يعد الكتاب وجهاً مشرقاً من أوجه الحضارة الإنسانية ورقيها وبحثها عما لم تكن تعرفه مما يزيد انتفاعها بكل جديد، عبر عنه المتخصصون بأنه ظاهرة حضارية حديثة نسبياً، له جذوره الضاربة في أعماق تراث الإنسان، والحقيقة التي يجب ان يعيها كل محب لنفسه ومجتمعه وأمته، هي ان تاريخ الكتاب والكتب هو المرآة الحقيقية التي تنعكس عليها صورة تاريخ المعرفة والعلم والحضارة لكل أمة بأوسع معانيها والكتاب في كل أمة من الأمم هو الوعاء الأصيل للمعرفة المتاحة لأبناء تلك الأمة، وقد يرى المطالع في كتابات بعض من تصدوا لذلك قول حكماء الناس قديماً، لا يتبدل بتبدل الزمان ولا يتغير بتعاقب العصور، وهو: ان الكتاب خير صديق للإنسان، فلقد كان الكتاب وما زال الرفيق الأمين لمن يبتغي العلم وينشد الحقيقة ويتوخى الفائدة، «خزائن الكتب القديمة في العراق» لكوركيس عواد ص/5، والعجب انك إذا تتبعت تاريخ أمتنا الإسلامية المجيد، رأيت علوها وعزها وذلها وتقهقرها حسب ارتباطها وتشجيعها للكتاب وما يحويه من مضامين سامية، ألا ترى ان وجه الأمة اشرق وتلألأ نوره بعد ان جاء الإسلام، ونور الله قلوب بعض عباده بالقرآن العظيم، وهو الكتاب الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان دائماً ما يسمي النصاري فيه إذا أراد ان يصفهم بأحسن الأوصاف: بأهل الكتاب، ولم يبلغ الكتاب التراثي وغيره صورته الحالية إلا عبر سلسلة من التطورات المتلاحقة، التي واكبت ظروفها الاقتصادية والحضارية والاجتماعية والتكنولوجية السائدة في كل عصر فكان الكتاب بذلك يمثل نموذجاً حياً واضحاً للإنسان نفسه، ويحكي تاريخه العقلي والفكري المتنامي عبر العصور، فقد أخذ الكتاب مراحل متعددة في شكله ومضمونه طبقاً للظروف المذكورة آنفاً، حيث كان القراء ومحبو العلم والاطلاع يجلبون ما أرادوا من الكتب ممن كتبوها على الطين والحجر! ثم أخذوا بمرور الزمن يتخلصون شيئاً فشيئاً من حمل أعباء تلك الكتب الثقيلة، فاستعاضوا عن الطين والحجر بمواد أخف منهما وزناً وأصغر حجما وكان من أهم ما اتخذوه لهذا: أوراق البردى، وجلود الحيوانات ولا سيما ما كان يعرف منها بالرَق، واستمر ذلك زمنا غير يسير، حتى اخترعوا الكاغَد «الورق» وهي ككل صناعات البشر، بدأت بوجه بدائي ثم أخذت في التحسن والتقدم إلى الأمام خطوة فخطوة فأصبحنا نرى صنوف الورق الفاخر الصقيل الذي لم يكن أسلافنا الأقدمون يحلمون به!، إلى ان انتشر فن الطباعة في أنحاء المعمورة كافة فأدى ذلك تلقائياً إلى ازدياد نسخ الكتب وتوفرها في أيدي طبقات الناس والمجتمعات المختلفة في مقابل ثمن زهيد يبتاعونها به، حيث لا يعد شيئاً مذكوراً إذا قيس بأثمان الكتب المخطوطة التي كان الناس قديماً يدفعونها، فالورق آنذاك كان مادة ثمينة عزيزة المنال، وأجرة النسخ وهو عمل صعب كانت تقتضي نفقة كثيرة لا يقوم بها إلا من أوتي حظاً حسنا من الثروة، ومع هذا فقد كان البعض ينفق على الكتب بسخاء، انظر إلى ما ذكره أبو نعيم الاصفهاني في «تاريخ أصفهان» ص/85: ان أبا جعفر أحمد المديني المتوفى سنة 278ه جمع كتبا كثيرة أنفق عليها نحو من ثلاثمائة ألف درهم، ولك ان تستقصي السير الحافلة بمثل ذلك مما لا يوجد بين ثنايا هذه الأسطر مكان لسرده، وعوداً