولن ينقذ الحركة النقدية إلا التأصيل المعرفي والتأسيس لحركة نقدية عربية متفاعلة مع المستجد، وليست مستهلكة له.