يتبارى أعداد من الكتاب العرب؛ أكاديميين وغير أكاديميين، في إبداء آرائهم الداعية بطرق شتى إلى إيقاف المقاومة للاحتلال الصهيوني في فلسطين، والمؤكدة بأن السبيل الوحيد لاستعادة العرب وفي طليعتهم الفلسطينيون حقوقهم هو المفاوضات مع المحتلين. وإذا كان إحسان الظن مقدماً على إساءته بهؤلاء الكتاب؛ مما يعني ألا يقال بأن ما يرددونه ماهو إلي صورة مستنسخة مما يطرحه الصهاينة المحتلون والمتصهينون المؤيدون لهم في بلاد الغرب فإن من الممكن القول بأنه لم يبن على أسس صحيحة. فهم قد بنوا آراءهم على أساسين: الأول: أن إيقاف المقاومة سوف يقنع الغرب، ساسة وشعوباً، أن العرب دعاة سلام؛ وبالتالي سيقف معهم؛ سياسياً، ويؤثر على موقف زعماء إسرائيل، فتقتنع بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها، وتعيد للعرب ما سلبته من حقوقهم. الثاني:إن العرب جربوا أربع حروب مع الصهاينة، فلم ينجحوا في تحرير أرضهم واستعادة حقوقهم؛ وبالتالي فإنه لا أمل في التحرير واستعادة الحقوق عن طريق الحرب. ومع ان الأساسين المذكورين قد يبدوان منطقيين لمن لم يتدبر تاريخ قضية فلسطين بكل أبعادها فإن المتدبر لهذا التاريخ حق التدرب يجد من الصعب الاقتناع بصحة هذين الأساسيين. وسأحاول في هذه الحلقة إيضاح صعوبة الاقتناع بصحة الاساس الأول، وأحاول في الحلقة التالية لها إن شاء الله إيضاح صعوبة الاقتناع بصحة الأساس الثاني. إن الغربيين، ساسة وشعوباً، يعلمون كما يعلم غيرهم من ساسة العالم وشعوبه أن المقاومة ضد المحتل حق من حقوق الشعوب ضمنته الشرائع السماوية كما ضمنته القوانين والأعراف الدولية ويعلمون، أيضاً، أنه لم يتحرر شعب من نير الاحتلال والاستعمار؛ غربيا كان أو شرقيا، بدون مقاومة. حدث هذا في أفريقيا وآسيا ضد الاستعمار الغربي، كما حدث في الصين ضد الاحتلال الياباني. بل حدث في أوروبا نفسها مثل مقاومة الفرنسيين للاحتلال النازي. وبالرغم من تلك الحقيقة التي لا جدال فيها فإن مواقف الساسة الغربيين وفي طليعتهم زعماء الولاياتالمتحدةالأمريكية ذات النفوذ الأعظم في العالم الآن تختلف مع ما يعلمون إذا تعلق الأمر بالاحتلال الصهيوني لفلسطين بالذات. إنه يوجد بين أفراد الشعوب الغربية أصحاب ضمائر حية يعارضون هذا الاحتلال ويدينون جرائمه، ويوجد ملايين تخفى عنهم الحقائق وسائل الإعلام الصهيونية، لكن من في أيديهم مقاليد الأمور، تشريعاً وتنفيذاً، من أولئك الساسة لم يبد منهم ما يشير إلى اتصافهم بالعدل والإنصاف في الصراع الذي يعرف كل واحد منهم أنه صراع بين باطل صهيوني وحق عربي. وما أبدوه من دعم ومساندة للصهاينة؛ سياسياً ومالياً وعكسرياً، منذ بداية الاحتلال الصهيوني لفلسطين واضح كل الوضوح. ولقد بلغ التحيز الفاضح من المتصهينين الغربيين للصهاينة المحتلين لأرض فلسطين حدا غير معقول. ومن هذا أن تشيني، نائب الرئيس الأمريكي، الذي سبق أن برر وأيد جرائم شارون وزمرته التي منها اغتيال الشخصيات الفلسطينية، قد اشترك في الاجتماع الوزاري الأمني للكيان الصهيوني. ولم يكتف بذلك وهو غريب في حد ذاته بل دفعه تحيزه الى اتخاذ موقف ضد عرفات أشد تصلباً وصلفاً من بعض الصهاينة المجتمعين أنفسهم حتى قالوا: «إننا لم نشعر بغياب ليبرمان وهو في مقدمة المتطرفين اليمينيين عن جلسة المجلس «الشرق الأوسط 20/3/2002م». ولقد اتهم عدد من زعماء الغرب السياسيين عرفات بالإرهاب رغم ما أبداه في السنوات الأخيرة بالذات من مواقف يعدُّها المستغربون، هوى وإعجاباً، مرونة، ويعدُّها المتمسكون بثوابت الأمة تنازلات عن بعض هذه الثوابت. أفبعد هذا كلِّه يؤمل في أن يقف الساسة الغربيون موقفا عادلاً، أو يساهموا إسهاماً فعالاً في جعل المحتل الصهيوني يقبل حلاً منصفا؟ إن بذل محاولات إعلامية ودبلوماسية لإيضاح الحق العربي أمام شعوب الغرب، التي يسيطر على وسائل إعلامها الصهانية وأعوانهم بدرجة كبيرة، أمر لا اعتراض عليه لأنه إن لم ينفع فلن يضر. لكن ما ينبغي التركيز عليه مع بذل تلك المحاولات ليفكر الساسة الغربيون جديا باتخاذ مواقف أقل تحيزا للباطل الصهيوني يتلخص فيما يأتي: 1 ان يؤمن العرب؛ قادة وشعوباً، أن الحل العادل لن يأتي إلا بارتفاعهم إلى مستوى الأحداث؛ تفكيرا وتخطيطا وتنفيذا. وهذا الأمر لا يمكن أن يحدث ما لم يصلح الجميع أوضاعهم بحيث توجد ثقة بين الحكام والمحكومين أساسها الإخلاص والاحترام. ولو حدث هذا وما ذلك على الله بعزيز فإنه سجبر كل من يقف ضدهم الآن على احترامهم. 2 أن يدرك العرب بأن المصالح الاقتصادية من أهم العوامل المحركة للمواقف السياسية في الغرب المالك لصنع القرار في المحافل الدولية، إن لم تكن أهمها. وما لم يدرك الساسة الغربيون بأن مصالحهم في العالم العربي ومن ورائه العالم الإسلامي قد تتضرر باستمرارهم على اتخاذ موقف متحيز للباطل الصهيوني فإنهم لن يشعروا بأن هناك داعياً لتغيير ذلك الموقف المتحيز. 3 أن يفهم العرب فهماً عميقا دروس التاريخ التي تبرهن على أن المقاومة المسلحة للمحتل أنجع وسيلة لإنهاء الاحتلال، وأن كل حركة تحرير لم تلق السلاح لكي تفاوض؛ بل استمرت في مقاومتها مع استمرار المفاوضات بينها وبين أعدائها المحتلين، وأن جعل الحل مقصوراً على التفاوض تفريط لن يؤدي إلا إلى قبولٍ بالشروط التي يمليها العدو. وإني لأعتقد اعتقادا جازماً بأن الأمة العربية ومن ورائها أمة الإسلام لن ترضى بمثل هذه الشروط مهما عظمت التضحيات وطال زمن الكفاح. إذا تبيَّن هذا فإن المتأمل في تاريخ القضية الفلسطينية منذ أكثر من نصف قرن يجد أن من قادة العرب المخلصين من حاولوا إقناع زعماء الغرب؛ وبخاصة ساسة أمريكا وبريطانيا، أن العرب دعاة سلام، وأنهم لا يريدون أكثر من إنصاف المظلوم المعتدى عليه من الظالم المعتدي. وكان في طليعة أولئك القادة الملك عبدالعزيز، رحمه الله ورسائله إلى الساسة الأمريكيين والبريطانيين موثقة معروفة. ولقد برهن قادة العرب على حبهم للسلام، وحرصهم على أن يسود في منطقتهم، بمواقف عديدة بينها المشاركة في مؤتمر مدريد، واتفاق الزعامة الفلسطينية، برئاسة عرفات، مع قادة الدولة الصهيونية في أوسلو. لكن هل أدت قرارات مؤتمر مدريد إلى تحرير الأراضي العربية المحتلة سنة 1967م؟ وهل نفذ الصهاينة ما اتفق عليه في أوسلو على ما فيه من تنازلات فلسطينية؟ وهل وقف الساسة الغربيون وفي طليعتهم الأمريكيون أصحاب النفوذ الأعظم في العالم مع الحق وعملوا على تنفيذ ما تُوصِّل إليه في مدريدوأوسلو؟ لا أظن جادا يمكن أن يقول إن إجابة أي من هذه الأسئلة بالإيجاب بل إن الساسة الغربيين كانوا وما زالوا يحاولون فرض مزيد من التنازلات العربية والفلسطينية لصالح الكيان الصهيوني. ولعل خير هدية للذين يحلمون باتخاذ الساسة الغربيين موقفا عادلا هو الموقف الذي اتخذوه حيال رد الزعامة الصهيونية العملي على مبادرة مؤتمر بيروت، التي لم يجف مدادها بعد، المتمثل باجتياح رام الله وغيرها من المدن الفلسطينيةالمحتلة. ولمن شاء أن يحلم بما يريد، لكنه سوف يستيقظ إن كان قد بقي لديه شعور على صدى كلمات الشهيدة الشابة، آيات الأخرس، التي كان استشهادها رمزا لفداء الشعب الفلسطيني العظيم، وكانت كلماتها أبلغ قصيدة رثاء لكرامة من يدعون الكرامة من العرب المغاوير.