إلى حركة الوراقين وانتشار مصانع الورق في جميع أمصار الدول الإسلامية وانتشار المئات من دكاكين الوراقين فقد عني أولئك القوم عناية خاصة جداً بجمع الكتب واحتوائها ونسخها وتجليدها ووقفها واختزانها في خزائن خاصة لحفظها والعناية بها مما سيأتي بعض منه حتى غدت تلك الأعمال فنونا رائعة من أعرق الأعمال الفكرية الساطعة في سماء تاريخ العلم والمعرفة، حيث كان ذلك كله نتيجة فكرية لزخم فكري هائل انتشرت بسببه المكتبات ذات الوارد العام من الناس وانظر مثلاً إلى العصر العباسي الذي ازدهرت فيه حياة المكتبات في قلوب عامة الناس وتعددت صنوفها، فكان منها مكتبات الخلافة التي كان من أشهرها المكتبة الكبرى لسيف الدولة الحمداني في حلب، ومكتبة عضد الدولة البويهي الذي أسس في شيراز مقرّ حُكمِه دار كتب فخمة، وجمع فيها من الكتب ما ذكروا انه ليس له نظير، ويذكر بعض المؤلفين بصدد ذلك انه جعل عليها وكيلاً وخازناً ومشرفاً من عدول البلد للقيمة المعنوية لما استؤمنوا عليه، ولمكانة ذلك في نفسه، ولم يبق كتاب صُنِّف إلى وقته من أنواع العلوم كلها إلا حصله، ولك ان ترى ذلك لدى الفاطميين الذين اتخذوا ذلك أداة لنشر مبادئهم بالتعليم وبث الأفكار، وانظر في تاريخ أهل الأندلس حيث صار اهتمامهم بذلك سمة بارزة في سيرهم، فأغلب حكام الأندلس كانوا شغوفين بالعلم والأدب مهتمين بالمعرفة والثقافة فأسسوا المكتبات الكثيرة، فقد ذكر المقري في «نفح الطيب» «1/394» عن الحكم الثاني الذي أنشأ مكتبة عظيمة في قرطبة: انه جمع من الكتب ما لا يحدّ ولا يوصف كثرة ونفاسة، حتى قيل انها كانت اربعمائة ألف مجلد، وانهم لما نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها!، وكان يستجلب المصنفات من الاقاليم والنواحي باذلاً فيها ما أمكنه من الأموال، حتى ضاقت عنها خزائنه، انتهى النقل عن المقري، وانتشرت المكتبات الخاصة في جميع الأقطار وحرص الوزراء والموسرون على اقتناء مجموعة كبيرة من الكتب من أموالهم الخاصة وبفتحها للوارد إليها من الباحثين والقراء والعلماء والأصدقاء، وكان من أشهر هؤلاء وأبرزهم: علي بن يحيى المنجم، وخالد بن يزيد بن معاوية، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن اسحاق القاضي، وابن العميد وزير البويهيين، وابن مسكويه، وغيرهم ممن اشرقت الدنيا بحبهم للكتب وما تحويه من علوم ومعارف، ولم يقلّ دور العلماء والأدباء في ذلك طمعاً لأنفسهم، فهذا عمرو بن بحر الجاحظ الذي كان من أكبر عشاق الكتب المولعين بها ولعاً شديداً في القرن الثالث الهجري، حكي انه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر بها، والجدير بالذكر ان ذلك النشاط العلمي الضخم لم يقتصر على الرجال فقط، فلقد اختلفت نساؤهم عما كان عليه نساء العصور الأخرى، وكثرت المتعلمات والمتخصصات، حتى انه أجري إحصاء في أحياء قرطبة التي تبلغ واحداً وعشرين حياً أيام ازدهار الخلافة الاندلسية، فوجد ان مائة وسبعين امرأة يُجِدْنَ الخط الكوفي، ويكتبن به في المصاحف، ومنهن امرأة اسمها عائشة القرطبية المتوفاة سنة 400ه إحدى كاتبات المصاحف التي لديها خزانة كبيرة من الكتب «لمحات في المكتبة والبحث والمصادر» محمد الخطيب/ 45، ولك ان تتصور مدى الحياة الفكرية التي عاشها أهل تلك العصور إذا أضفت إلى ذلك انتشار المكتبات العامة «المخصصة» لارتياد عامة الناس، كالمركز الثقافي الهام ببغداد الذي أسسه أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي سنة 383ه وسماها «دار العلم»، وكذلك قُل ما لمكتبات المدارس، والمكتبات الأكاديمية إن صحت التسمية المتخصصة للبحث والدرس، وكذلك مكتبات الخانقاوات والتكايا ومكتبات الرباطات، وهي الثكنة العسكرية التي كان المسلمون يقيمونها على الحدود لمراقبة الثغور والدفاع عن الحدود والتخوم، التي تبلغ العشرات من الرباطات، وكذلك مكتبات المشافي، وهاتان الأخيرتان تبينان تماماً مدى الأفق الفكري بعيد المدى الذي وصل إليه الاهتمام بالعلوم والمعارف وأهميتها للإنسان لدى القوم، وذكر ان من أوائل المهتمين بمكتبات المشافي هو الوليد بن عبدالملك «المواعظ والاعتبار» للمقريزي ص/405، ومن أشهر المشافي التي ضمت مكتبات عامرة ضخمة وخصوصاً بالكتب الطبية: مشفى عضد الدولة البويهي في بغداد، والمشفى النوري في دمشق، ومشفى قلاوون في القاهرة، والتي قيل ان عدد كتبها بلغ مائة ألف مجلد، اخذت أكثرها من دار الحكمة «المكتبات في الإسلام» ص/146، وهكذا نرى مما سبق ان المكتبات كانت شائعة في جميع أرجاء العالم الإسلامي بوجه الخصوص، وانها وجدت لدى العرب والمسلمين بمختلف أنواعها، كانت غنية في محتوياتها، وتقدم شتى ألوان المعرفة للقراء، والخدمات لمختلف الباحثين، ولكن مع مضي الزمن دب الضعف في بعض أجزاء الدولة الإسلامية، وأخذت المكتبات بطبيعة الحال بالتقهقر، وصار حالها كحال الحيران الذي لا يدري ما هو الهدف من وجوده!، نتيجة لعوامل التفكك والتمزق التي أخذت تنهش في جسد الدولة الإسلامية، بسبب الفتن والمشكلات الداخلية، والمحن الخارجية، كالغزوات الصليبية المتتابعة التي ألحقت الدمار والخراب بمعالم تلك الحضارة المسلوبة التي ما عرف التاريخ لها نظيراً، كما ان التتار لم يقلوا عنهم وحشية، فقد كان سقوط بغداد سنة 656ه نذير إبادة للتراث، ولك ان تتصور ذلك متمثلاً فيما ذكره المؤرخون من ان مياه دجلة جرت سوداء من كثرة ما القي فيها من الكتب والصحائف! «مصادر التراث العربي» ص/24 لعمر دقاق، وواجه تراثنا الحبيب محنة فظيعة في بلاد الأندلس عندما احرقت كثير من المكتبات فيها، ومن ضمنها مكتبات غرناطة التي سقطت سنة 912ه التي يفوق عدد المخطوطات التي احرقت فيها وحدها كل تصور، وأكثر الباحثين حذراً.. يقدرونها بثمانين ألفاً «دراسة في مصادر الأدب» الطاهر أحمد مكي ص/95، ولكن بقاء ذلك الحال هو من المحال في تاريخ أمة كتبت لها الخيرية، فمع كل هذه المصائب وما لم تجده أيها القارئ مسطوراً هنا، فقد بقيت لنا ثروة علمية ضخمة من المحفوظات الإسلامية، تتحدث عما كان عليه المسلمون والعرب من تقدم علمي ونضج فكري، وشاهد ذلك وجود كثير من المخطوطات الإسلامية عامرة لكثير من المكتبات العالمية الشهيرة، وسخّر الله جلّ شأنه للعلم والمعرفة أهلاً لها جادوا بأنفسهم وما يملكون لإحياء دور المكتبات وجلب ما سُلب منها وَوَقْفِها، إيماناً منهم ان ذلك يعتبر بصمة ظاهرة الوضوح للعيان تشع في ركب الأمم وتزدان به مدخراتها ويفخر لها أولو الألباب، وما الخزانة التيمورية لصاحبها أحمد تيمور باشا المتوفى سنة 1350ه والخزانة الزكية لأحمد زكي باشا المتوفى سنة 1354ه اللتان تحويان نفائس الكتب واستنارت بهما دار الكتب المصرية اليوم إلا مثال فخر واعتزاز من واقعنا المعاصر، تبعها ولحق بركبها مكتبات أخرى شقت سباق الزمن لتعيد ماضي أجدادها التليد، وان المطالع والمرتاد للمكتبات الكبرى في بلادنا حرسها الله لينتابه ذلك الشعور بالفخر والاعتزاز، وخصوصاً إذا رأى النبتة الفتية لإحياء الاهتمام بنوع آخر من المكتبات كان له الأولوية في كتب العلماء والمؤرخين آثرتُ ذكره هنا لعامل تأثيره الظاهر فينا نحن المسلمين عموماً، ومصاحبته لأماكن مقدسة في ديننا أسرََعَتْ بجعل تلك المكتبات هي الأكثر تأثيراً، وهي مكتبات المساجد والجوامع، حيث كانت إضافة لكونها أماكن عبادة، مراكز ثقافية يلتقي فيها المسلمون، وأماكن للدراسة ينهلون منها العلم والمعرفة، ولذلك فهي كما أسلفت ظهرت منذ أقدم عصور الإسلام، وجرت العادة ان يودع الناس عدداً من نسخ القرآن الكريم وغيره من الكتب الدينية كالحديث والفقه، كوقف من أجل المطالعين والمصلين واعتاد الناس بدافع ذاتي على اهداء المساجد مكتباتهم الخاصة كوقف منفرد في خزانة باسمهم وكان لهذه الخزائن والمكتبات مشرفون يقومون على خدمتها وخدمة مرتاديها وأغلبهم من العلماء. ويبدو للمطالع ان هذا كان أمراً شائعاً في تلك العصور حتى ان بعض الخلفاء والأمراء والعلماء والأثرياء كانوا يوقفون أشياء كثيرة على المساجد ومن ذلك الكتب، فقد ذكر المقريزي ان الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي قد أنزل إلى الجامع العتيق ألفاً ومائتين وثمانية وتسعين مصحفاً ما بين ختمات وربعات، فيها ما هو مكتوب كله بالذهب ومكن الناس من القراءة فيه، «المواعظ والاعتبار» للمقريزي «1/250»، ومما تجدر الإشارة إليه ان العلماء لم يكونوا يدرِّسون في تلك المساجد إلا بوجود تلك المراجع الدينية ويعتبرونها دروساً تطبيقية ترسيخاً لمفهومها ونشرها حيث كانت جميع الفنون تدرس فيها بدون استثناء عدا الطب، «المكتبات في الإسلام» للدكتور محمد حمادة، ص/83، وكان الباحثون إذا تطرقوا لمثل هذا النوع الزاهر من المكتبات لابد ان يبدأوا بمكتبة الجامع الأموي في دمشق، حيث بدأ ظهور خزائن الكتب فيه على استحياء من نهاية القرن الأول الهجري، وقد ظلت خزائن الكتب في ازدياد مستمر وتنوع فعال وازدهرت تلك الخزائن بعد ان تم الاعتراف بوقف الكتب كعمل يتفق مع مبادئ الوقف الشرعية، وخاصة في هذا النوع من المكتبات، وقد قدرت أعداد الخزائن التي وجدت في الجامع الأموي بنحو عشرين خزانة، أوقفت في فترات مختلفة، ولك ان تتصور جزءاً من ذلك في جامع احمد بن طولون في مصر، والجامع الحاكمي الذي بناه الحاكم بأمر الله الذي أوقفت عليه مجموعات كبيرة من المصاحف خاصة، ولعله من نافلة القول التأكيد على ان الجامع الأزهر الذي بني مع القاهرة كانت به خزانات كتب تقلبت بها الأحوال إلى أن وصلت معه إلينا في الوقت الحاضر، وإذا يممنا شطر المغرب العربي فسوف نجد ان كثيراً من مساجده الشهيرة كانت بها خزائن للكتب، وعلى سبيل المثال جامع الزيتونة في تونس، الذي كانت به مكتبة عظيمة نمت على مر السنين عن طريق الوقف ومن بين من وقفوا عليها الأمير الحفصي المتوفى سنة 796ه وكانت مشتملة على أمهات الدواوين وَوَقفها على طلبة علم ينتفعون بالنظر بما فيها، «المكتبات والكتب في العصور الوسطى» ص/356»، وجامع القيروان الذي تعتبر مكتبته من أقدم مكتبات المساجد في العالم الإسلامي إذ ترجع إلى منتصف القرن الثالث الهجري، وكذا قل في جامع القرويين في فاس وهو من أجلّ الجوامع ذات المكتبات القيمة الذي نال اهتمام جميع طبقات المجتمع، ومن أشهر من أوقفوا فيها العلامة ابن خلدون الذي أوقف كتابه الشهير فيها، تلك مجرد نماذج مرت بنا سريعاً وطافت بناظرك أيها القارئ لتنسج لك أساساً لكمٍ هائل بلغ لدى العلماء آلاف الصفحات عن تاريخ الكتب وبداية انتشار المكتبات وبخصوص مكتبات المساجد والجوامع، وان مما حدا بي للكتابة في هذا الموضوع الشيق الذي لا يكاد المطالع فيه يمل أو يكل ما يسر خاطر كل غيور على ما حباه الله تعالى هذه الأمة من العلم والخيرية المتمثل في نموذج رائع في محتواه ومضمونه وهو إنشاء مكتبة علمية رُسِمَ لها ان تخطو تلك الخطى وتحذو تلك السيرة في جامع شيخ الإسلام ابن تيمية بالرياض، وهي مكتبة الإمام ابن القيم رحمه الله، كانت تلك التسمية تيمناً بالمسمى، أنشئت هذه المكتبة التابعة للجامع المذكور إيماناً بدور تلك المكتبات، وما كانت تقوم به من دور فعال في جذب جمهور القراء والمطالعين وأصحاب الحاجات العلمية لبحث مسألة أو إعداد رسالة، ونشر الوعي الفكري والمرجعية العلمية المتينة والأصيلة، حيث صدر أمر إنشائها بناء على طلب إمام الجامع، في الخامس عشر من شهر رمضان المبارك لعام ثمانية عشر وأربعمائة وألف للهجرة، بتعميد من وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وهي الجهة الرسمية المشرفة على المكتبة، وتقوم المكتبة المباركة بأنشطتها على بذل الواقفين وأهل اليسار من الداعمين جزاهم الله كل خير، وتسمو همة القائمين على هذه المكتبة إلى جعلها في مصاف المكتبات التي سجل لها اسهام مشع في سماء العلوم الإسلامية وما يخدمها من علوم أخرى وعلوم الآلة، حيث خصصت مساحة كبيرة منذ ذلك الحين تابعة للجامع لوضع المكتبة فيه، وتم وضع البنية التحتية للمكتبة وما تتطلبه من أمور أولية وإدارية، ثم شحذت الهمم وبذلت الجهود لتكوين فريق خاص بالتزويد اليومي من كل ما يجد في ساحة المكتبات التجارية أو تطبعه هنا أو هناك، وتكررت الخطى للمعارض الدولية المشهورة للكتاب بشكل سنوي، كمعرض القاهرة الدولي، ومعرض الشارقة، وأم القرى، ناهيك عن المعارض التي تقام في مدينة الرياض، مما جعل المكتبة تميزت بقصب السبق في احتواء الجديد أولاً بأول، وهذا مما شهد به أولو الاختصاص ولله الحمد، وأتاح للمكتبة أيضاً اقتناء مجموعة لا يُستهان بها من نوادر الكتب التي نالت اعجاب العلماء والمتخصصين، وكان مبدأ التزويد في هذه المكتبة قائما على جمع كل ما تصله يد الاستطاعة من جميع المراجع ونوادر المصادر وقيم البحوث، حتى لا يكاد الباحث يقصد المكتبة لبحث جزئية صغيرة من العلم إلا وجد لها في المكتبة عدة مراجع ولله الحمد، ويشرف على المكتبة هيئة إدارية تتابع سير تطورها ولحوقها بالركب المأمول لها، حيث تكونت عدة لجان تحت إشراف عام من إمام الجامع، ولك ان تتصور أيها القارئ الدور الذي تُعورِف عليه من طبيعة عمل تلك اللجان من مسمياتها إذا خدمت به المكتبة، فهناك لجنة للشؤون الإدارية، ولجنة لشؤون الحاسب الآلي، ولجنة للشؤون العلمية، ولجنة لعلاقات المكتبة العامة، وكل عضو فيها رسم لنفسه ان يبذل قصارى جهده للوصول إلى ما ترمي إليه همة الجميع، والقائمون على المكتبة حريصون كل الحرص على إحياء كل العادات العلمية التي كانت آنذاك لدى الأوائل من أهلها، وهناك قسم خاص لتجليد التالف وما غلافه جدير بالحفاظ عليه ليحال لقسم التجليد الفاخر، ومن ثم كتابة اسم المكتبة منحوتاً على الجلد الخارجي حفاظاً عليه، والمكتبة في سبيل حماية مقتنياتها لا تزاول نظام الاعارة لما فيه في الغالب من قصر الكتاب على باحث واحد مدة أطول، وقد يعرضه ذلك لخطر الفقد، وقد عُيِّن للمكتبة أمين متخصص في العلوم الشرعية أكاديميٌ متفرغ لخدمة الباحثين والمرتادين بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وتصنيف الكتب بشكل مباشر، بحيث لا يبيت كتاب في الغالب إلا وقد صنف وأخذ مكانه على الأرفف، وله مساعد يعينه على ذلك، وقد وفر القائمون على هذه المكتبة أيضاً أجهزة للحاسب الآلي للرقي بمستوى الخدمات مما يتيح للباحث الوصول إلى ما يريد بأوجز وقت ممكن، حيث وضع جهاز يحوي جميع أسماء الكتب الموجودة بالمكتبة بكامل معلوماتها ببرنامج خاص، ليتمكن الباحث للوصول إلى مكانه في المكتبة بأي معلومة في ذهنه عن ذلك المرجع، وجهاز آخر خصص لاستعمال البرامج الحاسوبية العلمية في مختلف الفنون، وجهاز ثالث أُريد به إكمال عقود اللؤلؤ المنثور بطرفيه بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ولاهتمام القائمين على المكتبة والباحثين بما جد في سوق الكتاب، فقد خُصص مكان مهيأ في مدخل المكتبة لوضع كل جديد من الكتب، حتى يتم على صدوره شهر من الزمان أو ما قاربه ليُتعرف عليه، وقد درج القائمون على المكتبة المذكورة إلى طريقة التصنيف الموضوعي للكتب وأخذ كل فن أرقاماً معينة ألصقت بكعب الكتاب، كما هو الدارج وبلون مميز عن الفن الآخر، وهكذا في كل فن لما في ذلك من تقدير رأته إدارة المكتبة لخصوصية كل فن وترتيبه، وقد حوت المكتبة حتى هذا التاريخ ما يزيد على اثنين وعشرين ألف عنوان، وأكثر من خمسين ألف كتابٍ صارت تجلب من الباحثين سواء أصحاب الرسائل الأكاديمية العالية أو الطلاب أو المطالعين ما يزيد على عشرة آلاف مرتاد سنوياً حسب ما يحكيه سجل الرواد بالمكتبة، وقد حظيت المكتبة بإعجاب مجموعة من البارزين ومحبي التراث والعلماء، وكان من أبرزهم صاحب المعالي وزير الشؤون الإسلامية الموقر حفظه الله الذي قام بزيارة المكتبة مرتين. وقد خصص القائمون على المكتبة قسما مستقلاً، لعله من أبرز ما يميز مكتبة الإمام ابن القيم بالرياض، وهو قسم الاطلاع المحدود، الذي أخذ معناه من مدلول اسمه وبلغ عدد عناوينه «1389» عنواناً، ويحوي كل ما أمكن جمعه من المصادر التي ألفها أصحاب تلك الفرق والملل المنحرفة في تقرير مذاهبهم وأفكارهم مما لا يجوز شرعاً وضعه تحت الاطلاع العام، وقد قدم هذا القسم خدمة جليلة لكبار الباحثين من أصحاب رسائل الماجستير والدكتوراه الذين زاد عددهم على عشرين باحثاً، أو طلاب العلم المتمكنين، أو المرتاد والزائر من العلماء، ممن خصص بحثه في الرد على تلك الفرقة أو هذه الملة، وقد ظهرت فائدته جلية ولله الحمد، ومن الخدمات الأخرى التي ما فتئت المكتبة على تقدمها لخدمة جمهور المرتادين هو الاستجابة لكثرة الطلبات والإلحاح من العنصر النسائي الذي قد يوجد منه مجموعة كبيرة في الكليات الشرعية واللغوية وما يخدمها لتخصيص قسم مستقل بالمكتبة للنساء، لسد الفراغ العلمي بين نساء المجتمع ولأمور أخرى يصعب سردها، وبعد دراسة فاحصة لفائدة ذلك وجدواه تمت الموافقة عليه من مجلس إدارة المكتبة، وبدأ الإعداد لنواة هذا القسم في المبنى المجاور للجامع بيت الإمام وقد طرقت المكتبة باباً آخر من أهدافها منذ الآن وهو شحذ الهمة لإصدار ما يتمكن منه من كنوز التراث المخطوط بالاتفاق مع محققيه ومعديه من العلماء والمتخصصين، حيث صدر حتى هذا اليوم كتابان تراثيان باسم: سلسلة إصدارات مكتبة الإمام ابن القيم، والمكتبة تحظى بزيارات دورية متكررة من عدد متزايد من مدارس المرحلتين المتوسطة والثانوية للاطلاع على كل ما تحويه المكتبة من خدمات يمكن تقديمها لهم، وما ينال اعجابك أيها القارئ الكريم هو قيام بعض أساتذة الجامعات بالمجيء بطلابهم في أوقات المحاضرات للمكتبة لإلقاء المحاضرة تطبيقاً فيها مما يدل على وفرة المراجع وترتيبها، وقد ضربت مكتبة الإمام ابن القيم أروع الأمثلة في نظري بنقل كل هذه الأنشطة العلمية المتطورة إلى شتى أنحاء العالم، وكل محب للمعرفة، وذلك بإنشاء موقع على شبكة المعلومات «الإنترنت» للمكتبة، يحوي جميع ما تقدمه المكتبة لزوارها من خدمات وهو مرتبط بموقع جامع شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تشرف إدارته على هذه المكتبة وعنوانه «www.taimiah.org» وتحتفظ المكتبة بسجل حافل للزيارات حظي بتدوين أكثر من خمسين عالماً ومتخصصاً في علم المكتبات وكبار الزوار وعلى رأس هرم هذه القائمة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ مفتي عام المملكة حفظه الله وفضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن جبرين، والعالم الجليل الشيخ محمد السبيل عضو هيئة كبار العلماء وخطيب المسجد الحرام، وصاحب المعالي الشيخ الدكتور صالح بن حميد رئيس مجلس الشورى، وصاحب السمو الملكي الأمير سعود بن فهد بن عبدالعزيز حفظهم الله ومن هم على المستوى الرفيع من أمثال هؤلاء في العلم أو محبة العلماء، والمتابع لسيرة العمل في المكتبة وما ترمي إليه همة القائمين عليها نحسبهم كذلك ليتفاءل بخير عظيم بزغ نوره في بلاد الحرمين، ومهبط الوحي، يساهم بشكل كبير وفعال لإعادة الريادة الفكرية السليمة، ذات النهج الأصيل لهذه الأمة التي تختزن وراءها طاقات وهمماً عالية، أبصارها شاخصة للسماء.. إذاً.. فمكتبة الإمام ابن القيم بالرياض مثال يحتذى، يتمنى كل غيور من كل موسر ان يدعم مسيرتها بكل ما يملك على مدى ما يتصوره فكره وتأمله عن قدر الخدمات التي تقوم بها المكتبة، وما هي الخطط المرسومة لها في الأيام القادمة، وليعتبر ذلك دعماً لمسيرة الحضارة العلمية المسلوبة لإعادتها للمكانة التي كانت عليها عندما كانت تزدان بها بلاد المسلمين.